شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدشن أغنيتها الجديدة (أخوي سيرو) بفاصل من الرقص المثير ومتابعون: (فعلاً سلطانة)    نائب وزير الخارجية الروسي من بورتسودان: مجلس السيادة يمثل الشعب السوداني وجمهورية السودان    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المطرة والخريف في ذاكرة القضارف
نشر في السوداني يوم 21 - 09 - 2012

تقدم بنا العمر ومع تقدمه يكبر شوقنا للقضارف وطوال عمرنا وفي كل خريف يزداد الشوق ويتقمصنا شعور "النوستالجيا" ولا بد من شد الرحال للقضارف على كل ضامر وراجل وطاير من مختلف الأماكن والبلدان، لأخذ رضى الوالدين ودعواتهما ولبل الشوق وتقوية المناعة للأيام القادمة ولمآرب أخرى... وقبل أيام تقاطرنا للعيد في القضارف وكان عيدنا عيدين بتحولقنا كلنا أولاد وبنات وأحفاد وأولاد الأحفاد حول الحجة الوالدة "السعدية بت الخليفة ادريس بخيت ود الخلفاء وبت الحجة البتول بت عجبنا" أطال الله عمرها ومتعها بالصحة والعافية. ويا لها من لحظات تعادل الدنيا وما فيها، ويا لها من ذكريات تخرج طرية من خشم الوالدة عديم السن بسبب التقادم وصرخات قوية تخرج من خشم بت الحفيدة أيضا عديم السن بسبب الصغر بعد أن قرصتها بعوضة كبيرة عديمة الشعور وقليلة الذوق ... ويا لها من ذكريات.
و تدحرج بنا بص الجيلاني - الذي تحصلنا على تذاكره بشق الأنفس وكالعادة بعد التدخل السريع من صديقنا، وقريب جارتنا المرحومة الوالدة حجة الجودلية، الأخ البوشي - في الصباح الباكر من الخرطوم متجهين الي حيث يوجد الفؤاد، ودائما يخفق القلب وتختلج المشاعر الجياشة حتى ندخل القضارف ولا شعوريا تقول لجارك في البص "ظهرت الصومعة وشوف القطاطي والصرفان والشوارع المخموجة بموية المطرة" ... وما فيش أحلى من كده.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *ما الحب الا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبدا لأول منزل
نعم حنيننا للقضارف أول منزل. وهذه الأبيات المعبرة تذكرني بصديقي د. كاظم السفير العراقي في سلطنة عمان، في التاريخ الغابر، حيث تتوسط هذه الأبيات ديوان منزله الجميل الدافئ بمشاعره العذبة المشربة بالمياه "الفرات" من شواطئ الفرات. وكلما التقينا يسرقنا الوقت وكلنا يحكي للآخر عن موطنه الكبير وموطنه الأول حيث أطلق صرخته الأولى وحيث دفنت "صرته". وصار صديقي ابن البصرة يعرف كل شيء عن قضروف سعد ويردد معي يا سمسم القضارف والزول صغير ما ...، واذا سأله أحد الحاضرين عما يترنم به يقول "هذه أمور قضارفية بيني وبين ابن القضارف فقط" وهذا يكون المدخل لي وأخذ زمام المبادرة بالحديث عن القضارف وما أدراك ما أقوله عن القضارف "مطمورة" السودان وعن أهلها الكرام العزاز في كل الفرقان والديوم من ديم حمد "الحي الراقي" وديم بكر "حي الناظر ويكفي انو من أولادو الرشيد الطاهر بكر والكابتن منصور بكر أحد كباتن نادينا نادي الاصلاح العظيم، ومن حبنا لنادي الاصلاح نسمي به بناتنا فلذات أكبادنا " وديم النور "معقل قائد جيوش المهدية النور ود عنقرة" وما بين هذه الديوم وما بعدها وما حواليها من كل الاتجاهات والأطراف، فكلكم كرام عزاز ونحن بكم ومنكم ولكم ... سواء من ديم الخامة أو ديم سواكن أو الصوفي أو ود الكبير أو الميدان أو روينا أو الجباراب أو طردونا أو المفرقعات أو أم شجرة أو أبايو أو سلامة البية أو حي الدناقلة أو عصار أو كساب أو دوكة أو حلة الملك أو غريقانة أو دلسة او حلة الفكي حسن ..... وعفوا لمن نسيناهم، ألم اقل لكم في المستهل تقدم بنا العمر ... فكلكم سواء من وسط المدينة أو أطرافها يجمعنا معكم سماء وظل وخريف القضارف.
