الخرطوم :فاطمة رابح ما أن دخل صالة الوصول بمطار الخرطوم قادما من جوبا أمس مع فوج الإجلاء الا و أخذ اقرب مكان صادفه وجلس فيه وانخرط يجهش بالبكاء ، ويكفكف الدمع ، لم يكن ذاك الشاب الثلاثيني وحده من بكى فرحا بالوصول سالما من شبح الموت الذي كان يطارده فقد انزوى في زاوية أخرى شاب يماثله العمر وانخرط في نوبة من البكاء .. لتصوب أجهزة الاعلام كاميراتها وعدساتها نحوهما لالتقاط صورة معبرة لا تحتاج الى كثير من التعليق ، سوى ان تقول انها حالة الناجين من الموت . ويشعر العائدون من جوبا والتي شهدت حربا بين الرئيس سلفاكير ونائبه رياك مشار امس بصدمة وتوترات كبيرة قبل معانقتهم تراب أرض « الوطن» أمس، اذا تحولت تلك المشاعر بين يوم وليلة الى درجة من السعادة الغامرة ، تاركين الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على الروح وملاقاة الأهل حسبما يؤكدون في استطلاع واسع اجرته «الصحيفة »أمس وسط عدد من السودانيين القادمين من دولة الجنوب ، حيث اقسم معظمهم انهم لن يعودوا أدراجهم ثانية ولن يفكروا في ذلك مجرد فكرة، قاطعين بان الاحوال اصبحت من سيئة الى أسوأ في جوبا العاصمة الحضارية للدولة الوليدة ،الا ان نفرا من العائدين لا يتجاوزون عدد اصابع اليد الواحدة تركوا الباب مواربا تجاه عودتهم مجددا الى محل المغادرة الاضطرارية منها . ولاحظت «الصحافة » ان العائدين ومعظمهم ينشط في مجال التجارة كانت اياديهم فارغة تماما من اية محمولات يدوية تحسب انها ثمينة ، والبعض كان يتأبط كيسا بلاستيكيا تبدو بداخله بعض الأوراق ومقتنيات شخصية ، ثلاثة أطفال لمحمد رابح عبروا ببراءة ل«الصحافة » كيف ان صوت الرصاص والضرب اشاع داخلهم كمية من الخوف والتي تملكتهم بما في ذلك والدهم -وهنا يتقطع حديث الاطفال ليضيف رابح مبتسما ضاحكا ان ماذهب اليه اطفاله حقيقة لاينكرها من عايش الحرب ويزيد نعم فقد كان الجميع خائفا بطريقة لا توصف حيث كان الموت يحيط بنا من كل ناحية . حديث محمد رابح لم يكن مخالفا عن بقية متحدثي «الصحافة » حيث قطع كل من الزين النور والحاجة عائشة علي وحسن الطيب : وبكلماتهم البسيطة والعفوية لكنها تعكس حجم المعاناة وكمية الرعب التي تلبستهم مما دفعهم لاكل وجبة واحدة عبارة عن عصيدة او قراصة بملاح عدس وتستلقي أجسادهم تحت الاسرة للراحة حينما يحل الليل فلا مجال للخروج من المنزل او التجوال كثيرا داخل الحوش وقد جزم محدثي انه لم ينام ملء جفونه منذ ليلة الاثنين ولمدة 6 ايام متتالية حيث يكون حالهم ليلا مثل «نوم الديك في الحبل » وتعود عائشة ذات ال80 عاما ، و تشير في حديثها الى انها ومن شدة الرعب وقعت من طولها وكسرت يدها . ويقول المتحدثون الى أن «من رأى ليس كمن سمع » في اشارة الى حالة الفوضى العارمة في كثير من أحياء جوبا حيث يتعرض الشماليين للنهب والسرقة واقسموا بانهم باتوا غير قادرين على التمييز بين المجموعات التي كانت تهددهم داخل متاجرهم هل هي مجموعة الحكومة أوالمعارضة ؟ حيث اختلطت على انظارهم الوجوه ، مبينا ان التواصل مستمر عبر الهاتف بين السودانيين في جوبا غير ان اصعب المواقف المريرة تلك التي حكاها لي حسن الطيب محمد حينما قاموا بتشييع «4» من أبناء السودان في مقابر المسلمين وذلك تحت دوي الهاونات واطلاق الرصاص الكثيف . شكراً للرئيس البشير وابتدر الحديث الزين النور من منطقة «عسلاية » بولاية النيل الابيض يسكن حي «الثورة » في جوبا بالشكر والثناء أجزله للرئيس عمر البشير لاهتمامه برعاياه السودانيين واجلائهم من مناطق الشدة والحرب في جوبا واية بقعة، واستطرد قائلا «البشير يهتم بالسودانيين وبغير السودانيين » ، ثم يواصل الشكر عاليا لجهاز تنظيم شؤون السودانيين بالخارج السفير حاج ماجد سوار ولطاقم السفارة السودانية في جوبا التي كانت قبلة لأصحاب المحنة واستقبلت بصدر رحب كل راغب في الخروج، وقطع بان الاحوال في جوبا اصبحت تغلي وصعبة للغاية، وقال انه على الرغم من ان شرارة الحرب لم تمسهم بسوء الا أنه ومع «8» من أصحابه السودانيين حيث يسكنون منزلا واحدا ويمتهنون اعمالا حرة فقد تملكهم الذعر والخوف من الموت، وقال ان وجبة العصيدة والقراصة بالعدس كانت سيدة المائدة كل يوم، علما بانها وجبة واحدة خلال اليوم، وقطع بانه لن يعود الى جوبا وسيعيش في البلاد باي حاجة، وحول كيف نما الى علمهم عملية الاجلاء، قال ان الأنباء تناقلت في ان الرئيس عمر البشير، اطال الله في عمره، سيرسل طائرات لنقل كل السودانيين وعقبها تواترت الاخبار عبر الاتصالات فيما بينهم ، و سمعوا من الاذاعة والتلفزيون والصحف ان هناك عملية اجلاء الى ان أخطرتهم سفارة السودان في جوبا بذلك، وقال ان العارف اصبح يخطر غير العارف ممت ادى الى انتشار الخبر على نطاق واسع ثم بدأت مسيرة الوصول الى السفارة عبر سيارات خاصة وذلك في ظل انعدام تام للمواصلات وتوقف الحياة وخطورة السير على الطرقات العامة . وحول أصعب اللحظات التي لاينساها يقول حسن الطيب من ابناء النيل الابيض ويعمل تاجرا بسوق كنجو كنجو ان جميع اللحظات التي عاشوها خلال اندلاع الحرب الاخيرة بين سلفا ومشار لن ينسوها لانها قاسية ومخيفة بكل المقاييس، وقال «الخوفة الدخلتنا صعب ان تخرج » في هذا الصدد – يشير الى ان مجموعة من السودانيين خرجت وعبر الاتصال لتشييع اربعة شماليين ماتوا اثناء اندلاع الاحداث تحت وابل الرصاص وأصواتها المربكة، حيث دفنوا الاربعة في مقبرة المسلمين بالقرب من سوق كنجو كنجو، ويأخذ حسن نفسا عميقا ويرجع في حديثه ليوم اندلاع الاحداث حيث جمعوا صلاة المغرب والعشاء في الجامع وناموا فيه حتى الفجر ليجدوا الناس مهرولين هروبا ناحية النهر، بيد أنهم لزموا بيوتهم ولم يخرجوا منها نهائيا ، موضحا ان المخزون السلعي في البيت الذي يعتمدون عليه على وشك الانتهاء ، وعما اذا كانت لديهم مطالب يدفعون بها للحكومة تكون خاصة بالحقوق والممتلكات فقد كان رده يفطر القلوب، حينما قال ان الله كريم ولطيف بنا » لا نريد شيئا سوى سلامتنا وسلامة من تركناهم لأن اجسادنا هنا وقلوبنا معاهم . الجام الدهشة أما معتصم فضل المولى وهو قادم من حي أطلع بره بجوبا الجمته الدهشة وهول ما حدث وانخرط في البكاء ويردد بصوت مسموع «انا ما مصدق اني ارجع سالم » ، ويضيف من كان بجانبه وهو من ابناء سنار حينما قال لي «انا ما خجلان لاني بكيت ولو كنتي معانا هناك كان بكيتي اكثر مني »، قاطعا بانه جاء مثل