غادرت البلاد مؤخرا د. روزاليند مارسدن سفيرة المملكة المتحدة لدى السودان، بعد ان امضت ثلاث سنوات في خدمة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. لعل اكثر ما ميزت فترة وجودها في السودان ان العلاقات بين البلدين ظلت في حالة من الاستقرار والنمو في مجالات مختلفة بما في ذلك قضايا السلام وتسوية النزاعات الداخلية، ولكنها اضافت الى ذلك سيادة روح التواصل بين السفارة والمجتمع السوداني العريض في المجالات الثقافية والتي طالما فتحت الآفاق امام مبادرات اجتماعية وتنموية دعما وتعضيدا لروح السلام القابل للاستدامة وترفيعا للعلاقات الانسانية والحفاظ عليها في اوقات الشدة والازمات. كان ذلك مساء الأربعاء الثاني عشر من مايو الجاري، عندما دعت جمعية الصداقة السودانية البريطانية لحفل عشاء بمنزل رئيس الجمعية ب. قاسم بدري بام درمان تكريما ووداعا للسفيرة البريطانية. كان الحفل رائعا وبسيطا وقد ظل آل بدري يخدمون الحضور ويساعدونهم في التواصل مع بعضهم بعضا، وقد كان معظم الحضور اعضاء في الجمعية، فيما شرف الحفل رموز اجتماعية ام درمانية لعل من ابرزها السيد احمد المهدي اميز الاحياء من ابناء الامام الراحل عبد الرحمن المهدي. مما زاد الحفل حميمية الاغنيات الامدرمانية العتيقة والدافئة معا والتي رددتها طالبات من جامعة الاحفاد، ذلك عدا الهدايا النوعية والمميزة التي قدمتها الجمعية والافراد الذين طالما شجعوا د. روزاليند أن تظل سفيرة شعبية لبلادها اثناء وجودها في السودان. من خلال متابعتي لفقرات الحفل، عادت بي الذاكرة الى الايام الاولى من وصول السفيرة الى الخرطوم وقد دعتنا كبعض من رموز الصفوة السودانية من دارفور ومن منتسبي المجتمع المدني، وكانت تبدو واضحة القلق على الاحوال الانسانية في الاقليم، وتلح على بحث احتمالات نجاح العملية السلمية لدارفور.. كانت رؤ ية المجموعة يومئذ وما تزال ان السلام قضية ملحة لدارفور ولا مناص لبلوغه من تشجيع الاطراف للجلوس الى التفاوض بنية حسنة، اما تشجيع العملية السلمية وحث الاطراف للتفاوض فانها تقع ضمن مسؤوليات المجتمع المدني واصدقاء السودان في العالم. في هذا السياق استطاعت مارسدن ان تطور تجربتها في هذا السياق على نحو مميز، وتأكد لي ذلك من خلال مشاركتي خلال الثلاث سنوات الماضية في عديدمن مناسبات السفارة مثل ان يحضر مسؤول وزاري بريطاني او يزور وفد ثقافي اجتماعي البلاد خاصة الوفود التي تمثل المسلمين في المجتمع البريطاني، ولعل آخر المناسبات واميزها مهرجانات «موسم بريطانيا في السودان» بشراكة منتجة من المجلس البريطاني في السودان. في حفل العشاء ظلت د. روزا تتجول وتتحدث الى المحتفين بها وعندما اعطيت الفرصة لتلقي خطابا عبرت عن حزنها بأن ايامها كسفيرة قد اوشكت على النفاد، بيد انها وهي تستعد للمغادرة تعلن بصدق انها عرفت الدفء والاريحية التي اشتهر بها السودانيون عن جدارة واستحقاق، وان ما قوبلت به من حرارة استقبال رسخ لديها انطباعا قويا بحميمية وتفرد العلاقات بين البلدين. كما انها ادركت تماما ان هناك ثمة ما يجمع بين البريطانيين والسودانيين بعوامل اخرى غير التاريخ المشترك واللغة المشتركة ، عوامل غير مرئية مثل روح الفكاهة والقيم المشتركة، الامر الذي اثار لديها على الدوام الشعور بالغبطة واحيانا بالدهشة خاصة عندما تكتشف الجسور المتينة بين البلدين في مجالات واسعة ومتعددة من الطب الى الرياضة ومن الاكاديميا الى الثقافة، بل انها ظلت تكتشف على الدوام مجالات جديدة للتعاون