وقبل أيام، امتلأت رئتنا وأجوافنا بريحة الخريف والدعاش وتكحلت عيوننا بالندى المتجوهر من دخولنا حدود القضارف حيث الخضرة تشع من وسط وفوق وتحت المياه على مدى البصر وتملأ السراب في كل الاتجاهات. وأنت في داخل هذه اللوحة الفانجوخية ينتابك شعور غريب الجمال عندما ترى المنظر الأزرق الضبابي والسبات الأخضر المتأرجح بخروج أطياف الناس والحيوانات الجزلة وهي تأكل العشب الطازة الفريش وترتجعه بلذة متناهية وحالها يدل على شكرها لربها الكريم، ولم لا تشكره وبطونها ممتلئة بأحلى الأعشاب الندية ومترعة بمياه الأمطار العذبة المنسابة من كل مكان.
اقول هذا وأنا أشاهد فسيفساء هذه المناظر القزحية وأيضا أشكر الله وخشمي يتمطق من طعم مياه الأمطار التي كنا نبلعها ونرشفها من المطر مباشرة، ويا له من طعم تقيل وغريب اللذة لم يشعر بمثله "الذواقة" في أي مكان في العالم، ويا حسرتهم بالرغم من تجاربهم العالمية في التذوق الا انهم محرومون من تذوق أحلى "دوقة" طبيعية مرسلة مباشرة من السماء بنكهة طبيعية وبتوجيه ذري مبرمج من الواحد الأحد...
والمطرة في القضارف حياة وتراث ومعيشة ومعايشة بل وعلم يتشبع به أبناء القضارف من آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم ومن ممارسات وأقوال مزارعيهم من أصحاب البلدات والجدعات ومشاريع الزراعة الآلية خارج وداخل التخطيط وهذه كلها مسميات قضارفية من أصحاب جنين طق الهشاب والصمغ العربي وزراعة الدبر والفترتية الحمرة والصفرة والمقد والمايو والعكر و"التترون" والسمسم وزهرة الشمس والكوار ... وغير هذا من الحياة الخريفية الحلوة في السهول المنبسطة من مسارات المراعي وما بها من الثروة الحيوانية الأليفة والبرية وكل هذا في وسط الغابات المتداخلة والموارد الطبيعية الأخرى .... الأخرى ...
وأهلنا من المزارعين، وحتى البسطاء، لديهم علم بمنازل القمر " وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) "سورة يس. ونحن أهل القضارف نعرف، وبدون فخر، معنى هذه الآية ربما أكثر من غيرنا ونتابع القمر من بزوغه لاكتماله وحتى نهاياته في شكل العرجون وذلك لارتباطنا النفسي بالخريف والمطرة التي نعرفها بمنازل القمر. وأهلنا يعرفون القمر وهو يسبح في فلكه ويعرفون أسماء وصفات النجوم الدائرة من حوله في أفلاكها الميسرة . ويعرفون أن للقمر ثماني وعشرين منزلة تبدأ بمنزلة الشرطين والبطين والدبران والهقعة والهنعة والذراع حيث يبدأ الخريف. ونتوقع المطرة دايما من يوم سبعة شهر سبعة في كل عام - وبمشيئة الله – يبدأ الخريف الجميل وتبدأ المطرة الحلوة ومعها تتغير حركتنا وألعابنا كأطفال وكل حركة المجتمع القضارفي وحتى حركة الكبار تتغير لأنو في الأيام دي يبدأ أهلنا من المزارعين في التجهيز للزراعة وترتفع وتيرة حركة أهل الزراعة ومعهم تنشط كل الحركات والكل لاهث مشغول بسبب الخريف والزراعة .. والسباق مع المطر والا تكون خارج ...
