لقد ذكرنا في المقالين السابقين أنه ثبت لنا تماما وبعد أن صمت المعنيون عن الرد بنصوص صريحة تثبت عالمية المسيحية، أن المسيحية دين خاص لبني اسرائيل، وكل من لم يكن من بني اسرائيل ليس معنياً به، وانما هو دين سماوي أتى مصدقا «للتوراة ومصححا» لبعض التحريفات التي حدثت بسبب التقادم والغرض. ونحن في تناولنا لهذا الموضوع لم نتعرض لا بالتصريح ولا بالتلميح الى شيء يسيئ للمسيحية كدين اتى من عند الله، لأن الاساءة عندنا لأى دين سماوي او رسول مرسل خروج عن الاسلام وكفر بما جاء به محمد «صلى الله عليه وسلم». لكن موضوعنا دائر حول السؤال أعلاه الذي يبحث عن الاجابة ويغضب الذين لا يريدون للحقيقة أن تظهر ولا للجاهل أن يعلم، غير اننا تحدثنا عن الممارسات من بعض المسيحيين ومنها تجارة الرق التي تمت بعلم الكنيسة، واستصحاب المبشرين في تلك الحملات، ومنها أن للبيض كنائسهم وللسود كنائسهم، وان للمسيحية اكثر من انجيل وأكثر من كنيسة وطائفة. وقد يقول قائل إن الاسلام به طوائف وجماعات كذلك، وتوضيحنا أن الطوائف في الإسلام والجماعات لم تقم على العنصر أو اللون أو الجهة، وقوله صريح في ذلك «إنما المؤمنون اخوة» يقوم بذمتهم أدناهم وتجتمع كل طائفة في مكان واحد، وكمثال لذلك طائفة الشيعة التي تضم عربا وباكستان وايرانيين وغيرهم يجتمعون كلهم في كربلاء، وجميع الطوائف على هذا المنوال، ومثال آخر الصوفية كالتيجانية في أفريقيا تجمع بين الأفارقة والعرب وغيرهم في مكان واحد يذكرون إلهاً «واحداً» وفي أحيان كثيرة يقدمون الافريقي على العربي في الصلاة وقيادة الذكر، وكل المسلمين في الحج - على اختلاف الوانهم وألسنتهم- في مكان واحد يدعون ربا «واحدا» وقد سقطت كل المميزات وتلاشت كل الفوارق، حيث لا ينظر الله الى اجسادهم ولا الى صورهم، ولكن ينظر الى قلوبهم . هذا وقد يقول قائل ثانٍ إن الاسلام كان يمارس فيه الرق، وأن العرب استرقوا الشعوب. وردنا أننا لا ننكر ان بعض المتفلتين من الافراد والمخالفين للشرع قد فعلوا ذلك، كالذي يزني ويعلم ان الزنى حرام ويشرب الخمر والخمر ممنوع شرعا، لكن الاسلام كدين ومنهج لم يمارس الرق كتجارة لكنه وجد الرق سلوكا اجتماعيا متجذرا في المجتمع الانساني عامة فحاربه، وقد بيع سيدنا يوسف رقيقا وبيع صهيب الاوروبي وسلمان الفارسي، كما بيع سيدنا بلال الحبشي، والاسلام كدولة لم يمارس الرق بل رأي الدولة كان واضحا الذي يمثله قول سيدنا عمر: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا» فرأي سيدنا عمر يمثل الرأي الرسمي، لأنه رأس الدولة، ويمثل الرأي الديني لانه احد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتحدى الذين يقولون بأن الاسلام اقرَّ تجارة الرق، نتحداهم ان يأتوا بحديث واحد ولو كان ضعيفا، أو آية واحدة ولو كانت منسوخة شجعت على تجارة الرقيق، بل العكس كل النصوص التي اتت في هذا الشأن اتت لتشجع تحرير الأرقاء، وجعلت ذلك من القربى الى الله، ومن الاعمال الصالحة تحرير الرقاب، بل كان هدف الاسلام الأول تحرير الإنسان من كل عبودية غير العبودية لله وحده، فإن كان الرق قد الغي قانونه قبل اكثر من مئتي عام في امريكا واوروبا، فإنه لا تزال تجارة الرق تمارس، وما قصة أطفال دارفور ببعيدة عن الأذهان. وأخيرا وفي هذه الأيام قد سمعنا وشاهدنا المبشرين الامريكيين العشرة الذين وجهت لهم تهمة أخذ اطفال هايتيين لبيعهم في امريكا، فالناس يتناسون ما هو ماثل أمامهم وموثق بالصوت والصورة، بالاضافة للاسترقاق المغلف المتمثل في رهن ارادة الشعوب والحكومات وتقييدها بالمعونات والقروض، كما قيدوا حركة الأممالمتحدة بحق الفيتو، وابطلوا مفعولها بدول خمسة زائد واحد، يحدث كل ذلك وهم يتحدثون عن تجارة رق مارسها المسلمون ويمارسها