ما ذهب لايحمل شيئا وسيعيش بين اهله في سنار بأي وضع وفي اي مهنه لجهة انه لا ينوي الرجوع الى جوبا . بينما أكد الطريفي البشير وهو تاجر في حي« جلابة » انه لم يسمع بصوت الذخيرة قط في حياته الا حينما اندلعت الحرب يوم الاثنين، وقال احتمال يعود اذا استقرت الاحوال، مشيرا الى ان ممتلكاتهم موجودة في السوق بكاملها ولم تخرب حتى «الامس». اما ريم عبدالله صالح ابنة احد الموظفين في السفارة السودانية اشارت الى انها ذهبت لقضاء الاجازة مع والدها ، لافتة الى انهم وجدوا معاناة في الطريق من الجيش الشعبي المنتشر اثناء توجههم من منزل أسرتها في حي تومبي نحو منزل السفير، بالرغم من ان العربية التي يمتطونها مكتوب عليها هيئة دبلوماسية ، حيث كان السؤال على شاكلة «من انتم وماشين وين ولشنو؟ »، وابانت ان منزل السفير ظلت ابوابه مفتوحة للسودانيين الراغبين في الخروج بحكم انه قريب من مقر السفارة ،و ريم أكدت ان السودانيين لم يكونوا مستهدفين من قبل المتقاتلين الا انها اشارت الى عمليات السرقات والنهب والرعب التي طالتهم. قتل وضرب وتهديد ويشير عبد السلام حسين يسكن ويعمل في سوق الجبل الى ان مجموعة اقتحمت السوق والذي يعج بكبار وصغار التجار الشماليين ، نهبت وسرقة بل روعت التجار ومن لا ينصاع الى أوامرها تقابله بالضرب والقتل، مبينا انه فقد اشياء من متجره «بوتيك» في حدود ال«80» مليون جنيه لكنها لا تسوي شيئا مقابل انه عاد سالما. وبالمقابل يقول رامي يعمل ميكانيكي ان أكثر السودانيين الذين تأذوا في محل اسمه «107» وكتور وقال ان هناك عادي ان ترى الجثث في الشوارع لان المتحاربين شغالين اطلاق نار «24» ساعة ، واضاف «كان يومك تم خلاص » على حد قوله. وزاد ان بيوت النوير والدينكا معلومة لذلك يقوم النوير بهجوم على الدينكا في عقر دارهم والعكس، بل كل من يخرج بعربة او موتر يتم ارغامه على النزول وتتم عملية المصادرة، لافتا الى انه طلع من السودان الى جوبا بكيس وعاد منها خالي من اي شئ ، وقال انه لايكذب غير سريرين لم يترك خلفه شيئا ، وقال ان سعر الرغيفة الواحدة بلغ «5» جنيهات، والمواد الغذائية في المحلات ستنفذ قريبا في ظل عمليات سرقة ونهب وناس تشتري بالجملة، وانهم ابان الاحداث اشتروا جوال ذرة واصبحوا يعوسون العصيدة ويأكلونها بالماء. في حين ترك الأمين عبدالغفار -تاجر بواو لمدة 45 سنة -ترك ابنتيه من زوجته التي تنتمي الى قبيلة الدينكا في جوبا -عبدالغفار يشير الى ان الاحداث قابلته حينما كان يهم بزيارة الخرطوم عبر جوبا -قاطعا بان أسرته الجنوبية لن تغادر جوبا وان الله وحده يحرسها . ويقول ادم محمد انه كان يعمل في بقالة ومثلما خرج من البلاد بدون فلوس فقد عاد اليها كذلك بفضل الخوف لانه ترك كل امواله في سبيل سلامته ولا معين سوى الله . من ناحيته أكد الصادق محمد أحمد مسؤول صندوق دعم الوحدة وعضو لجنة الاجلاء ان عملية اجلاء رعايا السودان المسجلين ستكون مستمرة لحين نقل جميع الراغبين ، مشيرا الى انه شهد «3» رحلات في حين وصل باكرا «78» سودانيا، وقال ان جميع السودانيين في جوبا بخير وليس بينهم حالات وفاة او اصابات وذلك بالاستناد على تقارير رسمية من غرفة العمليات في جوبا .