و اذا عدنا لمنازل القمر، نلحظ أن كل منازل القمر مدتها تقريبا 13 يوما ما عدا الجبهة التي تكون 14 يوما. وهذا من حكم الله الخاصة بأسرار علم الفلك والتنجيم، ونقول ... ما أوتيتم من العلم الا قليلا ... وفي القضارف حبانا الله ببعض العلم بمنازل القمر لارتباطنا الأزلي بالمطرة والخريف عماد وساس القضارف. ونذكر أن منازل القمر الخريفية تبدأ بالذراع "و نسميه الدراع" ويدخل تقريبا من يوم سبعة سبعة حتى عشرين سبعة (13 يوم) والانسان كما نعرف يعتمد على الدراع في البداية وهكذا الخريف. وبعده يأتي منزل النثرة "و نسميه النترة" ويدخل تقريبا من يوم عشرين سبعة لغاية اتنين تمانية (13 يوم) وهو النثرة لتتناثر المياه لتبليل الأرض وتجهيز الملعب للحراتة والزراعة. وبعده يأتي منزل الطرقة ويدخل تقريبا من يوم تلاتة تمانية لغاية يوم أربعطاشر تمانية (13 يوم) "و نسميه الطرفة البكاية" لأن المطرة تنزل كالبكاء نعم السماء تبكي في هذه الأيام بحول الله لتملأ الأرض بدموعها الطاهرة ويكون البكاء مستمرا ومتقطعا لفترات متفاوتة تسمح للأرض بامتصاص موية المطر ليرتوي الزرع ويقوى عوده ليؤتي ثمره ويا سبحان من خلق كل شيء من الماء ويا سبحانه القائل " ( وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) " سورة يس. بلى نشكرك يا ربي لأننا في القضارف نأكل من ثمرك الذي تلهمنا برمي بذرته في الأرض وأنت تخرج ثمرته متى ما تشاء وكيفما تشاء وأينما تشاء سواء في القبوب أو القدمبلية أو أم سينات أو سمسم أو الفشقة أو أبو سبيكة أو دوكة أو الصعيد ... أو في "البلدات" الصغيرة خارج القرى والمدن، أو في مساحة الأمتار الصغيرة داخل الحيشان وخلف القطاطي حيث تعلمنا زراعة الخضرة والبامية والبنضورة وكل صباح نجري نشوف الحصل شنو وكأننا نريدها تطلع بين في يوم واحد ... ولا ندري أن هذا من آيات الله تعالى ... " وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا .. (33)... " سورة يس
و بعد الطرفة البكاية يأتي منزل الجبهة ويدخل تقريبا من يوم أربعطاشر تمانية لغاية سبعة وعشرين تمانية (14 يوم) " ونسميها الجبهة النداية" لأن ذرات المطر تعلق بالزرع لتكون الندى الذي يعطي الزرع النداوة والماء والبيئة البيولوجية المطلوبة لينمو ويكبر لنأكل من ثمره كما أراد الخالق .. الذي أطعمهم من جوع.. ولذا منزل الجبهة الأطول. وفي هذا الجو المطري يحلو اللعب والجري وفي الليل نبدأ القحقحة والتلوي في العنقريب والوالدة تقوم تجيب الزيت وتمسحنا مع التركيز على الصدر وهي تتمتم بما لا نفهمه، والوالد رحمه الله دايما مستعد وفي جيبو القرض وبعد المصة "الإجبارية" للقرض يديك حبة بلحة لابتلاع مرارة القرض الزؤام ويديك الإبريق عشان تمضمض خشمك قبل ما تنوم. والغريبة انك الصباح تصحي "بمب" وتاني تجري للمطرة وسبحان من خلق الداء وألهم بالدواء.
و بعد "الجبهة النداية" منزل الخرثان ويدخل تقريبا من يوم سبعة وعشرين تمانية لغاية تمانية تسعة (13 يوم) "و نسميه الخرسانة الكركاية" لكركرة الرعد وفي هذا المنزل ينشط "ملك المطر" حيث يأتي بالرياح العاتية والرعود القوية والصواعق المخيفة، ومن يزورنا من الأهل والأصدقاء من خارج القضارف في خلال هذه الأيام ترتعد فرائضه من الرعد ويقرر العودة سريعا ... ونعذرهم لأنهم غير متعودين على الكركاية وما فعلته الكركاية ورعدها في حمار " كلتوم " ست اللبن.