السودانيون، لكن الحقيقة كالظل لا يدفنها التراب، فإن كان هؤلاء لا زالوا يمارسون تجارة البشر فالاسلام بدأ بالغائها منذ ظهوره في قوله تعالى :«يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير»، وجعل اصل البشر واحد «يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء»، ولم يقف الإسلام عند القول بل أتبعه بالعمل، فاشترى سيدنا ابو بكر الصديق سيدنا بلال الحبشي وأعتقه فصار بعدها صحابيا يجلس معه جنبا الى جنب في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت المقولة «سيد أعتق سيداً» ومنها انطلق العمل لتحرير الأرقاء، فشجع الاسلام زواج الاماء دون تحديد، حتى يجعل العلاقة بين المالك والمملوكة علاقة زوجية ومودة اكثر من أنها علاقة استعباد، وجعل من كفارات الذنوب عتق الرقاب، حتى عمت الفتوحات الاسلامية بلاد شتى، فكان المسلمون إخوة من الهند الى المغرب، وما دخل العرب والمسلمون بلدا الا صاهروا أهلها وذابوا فيهم كما في السودان. ولم يرجعوا من حيث أتوا ومعهم العبيد والمال، ولم تكن لهم مساجدهم الخاصة ولا مدارسهم الخاصة ولا أحياءهم الخاصة.. هذا الانصهار الذي حاول الاستعمار أن يحد منه بقوانين المناطق المقفولة في السودان، وقانون المناطق المقفولة لمن لا يعرفه هو قانون سنه الاستعمار يمنع به التواصل بين الشمال والجنوب، بالاضافة لاثارة الفتن العرقية والمذهبية، فهم لا ينصهرون مع الآخرين، ولا يتركون من يريد ذلك، ولهذا ظل البيض بيضا والسود سودا في جنوب افريقيا وفي امريكا وفي غيرها. فالاسلام هو الدين العالمي المؤهل لجمع البشرية في اناء واحد وحل مشاكلها، فإنه لم يكن مصادفة أن يضم مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم بلال الحبشي وهو يمثل أفريقيا، وسلمان الفارسي وهو يمثل آسيا، وصهيب الرومي وهو يمثل أوروبا. وهذا هو العالم في ذلك الزمان فلم يكن ذلك مصادفةً، لكنها الرسالة التي أتت لكل البشرية ذات الاهداف الانسانية، فجاءت عالمية الدعوة وحدوية الفكرة تعاونية العمل وجماعية التطبيق. ولا شك عندنا ان الانتماء للاسلام والالتزام بالمنهج والطاعة المبصرة ضرورة لسلامة الطريق، ولا بد من الرشد الانساني والحصانة الاكيدة ضد صور الانحراف والتحريف، فالقيم الاسلامية ثابتة معصومة. والاشخاص زائلون ولا يؤمن جانبهم، ففيهم المخالف ومنهم المنافق ومنهم صاحب الغرض، خاصة في هذه الايام التي سيطرت فيها ثورة المعلومات والاتصال على فضاء العالم، فصارت المعلومة تشكل حسب الطلب، ويبث الخبر وفق الغرض، فعلي الانسان المستمع والمشاهد أن يتبين الحق قبل ان يحكم على الاشياء، لأن الحقيقة اصبحت صعبة المنال في هذا العالم الهائج المائج بالظلم والفساد، كما هو حاصل في العالم الإسلامي من تشويش على الحقيقة والتضليل لطالبها، لكن الصواب أن يكون الحكم على الاشخاص بالمنهج لا بالعكس، فالاشخاص يقاسون بالمنهج ولا يقاس بهم، فكل الذي يحدث وينسب الى الاسلام من تفجير وفوضى ليس من الاسلام في شئ، وكثير ما يفعل ذلك الذين لا يريدون للإسلام خيرا من اعدائه وادعيائه، والاسلام منهجه واضح صريح في قوله تعالي «ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون». هذه هي الكليات والركائز التي بنى عليها الاسلام فكرته، هذا هو الاسلام ومن قال بغير ذلك فقد ظلم. واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله، وان عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله وابن امته وكلمته القاها الى مريم وروح منه، وان الجنة حق وان النار حق، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور، وانه على كل شيء قدير، لا يستشير ولا يستعين بأحد من خلقه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.