الصوت يبدأ خافتاً... يخال للمرء أن صاحبه يحدث نفسه.. تتابع النبرات.. تتسارع في تواتر.. ثم ينداح مجلجلاً.. القاعة الرحيبة يخيم عليها الصمت.. إبتسامة أو هي نصف ابتسامة تبدو وكأنها ترتسم على محيا رئيس الجلسة.. المعروف بوجهه الصارم القسمات.. إبتسامة رغم كل شيء يجود بها صاحب المنصة الأستاذ يحيى جيب السيد.. وهو يتعجب لهذا الفتى الذي يبادر في قوة لا تعرف التراجع وشجاعة لا تعرف الانكسار.. تراه يلوز بالقانون شرحاً لكثير من المشروعات بنصوصها المعقدة وتفسيراتها المتقاطعة حتى تخاله قانونياً ضليعاً يصول ويجول عند مرافئ أهل التشريع وعلى عتبات محترفي الصياغة. ثم هو يستبق الجميع حين يكون الحديث حول المال.. صرفاً وعدلاً وحفظاً.. ينبري للصعوبات مفنداً.. للايجابيات مسانداً.. لم يكن مأمون كليب غير ذلك الفتى المسكون بحب الدامر.. لا يغيب عنها الا ليعود اليها.. ولسان حاله يردد: أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا.. كان مأمون اتحادياً قحاً.. وطنياً شاملاً.. قارئاً نهماً.. واقعياً.. لا يبكي على لبن مسكوب.. أو يفرح لماء سراب.. تراه داخل قاعة المجلس مناكفاً.. حاداً حتى تخال ان ما بينك وبينه اهتز واضطرب.. وان شعرة معاوية انقطعت.. وما أن يخرج إلى الردهات حتى تعود لوجهه الوضيء ضحكته الحلوة.. وابتسامته المشرقة.. فاذا انت الذي كنت تحسب انه مخاصم لك قبل قليل يدنو منك في حميمية الشقيق للشقيق.. كان مأمون يسابق الزمن.. كأن احساساً في داخله ينبؤه بقرب الرحيل.. ولكن لا تدري نفس بأي ارض تموت.. اعتاد الاتصال بي احياناً مساء الخميس قائلاً ان فطور الجمعة عنده في داره العامرة.. وحين البي الدعوة أجد عدد من اصدقائه.. الوان طيف.. لم يكن يعرف الانغلاق والانعزال.. وحين يأتي لزيارتي بموقع سكني في عطبرة يبادر مازحاً: اصدقائك هؤلاء لا أجدهم معاً الا معك.. صلاح فتح الرحمن.. صلاح حسن سعيد.. الهادي محمد علي.. احمد الاموي.. كمال الوسيلة هشام محمد عباس.. كمال جعفر.. عمر دقيق.. محمد حامد.. طالب.. وريش وغيرهم.. من أحزاب شتى.. ومدارس شتى.. مأمون ينتشي وهو يمازحهم.. ويضاحكهم.. وحين يمضي عنهم يذكرونه بالخير كله.. وبالثناء اكثره.. جرس الهاتف يرن... المتحدث على الطرف الآخر جمال مراسم كما يعرفه اهل ولاية نهر النيل.. طيلة عملنا كدستوريين كان جمال هو الذي يبلغنا المواعيد.. الزيارات.. اللقاءات.. الافراح.. الاحزان.. كان صوته يأتيك عبر الاثير قوياً واضحاً مهما كان الأمر.. الذي يريد تبليغه.. ولكن هذه المرة.. أمر جلل صوته جاء خافتاً.. منكسراً مملوءاً حزناً والماً.. مأمون وعثمان الصول معاً.. ايا طريق الاسفلت.. يا حاصد الارواح؟ الا تشبع ابداً؟... ولكنه الموت حق رغم ألم الفراق.. قلبي وعقلي ووجداني مع الدامر وهي تحس ان آمال عراض توارت.. ازهار ذبلت وحوائط للصد تحطمت.. ذهب مأمون الى لقاء ربه راضياً مرضياً.. ذهب يسبقه تسامحه وتواضعه.. احسانه وعطاءه... تفانيه في خدمة الآخرين.. اللهم أرحمه واحسن اليه.. واجعل البركة في أهله وذريته.. اللهم أرحم رفيقه اليك عثمان الصول واكرم مثواه.. يا أرحم الراحمين.