٭ أقولها بالتأكيد كله ان ليس هناك مجتمع واحد في العالم يشبه المجتمع السوداني.. وبالتالي عندما نتحدث عن القومية السودانية أو الوحدة الوطنية.. أو النموذج الثقافي.. أو الحوار الوطني.. نتحدث عن وضع فريد ومتميز ونسيج وحده.. ويحتاج لرؤية واقعية ومتمثلة.. فنحن نتحدث عن وطن في حجم قارة.. ونتحدث عن مجتمع في تباين أمم وشعوب.. نتحدث عن حضارة ممتدة الى أعماق التاريخ وعن شعب عملاق صاحب هذه الحضارة. ٭ وقد ظلت قيادة العمل السياسي والثقافي على الدوام مطالبة باقامة الحوار الوطني.. الحوار الحضاري الجاد مع مختلف الثقافات القائمة على التمايز والتباين الديني والعرقي والثقافي والاقتصادي من أجل بناء الأمة السودانية الواحدة المتحدة القائمة على احترام الواقع بكل فرضياته.. والقائمة أيضا على احترام أسباب التمايز والتباين كمصدر قوة وتماسك وإثراء لتجارب الشعوب. ٭ ولكن ولعن الله لكن هذه.. ومنذ الاستقلال فشل ولاة الامر في السودان في إدارة هذا الحوار.. وفهم الواقع وجاءت سياساتهم منذ احداث مارس 4591م واحداث جودة 5591م سندا من حيث لا يدرون لواقع التجزئة والانقسام الذي زرعه الاستعمار.. ومما ساعده ذلك على تفجير قنبلته المؤقتة في توريت 5591م، ونجحت سياسة الاستعمار في إفراغ الاستقلال من محتواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. ونجحت في إظهار السياسي السوداني بنظرته المحدودة وانشغاله بهوامش الأمور.. ودارت المعارك منذ ذاك الحين حول الوفاق وائتلاف السيدين وحول الدستور.. اسلامي.. علماني.. جمهورية رئاسية ام برلمانية.. وجاء 71 نوفمبر واستقبلت جماهير الشعب السوداني التغيير ظانة بأنه بداية للتغيير الجذري ووضع حد للعبة الكراسي حول السلطة.. ولكن باءت أحلامها بالفشل وتفجرت إرادتها في أكتوبر 4691م وشعاراتها محددة وصادقة.. لا أحزاب بعد اليوم.. لا زعامة للقدامى.. طريق الاشتراكية طريق الخلاص.. وسرعان ما انتكست وعادت اللعبة كما هي من جديد.. أحزاب وشقاق ومشاكل ائتلاف.. اختلاف.. قومية.. دستور اسلامي.. علماني.. الى أن جاء نظام مايو وأتى بفهم متقدم للمسائل الوطنية وأخذ في التعامل مع السودان بواقعه المتميز المتباين.. متجاوب مع مشكل الجنوب بالرؤية العلمانية الواضحة.. وكان بيان 9 يونيو 9691م القائل باعطاء الجنوب الحكم الذاتي الاقليمي في إطار السودان الاشتراكي الواحد.. ووضعت حدا لحرب الجنوب باتفاقية اديس ابابا 3791م ووضعت دستور السودان 3791م. ٭ ولكن حدثت المتغيرات وكثرت مناطق المد والجزر في مسار تجربة نظام مايو، مع المزايدات السياسية التي صحبت «المصالحة الوطنية»، وكانت قوانين 3891م التي أثارت حينها الكثير من الجدل الهادف والحوار المتصل الذي كان سيأتي بنتائجه في إطار فهم واقع السودان لولا الاستغلال السياسي للقوانين من جهات عدة «الإخوان المسلمين» من داخل النظام لتصفية خصومهم السياسيين «قضية محمود محمد طه» والأمة، وكل عناصر المعارضة من داخل الوطن وخارجه. ٭ المهم أن قوانين سبتمبر 3891م لأنها جاءت خارج إطار الفهم لواقع السودان، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.. والقضية ليست هنا، ولكنها في المناخ المخيف الذي يقودنا أردنا أم لم نرد الى قلب الانقسام الوطني، ويقود مجتمعنا الذي حولته ممارسات «الجبهة الوطنية» الى ترسانة مسلحة الى مرحلة الحرب الاهلية ذات الابعاد الطائفية والدينية. ٭ أقول هذا وانا اتابع حملة التعبئة الاعلامية والملصقات التي «كملت قماش الخرطوم» في زمان عزت فيه جرعة الدواء ولقمة الخبز ناهيك عن جلابية «الدبلان»، الحملة التي يقودها طرف واحد من أطراف الوفاق الأربعة أن اعتبرنا بعض الجنوبيين من أطراف الوفاق.. وهنا أريد أن أسوق تخوفاً كبيراً من نتائج الذي يدور تحت مظلة إرهاب ديني وإلغاء لكل صوت هادئ متمهل.. ذلك لأن كل الانفعالات البشرية الغاضبة يمكن تحكم العقل فيها ونزع فتيل الغضب وتهدئة صاحبها ودفعه الى التروي وأعمال الفكر، وهذه حقيقة علمية تنطبق على كل الانفعالات.. إلا حالات الانفعال الغاضب الذي يكون مرجعه العقيدة الدينية، فالإنسان من الممكن أن يتسامح في أشياء كثيرة إلا أن يُهان في عقيدته أو يمتلكه الاحساس بأن عقيدته باتت مهددة بالخطر. ٭ ومن هنا أكاد أجزم بأن ما يجري في أنحاء متفرقة من انحاء العالم من اضطرابات واغتيالات يختفي وراءها سياسيون محترفون تخصصوا في عمليات الإثارة واستغلال العواطف الدينية وتوجهها، تنفيذا لسياسات معينة يبتغون فرضها على الشعوب او الحكومات. ٭ أردت القول بأن قوانين سبتمبر 3891م البديلة أو «المبدولة» أثارت الكثير من الخلاف، وليس العيب في الاختلاف او تعارض الآراء أو تصادم المصالح.. فلا يوجد مجتمع بشري يتفق فيه الناس اتفاقا شاملا يحقق انسجاما كاملا في الافكار والمشاعر.. ولكن الخلاف الذي يثير الخوف ويخلق الرعب والارهاب ويعرض أمن المواطن والوطن للخطر الحقيقي، هو الذي يتصاعد.. حتى ينسى الجميع في غمار تراشقاتهم واتهاماتهم أن هناك فوق كل اختلاف وخلاف حاجة ماسة الى الترابط والتماسك لدفع الخوف وتحقيق الأمان للجميع في وطنهم الواحد.. فالوطن للجميع للمسلم والمسيحي والوثني. ٭ فأين نحن من هذا الخوف.. الخوف من أن يتمزق السودان؟ الخوف من أن ينفصل الجنوب؟ الخوف من ان نصبح سوقا رائجة لتجار الاسلحة؟.. الخوف من ان تنغرس سكين المسيحي في قلب المسلم وسكين المسلم في قلب المسيحي.. الخوف من أن تصبح ارضنا مقبرة لاحلامنا في بناء السودان الواحد الموحد بجنوبه وشماله.. شرقه وغربه.. الخوف من ألا نكون.. هذه دعوة للخوف علنا ندرك هول ما نحن مساقون اليه باسم تحكيم شرع الله. ٭ نشر في مجلة الأشقاء باب «المرافئ الآمنة» بتاريخ 72/9/8891م.