أعادت عملية احتجاز اللواء تلفون كوكو أبو جلحة منذ شهر في جوبا، بواسطة استخبارات الجيش الشعبي قبل يوم واحد فقط من سفره الى الشمال، اعادت على الاذهان الكثير من ملفات الظلم والاستغلال التي مارستها الحركة الشعبية بحق اقليم جبال النوبة وأبنائه طيلة فترة الحرب ولا تزال. وساهمت في ذلك المبررات الساذجة التي يحاول بعض قيادات الحركة الشعبية تسويقها للرأي العام، مثل القول بأن ما حدث هو أمر متعلق بالانضباط العسكري وليس وراءه أية أبعاد أخرى، وأنه يجب ان تُسأل عنه المؤسسة العسكرية، وهي مبررات لا تقنع طفلاً كما وصفها الأستاذ عبد الجليل الباشا في المؤتمر الصحفي الذي عقدته بعض القيادات السياسية والمدنية لولاية جنوب كردفان بدار خريجي جامعة الخرطوم يوم السبت الماضي بذات الخصوص. وباعتقال القائد تلفون كوكو تكون قيادة الحركة الشعبية قد كشفت كلية عن نظرتها الحقيقية لمنطقة جبال النوبة وانسانها، أي أنها تنظر اليها من زاوية ما يحقق مصالح الجنوب فقط في الحرب والسلام، وليس كمنطقة «مهمشة» مركزياً لها مظالم وحقوق يستهدفها مشروع «السودان الجديد» كما تزعم وتدعي. كما كشفت قيادة الحركة الشعبية عن مستوى اخلاقي لا يشبه شعارات التحرير والنضال والثورة، بل يشبه أخلاق القرصنة وقطع الطرق والعصابات. فحركات التحرير والحركات الثورية لها قيم وأخلاق رفيعة تحصنها من أساليب الخديعة والغدر، وتجعلها من المحرمات لديها، أما القراصنة وقطاع الطرق وزعماء العصابات فهؤلاء يفعلون أي شيء وبأية وسيلة بلا ضمير ولا قيم لكيما يصلون إلى غاياتهم. فهؤلاء يكذبون ويخدعون ويزورون وينقضون العهد دونما أي وازع من ضمير أو أخلاق. كما كشفت هذه العملية أيضاً أن الحركة الشعبية قد استغلت أبناء جبال النوبة لتحقيق أهداف الحركة في الجنوب، لتقابلهم بجزاء سنمار، وتبيعهم في نهاية مطاف نيفاشا إلى شريكها اللدود «المؤتمر الوطني» بأبخس الاثمان. فالمنطقة لم تخرج من اتفاق نيفاشا بين الشريكين الا ببروتوكول باهت وفضفاض لم يعوضها حتى عن خراب العشرين عاما من الحرب الاهلية التي فرضتها الحركة الشعبية على المنطقة وأهلها، فالحركة الشعبية هي التي حولت إقليم جبال النوبة الى مسرح لعملياتها العسكرية طيلة هذه المدة تحت لافتة «السودان الجديد» واستخدمت عشرات الآلاف من أبنائه وبناته كوقود لمحرقة الحرب، وسالت دماء غزيرة من هؤلاء من أجل «السودان الجديد» على أرض الجنوب، وبعد أخذ كل ما تريد لا تتردد في اعتقال القيادات بدم بارد. فمنطقة جبال النوبة لم تحصد من الحرب غير الخراب والتشريد والموت الجماعي، مقابل تضحيات تفوق تضحيات أبناء الجنوب أنفسهم، ولا يزال الآلاف منهم يموتون بلا «وجيع» في الحروبات القبلية بين قبائل الجنوب أو في إخماد تمردات الحركة الشعبية، وهي شؤون لا علاقة لها بأسباب انتسابهم للحركة الشعبية. وسبق للحركة الشعبية أن اغتالت بعض القيادات من أبناء جبال النوبة «عوض الكريم كوكو ويونس ابو