٭ في لحظات بعينها ينتاب المرء احساس بمراجعة الاحداث وزمانها ومكانها.. قد تكون احداث خاصة بتجاربه الشخصية ومواقفه.. وقد تكون عامة ذات علاقة بالشأن العام. ٭ انتابني هذا الاحساس مع تصاعد قيمة الحوار الوطني في طريقنا إلى سودان جديد توافقت الرؤية له في الداخل والخارج… قمت إلى ارشيفي الخاص من مجلة الاشقاء التي كانت تصدر في فترة الديمقراطية الثالثة.. الديمقراطية التي سبقت نظام الانقاذ.. قلبتها استوقفني عنوان في زاوية كنت احررها تحت عنوان :المرافئ الآمنة، العنوان كان «الإسلام والحوار الوطني» والعدد كان بتاريخ 27 سبتمبر 1988 قرأته، سيطرت على رغبة في ان يقرأه معي وبعد اثنين وعشرين عاماً قراء «صدى» من الجيل الجديد… كتبت في ذاك العدد: «أقولها بالتأكيد كله ان ليس هناك مجتمع واحد في العالم يشبه المجتمع السوداني.. وبالتالي عندما نتحدث عن القومية السودانية أو الوحدة الوطنية والتمازج الثقافي أو الحوار الوطني.. نتحدث عن وضع فريد ومتميز ونسيج وحده ويحتاج لرؤية واقعية ومتمهلة.. فنحن نتحدث عن وطن في حجم قارة ونتحدث عن مجتمع في تباين أمم وشعوب.. نتحدث عن حضارة ممتدة إلى أعماق التاريخ وعن شعب عملاق صاحب هذه الحضارة. ٭ ظلت قيادة العمل السياسي والثقافي على الدوام مطالبة باقامة الحوار الوطني.. الحوار الحضاري الجاد مع مختلف الثقافات القائمة على التمايز والتباين الديني والعرقي والثقافي والاقتصادي من أجل بناء الأمة السودانية الواحدة المتحدة القائمة على احترام الواقع بكل فرضياته والقائمة ايضاً على احترام أسباب التمايز والتباين كمصدر قوة وتماسك واثراء لتجارب الشعوب. ٭ ولكن، ولعن الله لكن هذه ، ومنذ الاستقلال فشل ولاة الأمر في السودان في ادارة هذا الحوار وفهم الواقع وجاءت سياساتهم منذ احداث 1954 واحداث جودة 1955 سنداً من حيث لا يدرون لواقع التجزئة والانقسام الذي زرعه الاستعمار، ومما ساعد على تفجير قنبلته الموقوتة في توريت 1955 في افراغ الاستقلال السياسي من محتواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. ونجحت في اظهار السياسي السوداني بنظرته المحدودة وانشغاله بهوامش الامور… ودارت المعارك منذ ذاك الحين حول الوفاق.. وائتلاف السيدين وحول الدستور.. إسلامي.. أم علماني.. جمهورية رئاسية أم برلمانية… وجاءت 17 نوفمبر.. واستقبلت جماهير الشعب السوداني التغيير ظانة بأنه بداية للتغيير الجذري ووضع حد للعبة الكراسي حول السلطة…. ولكن باءت احلامها بالفشل.. وتفجرت ارادتها في اكتوبر 1964 وشعاراتها محددة وصادقة.. لا احزاب بعد اليوم.. ولا زعامة للقدامي.. طريق الاشتراكية طريق الخلاص. ٭ وسرعان ما انتكست وعادت اللعبة كما هي من جديد.. احزاب وشقاق ومشاكل ائتلاف.. اختلاف.. قومية.. دستور إسلامي علماني إلى ان جاء نظام مايو.. وأتى بفهم متقدم للمسائل الوطنية وأخذ في التعامل مع السودان بواقعه المتميز المتباين.. متجاوب مع مشكل الجنوب بالرؤية العلمانية الواضحة.. وكان بيان 9 يونيو 1969 القائل باعطاء الجنوب الحكم الذاتي الاقليمي في اطار السودان الاشتراكي الواحد.. ووضع حداً لحرب الجنوب باتفاقية اديس أبابا 1972 ووضع دستور السودان 1973. أواصل مع تحياتي وشكري