وتتميز الخرسانة بالعواصف الرعدية والهوا القوي البقلع بعض موية المطرة ويأخذها لبعض المناطق البعيدة القاصية وكما نقول "ترمي بعيد وترمي قريب" لتتسع دائرة الرحمة ويعم الخير كل المناطق ويفرح أهلنا ويقولوا الحمد لله المطرة عامة وأيضا يا سبحان أرحم الراحمين الذي تغطي رحمته كل مكان وكل بكان... كما تقول الحجة الوالدة السعدية بت البتول وهي ترقب المطرة وتسرع، كعادتها، في لملمة أغراضها المشتتة في الحوش من موية المطرة والهوا وتقول لينا جيبو داك وجيبو داك وخطو الطشاتة قدام باب القطية عشان تنزل فيها موية المطرة وتنهانا بشدة من اللعب بهذه الموية أو اللعب في المطرة الخرسانية لأنها قوية وحبتها كبيرة وخبطتها حارة وفي الغالب تأتي ب "البرد" الذي نفرح به كثيرا ونتلقاهو بأيادينا الصغيرة ولكنه يذوب سريعا، ودايما الكبار يكونوا شفقانين من شقاوتنا عشان ما نمرض ليهم ونزيد مسئولياتهم الكتيرة بسبب الخريف ... ونحن في عالم تاني نلعب مع أولاد الجيران في الحيشان والخيران نبحت عن ود المطرة أبو الألوان القرمزية وأم ديبيلو وأم أربعة وأربعين وأبو الحرقص والدود الأخضر وأبو الدرداق أو الحشرات بألوانها القوس قزحية ووسطها ومعها النمل بقبايلو وممالكو ... ويا الله أين هذه السلالات والممالك وكلها "أمم" مثلنا، فأين هي الآن ؟ وقد نكون تسببنا في انقراض معظمها .... أين هي ؟ أين هي ؟
و نحن مع انغماسنا في اللعب لا نكترث لنداءات الدخول من المطرة إلا إذا تكهرب الجو بالبرق وزمجر الرعد الرعيد وفي لحظتها بالغريزة نترك كل شيء ونجري مذعورين خايفين بحثا عن حضن الوالدين أو لننحشر تحت العنقريب ظنا أنه سيحمينا من القدر إذا تقدر ... وأذكر الوالد رحمه الله يقول لنا باطمئنان ما تخافوا لأنو البتسمعو صوتو ده انتهي وما بضركم ... وطبعا لم نفهم ما يقصدو الوالد إلا بعد سنين وسنين ... رحمك الله يا والدي رحمة بقدر عظمتك وشموخك وأبوتك.
و بعد الخرسانة منزل الصرفة ويكون تقريبا من يوم تسعة تسعة لغاية اتنين وعشرين تسعة (13 يوم) وسمي الصرفة لانصراف الحر وبداية البرد والسقط الحار وتجهيز البطاطين وحطب الدخان لتدفئة القطية وطرد الحشرات والحطب مرطب من المطرة ويقاوم النار بالرغم من الهبيب بالهبابة المهببة ... وبعد منزل الصرفة يدخل منزل العواء ويكون تقريبا من يوم تلاتة وعشرين تسعة لغاية يوم خمسة عشرة (13 يوم) وسمي منزل العواء للأصوات العديدة التي تخرج معوية وتصاحب المطرة في حلها وترحالها ونقول السحاب بتشاكل مع بعض والضعيف ينزل للأرض ويا له من نزول. وآخر منازل القمر الخريفية هو منزل الشماك أو السماك الأعزل لأنه يصبح الوحيد الأعزل وتقريبا يكون من يوم ستة لغاية تمنطاشر عشرة (13 يوم) ومن هذا التاريخ تقريبا يودع أهلنا المطرة ومنه يدخل الخريف في التاريخ وينتهي كما يقولو بخيرو وشرو ...
و تدخل كل القضارف وكل مزارعيها وعمالها في الكمبو وإداراتها الزراعية في نشاطات أخرى مختلفة خاصة بالتجهيز للحصاد، ومن زرع حصد، وقبل ذلك هناك نشاطات الكديب والنظافة اليدوية والآلية ووقاية المحاصيل وحمايتها بالرش الجوي والمبيدات الضرورية لمحاربة الجراد والقبور وساري الليل والطيور والحشرات والحشائش البروس ... ويكون الصغار والكبار فرحانين بالعنكوليب والعدار والتبش والمليتة والحميض والتمليكة والنبق والسيسبان والقرض واللالوب والتمر هندي وغيره مما تجود به الطبيعة البرية والجميع من إنسان وحيوان شبعان بدون حسبان ...
