ظاهرة الهجرة والاغتراب عن الأوطان ظاهرة أزلية صاحبت وجود الإنسان على الأرض منذ بدء الخليقة، إذ يعتبر أبو البشر آدم عليه السلام أول مغترب في التاريخ الإنساني، حيث انتقل من موطنه الأصلي الذي خلق فيه وهو الجنَّة إلى وطن جديد وهو الأرض ليعمرها ويعيش فيها إلى حين، ثم يعود بعدها إلى الأصل والمقر النهائي. والمعروف أن الأسباب التي تدعو الإنسان إلى التغرُّب والبعد عن الأوطان والأهل والأحباب كثيرة ومتنوعة، خاصة في ظل ظروف عالمنا المعاصر الذي يشهد ازدياداً مضطرداً في هذه الأسباب، حيث الأزمات الاقتصادية والضغوط المعيشية والخلافات بين البشر والحروب بين الدول والكوارث الطبيعية والمصطنعة، إلا أن أهم هذه الأسباب هو الاغتراب للتعلم، الاغتراب للعمل، الاغتراب للتغيير والتطوير والبحث عن فرص أفضل وغيرها. وقد يتخيّل البعض هنا أنّ الإنسان المحب للوطن لا يفارقه حتى وإن جارت عليه الظروف وتكالبت عليه الضغوط والأزمات، ولكن الواقع عكس ذلك، لأن الحياة نفسها ما هي إلا رحلة اغتراب طويلة أساسها التكوين البشري الذي نشأ من جسد وروح، والجسد موطنه الأصلي هو الأرض «التراب» والروح من أمر ربي أي هي من الله سبحانه وتعالى. وإذا تأملنا في ظاهرة الاغتراب بكل أبعادها ومعانيها وتاريخها، نجد أن لها دائماً أهدافاً سامية ونبيلة ابتداءً من رحلة أبينا آدم عليه السلام التي كان هدفها إعمار الأرض والاستخلاف فيها، وكذا حياة كل إنسان مغترب يتطلع إلى تحقيق الذي يتأمله ويستطيعه من التعلم وتلبية متطلبات الحياة الكريمة ولقمة العيش النظيفة. والواقع أننا بصفتنا سودانيين مغتربين، علينا أن نأخذ العبر من هذه المفاهيم، ونجعل أهداف اغترابنا كلها سامية وجليلة ونبيلة، فهي حالة مؤقتة بكل معانيها ومواطنها، وفرصة مواتية لا ينبغي أن نغفل عنها ونتركها تروح هدراً وتذهب سدى، فلنغتنم يومنا قبل الغد، ولنعلم أننا مجاهدون في سبيل الله بحول الله تعالى. وحالة الاغتراب هذه لا تعني بأية حال من الأحوال أن ينسلخ الإنسان عن أهله وناسه وروحه الوطنية وقيمه وتقاليده الاجتماعية والثقافية، ويبتعد عن الالتزام بحقوق وواجبات الوطن والمواطنة، ويتناسى أهله ويتراخى في الالتزام بالتكاليف الشرعية والواجبات الاجتماعية والثقافية السودانية الأصيلة، تحت ذريعة التفاعل والاندماج في هوى بلد الاغتراب الجديد وأهله. إن حب الوطن المزروع فينا بالفطرة يحتم علينا ويدعونا دائماً، عندما نرى أمراً سالباً أو مشيناً فيه، أن نسعى لتقويمه وإصلاحه بالتي هي أحسن، وليس بسبه أو لعنه أو وصم أهله الذين هم أهلنا بطبيعة الحال، بالجهل والتخلف والبدائية في مجتمعات بلد الاغتراب، وذلك لسبب بسيط جداً وهو أنك مهما بلغت من علم ودرجة رفيعة ومكانة مرموقة فإنك في واقع الأمر تسب أمك وأباك وتلعن أهلك وأحبابك. لذلك فإن بعض صور العقوق التي يمارسها بعض إخوتنا المغتربين تجاه الوطن وأهله الطيبين بمناسبة ودون مناسبة، من خلال لعنه وسبه والتنكر له وعلى كل صور وأشكال البؤس والفقر ومظاهر التخلف التي تظهرها أحياناً بعض وسائل الإعلام المختلفة لأي سبب كان، والتي لا يخلو منها أي بلد في العالم.. يجب أن تتوقف تماماً وفوراً، فهلا استجبنا. {}{