صدر» بسبب اعتراضهم على طريقة ادارة الحرب الاهلية في الاقليم، بذات الطريقة التي تدار بها في الجنوب. فبرأى هؤلاء ان الاقليم يختلف عن الجنوب من حيث التكوين الاجتماعي وادارة الحرب على أسس عنصرية فيه سوف تضر بعلاقات القبائل في الاقليم، وتفتح جبهات لا فائدة منها. وبدلاً من النظر الى رأي هؤلاء كأبناء للاقليم يعرفون عنه أكثر من غيرهم كافأتهم قيادة الحركة بالاعتقال والحبس والتعذيب قبل ان تقوم باعدام هذين القائدين في عام 4991م. هذه الواقعة لا تزال محفورة في نفوس وذاكرة الكثيرين من ابناء الاقليم داخل وخارج الحركة الشعبية. وتطفح الى السطح كلما ذُكرت الحرب أو كلما ظهر منعطف في طريق العلاقة بين الاقليموالجنوب. وظهرت بصورة أكبر مع حادثة اعتقال اللواء تلفون الأخيرة. بعد مؤتمر أسمرا 5991م للقضايا المصيرية، خرجت مجموعة من أبناء جبال النوبة بقيادة محمد هارون كافي معلنة انفصالها عن الحركة الشعبية، بعد أن استصدرت الحركة الشعبية مبدأ تقرير المصير لجنوب السودان من هذا المؤتمر، وغيّرت اتجاه بوصلتها من الخرطوم الى جوبا، ووقعت مجموعة محمد هارون اتفاقا مع الحكومة في عام 7991م فيما عُرف باتفاق السلام من الداخل، بعد اقتناعها بأن الحركة تستخدمهم لاغراضها في الجنوب فقط. وهناك مجموعات أخرى من أبناء جبال النوبة الذين التحقوا بالحركة الشعبية من أجل شعارات السودان الجديد، ولكنهم اضطروا الى مغادرتها بعد أن تبين لهم أن هذه الشعارات هي مجرد وهم كبير، ولا توجد حتى في أذهان أعلى المستويات القيادية بالحركة. وقد توزع العشرات من مثل هؤلاء بين بلدان العالم المختلفة كلاجئين سياسيين. وفي أول اتصال هاتفي عام 1002م من «هولندا» مع أحد هؤلاء الإخوة هو الأستاذ عبد المنعم الطاهر المحامي للسؤال عنه وعن احواله وبقية الاهل والاخوان بعد طول غياب، وكيف انتهى به المطاف الى «كندا»، وعبد المنعم شاب نقي ومطلع ومثقف شديد التهذيب متفانٍ ومخلص لقناعاته بتجرد، التحق بالحركة الشعبية بعد أن انهى دراسة الحقوق بجامعة عين شمس في القاهرة، بينما كان في مقدوره أن يعود الى السودان ويمارس عمله بكل ارتياح»، قال عبد المنعم: صدمتي الكبرى كانت عندما اكتشفت منذ البداية انه علىّ ان ابحث عن اهلي من «النوبة» في صفوف الحركة حتى احمي نفسي من عنصرية «الدينكا» فيها. وهناك الكثير من الشواهد والامثلة على المظالم والغبن الذي حاق بابناء جبال النوبة بسبب ممارسات الحركة الشعبية نحوهم. واهم هذه الشواهد هو بروتوكول جبال النوبة نفسه الذي جاء ظالماً ومجحفاً وباهتاً، لأن المفاوضين لم يكن يعنيهم الاقليم او انسانه، وانما كان يعنيهم الجنوب. لذلك جاء بروتوكول «أبيي» أكثر تفصيلاً ووضوحاً من بروتوكول جبال النوبة. وبحثاً عن طريقة رد المظالم ومعالجة الاخطاء، كان اللواء تلفون كوكو يتحدث بالصوت العالي عن الظلم الواقع على الاقليم واهله بسبب بروتوكول جبال النوبة في اتفاق نيفاشا، وقد كان واضحاً في