و يا سبحان الله قبل شهور كنا في المجر – هنغاريا – ومن البرنامج زيارة منطقة ريفية وعلى امتداد الطريق قايمة أشجار بها فواكه متل الكمثري وطعمها حلو جدا وقالو لينا دي نباتات تجود بها الطبيعة ... ورجعت ذاكرتي للقضارف وهكذا الطبيعة تجود عندنا وعندهم وحامض وحلو و"نرضي بالمقسوم" ونفرح بطبيعة العندنا. وكثيرا ما كنا نلعب حوالي مدرستنا الأولية والوسطى ونلقى الحميض قايم بروس وناكلو بمتعة وكمان نملا جيوبنا لضواقة ناس البيت والصحبان الأنداد. ولا أنسى عمنا "أبو ليمونة" وهو فارش العنكوليب الطوال والقصار، ووسطه العدار، بالقرب من "الكمينة" الكبيرة قدام نادي الإصلاح القديم ودكان عم زكريا ... والواحد لو ما عندو "تعريفة" يطلب حتة قطعة من صاحبو أو يقلع الحتة ويقوم جاري ويا لها من ذكريات وفتونة ... ويوم تدق ويوم يدقوك ويفلقوك ...
و كنا نهرب من الأهل ونذهب لأماكن بعيدة عشان نشرك للطير ونقبضو مع الأخصائي " دمبسه تورو " و"مالك الحزين" و"بنجوز" وجماعتهم ولا نعود حتى نقبض شتى أنواع الطيور ويكون العشا مدنكل وريحتنا كلها طير طير ... وكان بعضنا يقبض الجراد الكبير ويستمتع بقرمشتو ولا نبرئ أنفسنا ... ودايما في الصباح والمغرب كنا نشوف الطيور في صفوف عسكرية في شكل سبعة تمانية تحلق خلف قائد واحد تحت رحمة وبصيرة الرحمن " ... أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) "سورة الملك وهي سابحة في الهواء نسمع شقشقتها الجميلة وتعليماتها المتناغمة وهي فرحانة عايدة لأعشاشها ... وهي كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تغدو خماصا وتعود بطانا ... وكنا نعرف الكثير من الطيور متل أبو الزر زور وود أبرق وطير الجنة وطير الرهو والسمبرية أم قدوم وأم قيردون الحجة ... واللقلق بأنواعه والصقور وكلها من " الطير المهاجر للوطن زمن الخريف " لتساعدنا في القضاء على البعوض والديدان والحشرات وما خفي أعظم .... وأما في الليل كنا متعودين نسمع موسيقى أوركسترا القعونجات ونشيل اللمبة عشان نمسكها ولا ينقذها منا إلا برمائتها ... وكان بعضنا يخاف من شكلها وعيونها البارزة وكرشها المنتفخة طلوعا ونزولا مع التنفس، وتذكرت ما كنا نفعله في ضفادع القضارف وأنا جالس في باريس مع جماعة يتلذذوا بأكل أفخاذ القعونجات وعندما لاحظت متعتهم الفائقة شاركتهم في المتعة.
وكنا نفرح كثيرا بالخريف لأننا كل يوم، ونحن في المدرسة الأولية، مفروض علينا نكتب ونرسم ونلون في كراس المدونة الطبيعية كل ما نراه وكنا نجد الكثير من الحشرات والنباتات ونأخذ معنا ما لا نعرفه للمدرسة والأساتذة الأجلاء يورونا ما عندهم من تفاصيل وملاحظات مفيدة ... ويا لها من دراسة واقعية مرتبطة بالبيئة الطبيعية التي تعلمنا منها كل ما هو مخزون عندنا الآن ... ودعواتنا لمن علمونا في تلك الأيام بكل حرف تعلمناه وكل سطر خطيناه فلقد كانوا شموعا تحترق من أجلنا... ونقول لماذا لا يعود كراس المدونة لأولادنا الآن في المدارس؟ ... لماذا ... ؟ ؟ وعلى الأقل، لتعود المدارس الخصوصية في القضارف للمدونة الطبيعية وسبق أن تقدمت بهذا الاقتراح لصديقنا الأخ هاشم الفضل عندما كان في هرم التعليم الخاص في القضارف وأتمنى أن يكون قد فعل. وما زال اقتراحنا قائما ... وأن تأتي متأخرا خير مما لا تأتي.
