أذكر أن ابن جارنا كان معه راديو ترانستور يبدو أنه استعاره من أحد وجهاء قريتنا، جلسنا حوله ونحن أطفال صغار نتسمع ونستمتع في اندهاش ، تشدنا غرابة الجهاز ولا يعنينا الموضوع ، كنا لا ندرك مغزى الحدث.. لكن فيما بعد علمنا أن إعلان نتائج الشهادة السودانية هو الذي كان وراء قصة راديو الترانسستور العجيب.. هكذا الأيام تعيد نفسها .. فقد جددت فينا قصة إعلان مجلس الوزراء سذاجة الطفولة التي افتقدناها في هذا الزمان الأغبر ،الشهادة السودانية وقتئذٍ كان عدد الجالسين لها لا يتجاوز ألفين من الطلاب ، والآن تشنف آذاننا في صباح كل يوم جديد قائمة جديدة من الدستوريين ،برلمان اتحادي، وبرلمانات ولائية وحكومات ولايات وأخيرا حكومة اتحادية إلى أن وصلت الحسبة إلى 1352 شخصاً يتصفون كلهم بصفة الدستورية، هذا غير المستشارين الذين لم نضفهم إلى الحسبة حال كونهم لم تعلن أسماؤهم بعد حتى كتابة هذا المقال. الدكتور البوني أبى أن يحسبها في مقاله الأخير «تشكيلات ومستحقات ومخصصات « حياءًا منه ليس إلا ،على طريقة أهله فتوارى خلف بغضه للرياضيات وكرهه للحساب ، فعفواً أخي القارئ أو أخي غودو إن أضجرت سكونك بهذا العد والحساب، فعليك الانتظار طويلاً طويلاً يا ولدي فالوعد الوعد دولة الرفاه ودولة الرعاية .. ولكن بعد أن توفى من الموازنة مخصصات سبعة وسبعين وزيراً اتحادياً غير المستشارين وخمسمائة نائب برلماني على المستوى الاتحادي وستمائة وخمسة وعشرين نائباً على المستوى الولائي فضلاً عن مخصصات خمسة وعشرين والياً ومائة وخمسة وعشرين وزيراً ولائياً ،هذا غير جيوش المحافظين فصبراً جميلاً يا غودو على ملل الانتظار. وزارات استولدت ومناصب استنسخت لأجل الترضيات ما سمعنا بها في آبائنا الأولين ، كان يقوم بمهامها في السابق جنود مجهولون يقبعون في مكاتبهم بلا ضجة ولا صولجان، كنا نسمع عن شعبة للكهرباء وأخرى للتعدين وثالثة للنفط في وزارة الطاقة والتعدين ،كنا نسمع بشعبة لتنمية الموارد البشرية وشعبة للرعاية الاجتماعية في وزارة العمل ،كنا نسمع بشعبة الإعلام وشعبة الثقافة وشعبة الشباب والرياضة وقس على ذلك بشأن كل الوزارات المستولدة ،وبعد اليوم لن أعجب إن صحوت في ضحى الغد وفتحت عيني على وزير للشباب وآخر للرياضة في بلاد العجائب والغرائب كأني بالمنتخب القومي قد تسنم الذرى وتوشح بكأس المونديال. ليس هذا فحسب بل الأغرب منه أن القائمين على الأمر تناسوا أن دستورهم الذي استمدوا منه المشروعية هو دستور رئاسي مؤسس على الطريقة الأمريكية وليس على طريقة ديمقراطية وستمنستر البرلمانية، ومع ذلك سمعنا في التشكيل الوزاري الجديد عن وزير لشئون مجلس الوزراء ووزير آخر لشئون رئاسة الجمهورية، مع أنه من المعلوم لأي مبتدئ في القانون الدستوري أنه ليس في النظام الرئاسي مجلس وزراء منفصل عن رئاسة الجمهورية حال كون رئيس الجمهورية هو ذاته رئيس مجلس الوزراء بل له الحق في تشكيل حكومته على النحو الذي يختار بعيداً عن تدخل البرلمان ، فلا حجب ثقة ولا حل برلمان ،بل العلاقة بين الطرفين يحكمها مبدأ «check an balance « الشهير،ولكن الظاهر أنه في سبيل توسعة الماعون وامتصاص خمائر العكننة لم ير القوم بأساً في الافتئات حتى على النظام السياسي الذي توافق عليه الجميع لحكم البلاد. قلنا في مقال سابق إن التنمية أصبحت تقاس في بلاد الله الناضجة بخلق الدولة للوظائف المنتجة لكن الظاهر أن بلاد السودان تفردت بإبداع لم تسبق إليه من دول عظمى حققت لشعوبها الأمن الغذائي وواجهت الأزمات إلى أن أصبح فقرها رفاهاً نتطلع إلى إدراكه ومرضها عافية نصبو إلى الظفر بها ولا نحظى بالبغية العصية ، أنظر إلى الهند والصين ترى تقشفاً في الوظيفة الدستورية ونمواً في الوظيفة المنتجة إلى درجة لفتت أنظار المحللين وحدتهم إلى التكهن بأن قيادة العالم عما قريب ستؤول إلى هند غاندي وصين ماوتسي تونغ لا لشيء إلا لأن الآباء المؤسسين فيها تقشفوا وتصوفوا وأورثوا شعوبهم شكيمة التحدي وصنع المعجزات،فأين إبداعنا من ذلك الإبداع وها قد أصبح شغلنا الشاغل أن نكون جميعاً سادة وزراء .. فأنا أمير وأنت أمير فيا ترى من يعلف الحمير؟. والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل. المحامي