طوال فترة وجودها بالسودان بل وهي تغادر البلاد تدرك انها لم تتعرف على كل مجالات التعاون، لذا اخذت عهدا على نفسها ان تبقي على صلتها بالسودان واهله حتى بوسائل اخرى غير السفارة سيما وانها شربت من مياه النيلين. ذكرت السفيرة مؤكدة انها بذلت جهودا رسمية طوال فترة وجودها في السودان «لتقوية العلاقات وتحسين الوعي ببريطانيا» بما في ذلك موسم بريطانيا في السودان آنف الذكر، وهي اذ تقود ذلك تتطلع ان تجد الاجيال الصاعدة الفرصة للحفاظ على علاقات السودان مع بريطانيا تعرف اكثر عن العلاقة بين البلدين في مثل مناسبة اولمبياد لندن 2010، حين تتاح الفرصة للسودانيين ان يتعرفوا عن قرب على المجتمع البريطاني المعاصر وهو يختلف كثيرا عن سابقه في العهد الكلونيالي الذي مضى عليه اكثر من خمسين عاما من الزمان. ان مارسدن وهي تشجع روح المعرفة الشعبية فانها تؤكد ان المؤسسات غير الحكومية خاصة جمعية الصداقة البريطانية تقع عليها مسؤولية المبادرة لتعميق العلاقات بين الدولتين حتى في الاوقات العاصفة بالتحديات. من ناحية اخرى اعتمدت د. روزاليند على مقولة نيوبولد الشهيرة بأن الروح السودانية لا توجد مجتمعة في مكان واحد، لذا آلت على نفسها ان تتعرف على الشخصية السودانية المتنوعة فاخذت تسافر متنقلة في كل انحاء البلاد. لقد اوردت في خطابها ان اللحظات التي ما زالت حية في ذاكرتها كثيرة، من بينها تناولها طعام الافطار مع مقدوم الفور بنيالا، ومتابعتها صيانة مسجد سواكن العتيق وايضا تناولها طعام الغداء مع ناظر الهدندوة في اروما وكذلك مخاطبتها لنساء من الهدندوة بالقرب من كسلا وقد انخرطن في برامج محو الامية. من تلك اللحظات الخالدة في ذاكرتها لحظة اهدائها معدات اذاعية للوحدة المشتركة في ابيي، تماما كما لا تنسى وهي تعمل جنبا الى جنب مع سلفاكير ضمن 16.000 من المتطوعين في حملة لنظافة جوبا، فيما شاركت في تدشين روابط اشبال كرة القدم في انحاء متفرقة من السودان ودعم الفريق القومي للالعاب الرياضية، وليس آخرا تذكر تماما كيف انها تاهت في الكثبان الرملية بالصحراء الشمالية لاكثر من ست ساعات مع الجمعية السودانية للآثار في بحثها عن قلعة قديمة. انها لم تكتفِ بتلك الجولات التي تنضوي على مخاطر واسعة في زمن النزاعات السودانية، بل زادت الى معرفتها بالسودان ان التقت قادة سودانيين في السياسة، مثقفين وزعماء دينيين وافراد من الاسر العريقة وممثلين عن قبائل تمثل ريادة اجتماعية في الحياة السودانية، كما عرفت سودانيين عاديين في مناسبات مختلفة وفي مناطق نائية. لقد عبرت روزاليند بسعادة غامرة كيف انها تمكنت من اقامة شبكة واسعة من الصداقات فقد «دعوني الى منازلهم، حضرت مناسباتهم السعيدة والحزينة، وعوملت كواحد من افراد الاسرة». لقد استطاعت د. مارسدن خلال الثلاث سنوات التي امضتها سفيرة لبلادها في السودان ان تجعل من المداخل الثقافية اساسا لبناء قواعد مساهماتها الدبلوماسية في خدمة البلدين، وهي تؤكد قائلة «سعدت بالتعرف اكثر على الثقافة السودانية» اثناء تجوالها في المولد بام درمان، وفي مقابر حمد النيل وهي تستمع للانشاد الصوفي او تشاهد الرقصات الصوفية، كما ظلت تستمع الى انغام المطرب الكابلي، وتعجب بالوان السودان في رسومات التشكيلي راشد دياب. ان سفيرة بريطانيا للسودان د. روزاليند مارسدن وهي تغادر السودان، تترك امامنا سؤالا جديرا بالاهتمام والاجابة، وهو: عما اذا كانت المداخل الثقافية ضرورية للنجاح في عوامل التنمية السياسية والاقتصادية أيضا؟