و هكذا خريفنا في قضارف الخير والكل في همه ولكل ذكرياته مع الرعد والزلقات الحارة في الطين ووقوع وغرق القطيات والرواكيب والكرانك والشرقاني والصرفان بسبب الهوا والمطرة القوية. ولا ننسى البعوض المنتفخ بدمائنا، ورب ضارة نافعة حيث كنا نشتغل مع ناس البلدية في الرش، مقابل قريشات بسيطة نفرح بها كثيرا، تحت إشراف عم هاشم وود السجان واللدر وكانت لنا صولات مع الجمكسين والدي تي تي وفي كل بيت الخالات يطلبو منا كمية بسيطة لزوم بيوت النمل المعشعشة في القطاطي أو التكل ... ويا سبحان الله الجميع كان يأكل ويشرب وينام مع هذه المواد التي تبين لاحقا أنها خطيرة جدا على الحياة والبيئة، وطبعا كنا نستغرب من موت الناس الفجأة وأهلهم يقولو والله ما كان عندهم أي شئ وفجأة توفوا ... وهم يرحمهم الله كانوا يتنفسو ويأكلوا الدي تي تي ويعفصو العقارب السامة ... ويا للعجب مما كان يحدث في الخريف وبسببه.
والشيء بالشيء يذكر لأقول كنا، في الأثر البعيد، ضمن وفد رسمي ذهب لواشنطن للتفاوض مع البنك الدولي لتمويل الزراعة وهناك أدونا قائمة بمواد وقاية المحاصيل المحظورة عندهم كليا ولا يدفعوا أي قروش لتمويلها وكان من ضمن المحظورات كما أذكر جيدا الدي تي تي لخطورته الفائقة على صحة الإنسان والحيوان والبيئة .. وطبعا سكتنا ساكت ولم نقل لهم انو "الشيء ده" متوفر عندنا وبكثافة في كل البيوت. وهناك عاد شريط القضارف والخريف والرش والقنابل الموقوتة التي كنا نحملها في جيوبنا، وعمر الشقي .....
و المزارعين لكل حكايات وسوالف مع الكجيك والبني كربو ومشاكل وشكلات العمال الدموية بعد الصولات والجولات في الأنادي مع ستات المريسة ومزة النيفة والكوارع وأخو البنات الكلس ينزل البيرق وكلو شيء على حسابو وفي آخر اليوم يحصل ما يحصل. وحقيقة كانت القضارف في الخريف توفر فرص العمل لأعداد كبيرة من العمال المتقاطرين من مختلف مناطق السودان ومعظمهم من الخارج والكل حضر ومعو ثقافتو وعاداتو. ومنهم من يلبس السكين في دراعو، ومنهم من يحمل السفروق والعصي المدببة أو الفرار، ومنهم من يلبس الحجبات لشيء في نفسو، ومنهم من يشيل في يدو الراديو الترانسستور الجديد المفتوح بأعلى صوت ليماشي العصر، ومنهم من يلبس العراقي ويشنق الطاقية، ومنهم من يلبس الصديري، ومنهم من يلبس البدلة والبنطلون الجديد صارخ الألوان ولازم تكون ورقة التسعيرة أو الماركة معلقة ليراها من يري، ومنهم من يحتذي الباتا أو الكبك أو الشدة أو تموت تخلي أو المركوب ومنهم من يحتذي الأرض ... وبعضهم يتبول في نص الشارع ويتبعه في إزالة الطبيعة كل من خلفه وما في مشكلة لأنو عربية "براميلو" تكون غرقانة لعدة أيام ويطفح ما فيها في الشارع... والحال من بعضو .
