جنينة النزهة كما كان يسميها آباؤنا أو حديقة الحيوانات كما تعارف عليها جيلنا والأجيال اللاحقة كانت تقع في قلب الخرطوم في موقع برج الفاتح (الحالي)، وتطل على النيل من الجهة الشمالية بينما تشرئب رقاب الزراف من حظائرها الجنوبية المطلة على الإدارة المركزية. هناك نكتة شائعة وقديمة أطلقها بعض الظرفاء عندما كانت وسيلة المواصلات بين الخرطوم وأمدرمان هي (الطرحة) أو عربة التاكسي التي يركبها خمسة من الركاب مقابل (شلن) من وسط الخرطوم إلى وسط أمدرمان، وعندما تصل عربة (الطرحة) هذه أمام موقع قاعة الصداقة الحالي كان السائق يخير الركاب بين شارع النيل وشارع الإدارة المركزية. تصادف أن إختار أحد أبناء الإقليم الجنوبي خيار شارع الإدارة المركزية (شارع الجامعة) ولدهشة السائق فإن هذا الراكب لم ينزل إلى أن وصلت العربة إلى محطة الخرطوم الأخيرة، فتعجب السائق وسأل المواطن الجنوبي لماذا اختار طريق الإدارة طالما هو لم ينزل إلا في المحطة الأخيرة، فأجابه الراكب بتلقائية مستنكرة قائلاً (يعني زراف ما نشوفو)! هذا المواطن الجنوبي هو إبن بيئته ويحن إليها كما يحن أهل البطانة لمشهد قطعان الإبل، أو كما تحن قبائل البقارة في كردفان ودارفور لمشهد أبقارهم الوافرة. هذه النكتة على قدمها تعكس تنوع مناخات السودان المختلفة من البيئة الصحراوية إلى بيئة السافنا وإنتهاءً بالمناخات الإستوائية وبالتالي تعكس أنماطاً مختلفة من الثروة الحيوانية بشقيها الأليف والوحشي التي يتمتع بها وطننا الرحب الفسيح. هذا التنوع البيئي جعل من حديقة الحيوان في ذاك الزمن بمثابة المستودع الحي الذي يجسد هذا التباين، كما أن الحديقة في ذاك الزمن الجميل كانت تضم أنماطاً من الحيوانات حتى من خارج القارة الأفريقية مثل الدببة القطبية التي جيء بها إلى الحديقة من صقيع شمال أوربا وتم تركيب مكيفات الهواء في أقفاصها ويتم تزويدها بألواح الثلج يومياً. كل هذه الثروة تبددت بين عشية وضحاها بعد أن بيعت الأرض لمستثمرين ليبيين مع وعد بتشييد حديقة بديلة في أسرع فرصة ، وهو وعد سرابي لم يعبأ به من أطلقوه بعد أن قبضوا الثمن وفوقه عمولات دولارية بالملايين. هكذا تم تهجير حيوانات الحديقة وتوزيعها بشكل عشوائي على بعض الحدائق الصغيرة فنفقت غماً وحسرة. إن تصفية جنينة النزهة أو حديقة الحيوانات بهذا الأسلوب الهمجي يعد جريمة في حق أجيال كثيرة من الأطفال والكبار الذين صودر من حياتهم أرشيف علمي وحي ، والذين باتوا لا يتعرفون على الفيل أو الأسد والنمر أو فرس البحر أو الدب القطبي إلا من خلال شاشات التلفزيون، وهي معرفة تتضاءل أمام معرفة المشاهدة الحية حين يطعمون الفيل أوراق الشجر بأيديهم أو يلقون بالموز والتسالي إلى القردة، أو حين يشاهدون الأسد بأم أعينهم وهو (يطأ الثرى مترفقاً من تيهه فكأنه آسٍ يجس عليلا)!! كل هذا الغضب والحزن عصف بنفسي ونحن نهدر حديقة حيوانات واحدة يتيمة في حين جاءت الأخبار قبل سنوات بأن قطاع غزة المحاصر والذي لا تتجاوز مساحته ربع ولاية الخرطوم بات يملك ست حدائق حيوان إجتهد أهل القطاع على إمدادها بالحيوانات النادرة عبر تهريبها بواسطة الأنفاق السرية!