الراحل عز الدين عثمان في تقديري هو رائد فن الكاركتير السياسي في السودان، ففي عهد الديمقراطية الثانية «65-69م» كان ل«الأيام» الفضل في تقديم عز الدين وكاريكاتيراته الساخنة عبر صفحاتها التي تتلهف أعين القراء لمطالعتها قبل المانشيتات الرئيسية. ومدرسة «روز اليوسف» المصرية هي التي فتحت أعين القراء العرب على فن الكاريكاتير، فمن منا لا يذكر صلاح جاهين ذلك الضخم المتعدد المواهب من شعر وزجل ورسم وحتى التمثيل.. وليثي برسوماته الكاريكاتيرية التي تتميز بالعمق والمفارقة الذكية.. وحجازي وهو يرسم «الستات المصريات» كفراخ الجمعية بأجسامهم وسيقانهم الممتلئة.. وجورج بهجوري وهو يرسم نفسه على هيئة قزم أشعث الشعر..!! ووجد عز الدين في المسرح السياسي السوداني في الحقبة الديمقراطية في الستينيات مادة خصبة راح يتخير منها رسوماته اللاذعة، ولعله تخصص في الزعيم الأزهري «أو أبو الزهور» كما كان يسميه. حدثني شقيقنا الراحل محمد إسماعيل الأزهري أن والده كان يفتتح يومه بمطالعة كاريكتير عز الدين ويضحك من أعماق قلبه دون أن تحدثه نفسه بقصف تلك الريشة المبدعة. كان محمد- عليه رحمة الله- حتى لحظة وفاته يحتفظ بكتيب فيه رسومات عز الدين الساخرة حول الزعيم، وشأنه شأن ابيه كان يضحك منها حتى الثمالة. وبجانب السياسة فقد تميز عز الدين بالكاريكتير الاجتماعي، وقد ابتدع شخصية نمطية لشاب مائع تكاد تبصر «لبانته» في فمه عبر الورق ويرتدي البناطلين المحزقة وشعره «قجة» على طراز ذاك الزمن.. أسماه «كربشين نص الليل».. تأمل عبقرية الاسم وتطابقه مع المسمى! و«بري قيت» لمن يذكرها لم تفلت من ريشة عز الدين العبقرية، وهي فضيحة كروية «فتح» فيها فريق بري للمريخ ليهزمه بتسعة أهداف مكنت فريق المريخ من الفوز ببطولة الدوري ذاك العام.. حيث رسم عز الدين صورة لسكرتيرة مائعة في أحد المكاتب الحكومية والباروكة الضخمة «مقنطرة» على رأسها وهي تمسك بسماعة التلفون وتقول في غنج ودلع «أجي يا بري!»، من يومها أصبحت هذه الجملة مثلاً.. كناية على الاستغراب والاستهجان. أيضاً لا أنسى له كاريكتيرا بمناسبة تأهيل أول حكم «أنثى» في مباريات كرة القدم بدار الرياضة أم درمان، حيث رسم عز الدين هذه «الحكمة» في دائرة السنتر وأحد اللاعبين ملقى على الأرض وهي تخاطب خصمه وهي «غازة كيعانها في وسطها» وتقول له: «ضاربه لييه.. إنشا الله يضربك الضريب»..!! وكنت أحسب عز الدين من أهل اليسار، ولكنه فاجأنا إبان أحداث يوليو 71 «انقلاب هاشم العطا» الذي اعتقل بعد فشله الفنان الكبير محمد وردي بسبب ميوله اليسارية.. فاجأنا عز الدين بكاريكتير نرى فيه وردي يتم إدخاله «للحراسة» الممتلئة بالنشالين وعتاة المجرمين وواحد منهم يرحب بقدوم وردي صائحاً فيه: «جيتنا وفيك ملامحنا»..!! وفن الكاريكتير يا له من فن مشاغب جميل .. فن يزدهر تحت ظل العهود الديمقراطية، بينما تجبر الأنظمة الشمولية فنان الكاريكتير على أكل أقلامه وشرب أحباره..!!