و بعض عمال الزراعة مسالم ومنهم الشرس وما في زول يملي عينو أو أرجل منو والشكلات والطعن والموت يكون في أتفه الأسباب وكل هذا على حساب "الرجالة" والمرجلة... والله يرحم جارنا العم (ع) الذي استبسل ومات بعدما طعنه عمال الزراعة في دكانه في مقتل وهم تحت تأثير المريسة والعرقي وعلي مسمع من أولاده وانهيار زوجته وكادوا أيضا يلحقوا به ابنه الأكبر (أ) لو لا شجاعتو المتناهية ولطف الله. حقا، لقد كان فقدا جللا وحدثا مفجعا لكل سكان ديم النور وخاصة نحن الأطفال، وما زالت أحداث وصورة ورائحة دماء ذلك اليوم المشئوم في مقدمة الذاكرة. ولا أدري لماذا كنت هناك في تلك اللحظة تحديدا، ربما لأري الموت أمامي ولأعرف معناه حقيقة وليس كما كان في ذهني مما نشاهده في سينما كيكوس، في أفلام الكاوبويات جاري كوبر وايست وود، حيث كلما جمعنا قروش التذكرة هرعنا لعم "رحمة محمد نور" الذي يرمقنا باستغراب لحضورنا وحدنا في هذا الضلام ولا يدري أننا سنعود في حماية جارنا أبو السيد ( سيد أحمد السيد أخو أستاذنا عبد القادر زقادة ) في باب السينما ونذكروا قبل ما يقطع التذكرة. وبعد الحادث الكريه، بكل أسف، كره آل (ع) الدكان والبيت بل والخريف والمطرة وقرروا الانضمام لبقية أسرتهم خارج القضارف ويا خسارة فقدناهم وفقدنا جيرتهم.. وكان يوم رحيلهم حزينا ... وهكذا الدنيا ومقاديرها ... وهكذا أحداث الخريف بحلو مرها ...
و أذكر حضر عم (ص) اليماني في نفس الدكان وبقينا من زباينو، ومع حديث الذكريات أقول إن العالم ضيق لأني في زيارة لليمن لاحظ من كنا نجتمع معه أني سوداني وسألني وبدون مقدمات عن القضارف ومع تبادل الحديث اكتشفت أن من أجتمع معه هو ابن العم (ص) ذلك اليماني . وفرحوا ودعونا للبيت وكانت ذكريات ما أجملها وتكلموا عن القضارف بلد الخير والرجال الكرام، والعم (ص) كان منتشيا لدرجة لا توصف ولا أذيع سرا إذا قلت أن أولاده قالوا لم يروه في هذه الحالة طيلة عمرهم ... وهكذا نوستالجيا القضارف لا تسكننا وحدنا.
ومع خريف القضارف والمطرة المتواصلة تكتر مشاكل التركترات ودساكيها المفوتة واللاندروفرات واللواري الأوستن والفورد الغطسانة لي نصها في الميعات، ومصائب قوم عند قوم فوائد، ويكون أخوانا الميكانيكية والخراطين واللساتكجية محجوزين "فل تايم" وبورصة أسعارهم ترتفع طيلة أيام الموسم ... وطول اليوم نشوفهم ملطخين بالزيوت والطين ولكن الجيوب مليانة بالجنيهات وعلب السجاير.. وجنبهم المطاعم شغالة والقهاوي شغالة .... والدبايح شغالة والحمد لله.
وما زال أريج ريحة المطرة يزكمني والغريب أن ريحة قصب القطية تتغير وريحة القش تتغير وريحة اللياسة تتغير وريحة التراب تتغير وكمان ريحة اللبن واللحمة كلها تتغير مع نزول المطر المنضف للفضاء والهواء الذي نستنشقه وتصبح رائحة كل شيء جميلة وذات عطر سماوي خاص ... والوالد رحمه الله كان يحرص على عمل المجاري لتصريف المياه وقلع و"حش" الحشائش والنباتات التي تقوم في الحوش بنفسه كل صباح وكان يصر علينا مشاركته، والتعليم في الصغر كالنقش في الحجر، وحتى يومنا هذا كل صباح أقضيه مع الوالدة في الحوش لا شعوريا أقوم بحش السعدة والحشائش الصغيرة المتناثرة والوالدة الحنونة تقول يا ولد خليك بنادي ليهو ... ويعود لذاكرتي شريط ألم قرصة الضريسة والشوك وأبو اللصيق الثقيل وضربات "الملود" الخطأ والوالد يقول يا ولد أمسك الملود بيدك اليمين وأنا "يساري" عفوا أشولنجي ... وفي خضم هذه الذكريات الوالدة تقول خلاص ضربنا ليهو موبايل وقال بجي بكرة وأنا بسذاجة استفسر وهو عندو موبايل يا حجة ... ويا سبحان الله مع هذا الموبايل الدخل في حياتنا في كل شيء ولكل شيء، وناس الحجة عندهم أرقام بياع اللبن وبت اليومية والكهربجي والسباك وأهم زول سيد الرقشة لزوم توصيل الأحفاد للمدارس ...
