ليست هي الآيديولوجيا - ولا الانتماء الحزبي الضيق، هو الذي جعل محمد عفيفي مطر قريباً إلى ذائقتنا الشعرية. فقد قرأناه ولم نكن ندري إلى أي تيار حزبي في ظل الاستقطاب المنظمي الذي ساد الساحة العربية- ينتمي... ولكنا كنا نرى فيه شيئاً مختلفاً - في (بتحدث الطمى) واهتمامه بالاسطورة والحكاية الشعبية.. وبلغة اليوم في ادخاله للسرد في شعره. في بغداد 1986م والمعارك مشتعلة على الجبهة الشرقية، كان مطر في بزته العسكرية.. لا ذلك التفاخر الساذج، ولكنه كان منسجماً مع ذاته، ووفق قناعاته الفكرية والشعرية في ذلك التلاحم الإنساني العميق بين الفكر والفعل. هبطت القاهرة في أول أغسطس 1999م، وقال لي الصديق القاص الكبير حقاً سعيد الكفراوي إن شقة محمد عفيفي مطر حاضرة، ويمكنكم أن تستقروا فيها طيلة الاسبوعين، شكرته وشكرت عفيفي على هذه الاريحية، وقلت له: اننا لا نريد أن نسبب للرجل أية متاعب جديدة. ثم جاء محمد عفيفي مطر إلى الخرطوم بدعوة من مركز الدراسات السودانية، ولقيناه في فندق المريديان (سابقاً) وكان هو نفسه، ذلك الرجل الصامد المقيم على انتمائه ووعيه. وكان قبلها قد زار السودان في السبعينيات، وكان دائم السؤال عن الشاعر يوسف الحبوب الذي جمعته به في القاهرة وبغداد جلسات شعرية. في كتابات محمد عفيفي مطر الشعرية - ومحاورات الشعر التي سطرها العراقي محسن اطميش تعقيباً على قصائد مطر وما جرى له. وفي آخر التسعينيات قرأت له قصائد (احتفاليات المومياء المتوحشة) التي اهداها إلى طفلته (رحمة) (لم أكن التفت لشيء سوى يديك النائمتين حول (الدبدوب) المحدق بعينيه اللامعتين، ولم أكن أخاف شيئاً سوى يقظتك بمفاجأة للجحافل وهي تلتقطني.. أما الأثر الباقي على عظام الأنف الذي لا تكفين عن السؤال حوله: فهذا هو الجواب: زيارة: كان هناك أمير يغفو من تعب التجوال يصحو، يحصى ايقاعات الريح وتفعيلات الفوضى والتدوير النازف من «عاصفة الصحراء» ويلفق مُجتثَّ سلالته بالهزج الراقص بين جيوش الغزو وبين سموات الموتى ينثر مقتضب الدمع على قافلة الرجاز القتلى ومراثي الاطلال كان يقلب في لهجته الرثة جمر ملامحه بالبرد الأسود والخبب الشتوي فنبض بالاشلاء البرك الأرصفة وأيدي الاحياء الموتى قلت:- اركض في متدارك موتك، لملم وقع خطاك وغادر سر الشجر النائم واسترجع بعض رمادك، انت رمادٌ ثرثرةٌ يتساقط من كتب الانواء فلم تقتل بين القتلى، وهشيمٌ انت تذريه الريح على تفعيلة أكوان تتهدم في حمم الاهوال ارضك مفترق تتسع به ارض الاغيار، وتعبره أمم وجيوش، للأقوى وعبيد الأقوى ميراثٌ أنت لمن يرثون، على كتفيك تكسرت الامواج تواريخ مجاعات وطغاه منكسرين ومزهوين بتدليس «الابهة البيزنطية.» الليل صقيع وروائح لحم الانسان المشوي طرائد منسرح الريح، الشاعر يتلمظ جمر جوارحه، ويميل إلى المقهى يحصى منهل الدمع، يرتبه اوزاناً اوزاناً، يتحيد في وتدٍ مفروق أو مجموع، يسترجع آثار يديه الراعشتين عن الأواب وايدي الاصحاب وحبر الصحف، وقرص الهاتف والمنديل الورقي، ويرقب أعينهم - كانوا اربعة بصامين وجلادين - عُتُلُّ منهدل السمنه يلمع سالفه من تحت الصلعة.. يسلح في كل صبيحة «مايو» أو أو يلحس ما يسلح من كذب الاوغاد المأجورين، ولص الأشعار الضائع في اوهام قزامته يتخلل لحيته باصابع من دخان الشيشة أو لفتات وقاحته الهشة كان الثالث من تسع سنين - بتسمع أو بتشمم وقع خطاي.. بقامته الفارعة المشدودة والعينين الجاحظتين وأرنبة الأنف الذئبية (كانت تنفخ فقاعات البيرة في أكواب الحفلات الخيرية) رابعهم جرو مفروق الشعر، خفيف، بنصت في ركن منفرد من ارصفة المقهى يغوى الشعراء المبتدئين بسمت بلاهته المندهشة) ......... ومحمد عفيفي مطر شاعر كبير وله حضوره البهي وهو من الذين زاوجوا بين جماليات القصيدة، ومضامينها الانسانية والثورية. وقد ظل بوعي الشاعر والثوري، وصدق الفلاح - فهو ابن رملة الانجب - وكانت حدوده هي حدود الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج - صادق في انتمائه، ثوري في مواقفه.