تحديده لهذه المظالم وموضوعياً في المعالجات التي يمكن ان تزيل الضرر وتزن الامور. ولأنه كان واضحاً ومقنعاً فقد التف حوله تيار واسع من ابناء الاقليم داخل وخارج الحركة، وكان بمقدوره ان يعلن انفصاله عنها على طريقة «لام أكول» أو أن يقبل بعروض «المؤتمر الوطني» الذي أراد أن يصطاد في الماء العكر. ولكنه ظل باستمرار يصر على انه جزء من الحركة الشعبية ولا يريد اكثر من حقوق جبال النوبة وانسانها، وانه لا ينادي بالغاء الاتفاقية او البروتوكول، وانما ينادي بتطوير الاخير لكيما يستوعب الحقوق الضائعة... بعد ثلاث سنوات من اتفاقية نيفاشا والتطبيق الفاشل على صعيد جنوب كردفان وواقعية مطالبات اللواء تلفون، بادرت قيادة الحركة الشعبية بالاتصال به، وعرضت عليه أن يوقف التصعيد الإعلامي والسياسي ضد الحركة في مقابل الحوار والاتفاق على حلٍ مرضٍ. وقد اكد اللواء تلفون في كل هذه اللقاءات أنه لا يبحث عن مكاسب شخصية لنفسه، وقد ضمّن مطالبه في ملف خاص وافقت عليه قيادة الحركة الشعبية بكلياتها. وقد اشترك في النقاش مع اللواء تلفون على فترات متفرقة عدد من قيادات الحركة الشعبية ابتداءً بمدير استخباراتها الفريق د. مجاك والعميد ياسر سعيد عرمان ود. رياك مشار والفريق سلفا كير وآخرين. وبعد التأمين على الملف الخاص باللواء تلفون، تم الاتفاق بينه والفريق سلفا كير على أن يتم توفيق اوضاعه ضمن الجيش الشعبي والحركة الشعبية، وان تتكون لجنة من أبناء الاقليم داخل الحركة لمتابعة تنفيذ المطالبات، وتمت تسمية اللواء تلفون مبعوثاً خاصاً لرئيس حكومة الجنوب بجبال النوبة، وقد التزم هو بكل ما طُلب منه، وظل في الجنوب لمدة عام كامل دون أن تبدر أية مشكلة هنا او هناك. وفي اتصال هاتفي معه قبل سفره بأيام قال إنه في انتظار موافقة الرئيس سلفا له بالسفر في رحلة عمل بالولاية، وبالفعل تم ذلك بعد ان صادق له الأخير بإذن السفر وبرنامج الرحلة وميزانيتها. وبينما كان يرتب نفسه لمغادرة الجنوب مع اللواء دانيال كودي جرى اعتقاله قبل يوم واحد فقط، بحجة أن هناك تجاوزات ومخالفات عسكرية لا بد من التحقيق معه حولها. ولا يزال اللواء تلفون رهن الاعتقال لأكثر من شهر بهذه الحجة الواهية. فألف باء الاجراءات العسكرية تقول بأن صاحب أية مخالفة يتم توقيفه في الحال والتحقيق الفوري معه ومحاسبته او اطلاق سراحه، اما ان يتم التربص بشخص لمدة عام كامل، ويتم التعامل معه بطريقة طبيعية، ثم في لحظة مغادرته يتم توقيفه، فهذه لا علاقة لها بالاجراءات في أية مؤسسة عسكرية تحترم نفسها. وبتقديرنا أن هناك مساومات وصفقات سرية ومؤامرات يشترك فيها أكثر من طرف داخل الحركة وخارجها على الصعيد المركزي والولائي، ولا نستبعد أن يكون هذا الترتيب تحت رعاية أجنبية أيضاً. وهذه الصفقات والمساومات هي ضد مصلحة قضية جبال النوبة، لذلك تستوجب إبقاء أبرز قياداتها في الحركة الشعبية خارج المسرح.. وهو ما سوف نبينه في الحلقة القادمة. «نواصل»