و مع الفلاش باك، نقول إن لكل من يعمل في الزراعة ذكريات خاصة كذكرياتهم مع صيد الغزلان وجداد الخلا والوادي، ولنا ذكريات مؤلمة مع مصارعة الغزلان لآخر اللحظات ودموعهم المودعة للحياة، وللمزارعين ذكرياتهم مع العقارب والدبايب الراقدة جنبهم في العناقريب، ولدغات الناموس وهذيان الملاريا والتتانس وضلام الكمبو الذي تأتي معه زائرة المتنبئ الشهيرة " وزائرتي كأن بها حياء – فليس تزور إلا في الظلام "...
والله يرحم صديقنا الصدوق منصور أحمد الشيخ الذي امتهن الزراعة لبعض الوقت وكان من السباقين في إدخال التلاجات والطباخين المودرن "عم عبد الله" وتشغيل مولدات الكهرباء للإنارة ولزوم القليل من الموية المتلجة للضيوف ... ليرحمه الله لقد كان سابقا لعصره وسباقا طيلة حياته العامرة في شتى المجالات وأعتقد أنه ترك أثرا في ثقافة ومفاهيم ممارسة الزراعة في القضارف في ذلك الوقت . وأذكر أني كنت أزوره كلما تيسر الوقت في منزله العامر بود مدني في الدرجة وكنا نسهر حتى طلوع الشمس وليغفر لنا أخونا "أيوب" السواق بصبره معنا كصبر أيوب ويبقي حاضرا حنب العربية لزوم توصيل الضيوف وكنا نتحدث عن القضارف وخريفها ومطرها وبرقها القبلي الما بتكدب مطرتو وسيول الأمطار الجارية بفيضاناتها مع - ويا لسخرية القدر - عطش المدينة ونذكر قصص العطش ودخول المياه وحمام الدش ونوادره ونعرج على نوادر الفكي "أب نافورة" ولا ننسي اللاندروفرات الجديدة بعد الموسم ومن يركبها .... ومن باع دهب مرتو عشان يلحق يحصد ومن يصاقر أمام البنك للسلفية ومن تأخر في الكديب لنقص العمال ومن فطتو المطرات الأخيرة ومن شفط الجراد محصوله بين ليلة وضحاها، وعن تأخر وصول باخرة الخيش أو عدم تفريغها وعن البذور ... وغير هذا وذاك من الطرائف المتداولة عن قضايا الزراعة وما لها أوعليها...
وهكذا كل الحياة والمشاعر والاهتمامات تدور حول الزراعة والمطرة ... ويا لها من حياة ذات طعم ونكهة خاصة وخصوصية ... وهناك رجال كتيرين من أهلنا في القضارف اختلط دمهم وداب عرقهم مع مياه المطرة والوحل والطين وعملوا المستحيل حتى ترسو الشوارع والمطامير والصومعة بالعيوش وكل حياتهم مرتبطة بخريف القضارف وما ينتهي الخريف إلا ويفكرو في الخريف الجاي وهكذا حياتهم وقدرهم المرغوب ومصيرهم المنشود ومنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من أغدق عليه الله ومنهم من أفلس واتقددت جيوبه والأمثلة كتيرة ... وفضلنا بعضكم على بعض في الرزق ... وكل بأمر الله وحكمته ...
و تبقي القضارف بخريفها ومطرتها وقناديلها الوقادة وسنابلها المليانة وذكرياتها المحفورة في الوجدان وجعل الله كل أيامكم خريفا ممطرا مخضرا وخضر ضراعاتكم وأنبت مشاريعكم في أرض الخير أرض القضارف ... المطمورة ...
و إنها نوستالجيا مزمنة حتى الممات ... وما أحلاها من ذكريات ... على الأقل بالنسبة لي ... وما زالت هناك ذكريات أخرى سنعود بها في حينه إذا قررت الخروج.
د. عبد القادر ورسمه غالب
Email: هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.