هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته المغالطة في وجود شخصية سودانية مسألة مشروعة على اعتبار أنها امتداد للمغالطة في وجود شخصية قومية، إن لاعتبارات خاصة بوطن متباين الأعراق والثقافات أو للشك مطلقاً في إمكانية تشابه ملايين البشر في الميول والاستجابات النفسية حتى إذا كانوا منحدرين من عرق واحد وثقافة متماسكة. ومع الشخصية السودانية تحديداً تكتسب المغالطة مشروعية أكبر لما نلمسه من واقع تموج فيه لدينا الأعراق والثقافات والديانات حتى بعد انفصال الجنوب، وبعيداً عن الخوض في معضلة السؤال عن مدى إفادة السودانيين من هذا التباين العريض فإن الثابت أنه – التباين - لا يزال يناوش بقوة وجودَ الشخصية القومية المتماسكة واضحة الملامح. وكنت قبل أن أضع أوّلَ مقالاتي وكتبي عن الشخصية السودانية تعمّدت أن أتجنّب الاطِّلاع المباشر والمكثف على ما كُتب عنها أو عن غيرها من الشخصيات القومية قريبها وبعيدها، وكان لذلك المنحى الغريب (أعترف) في الدراسة مزاياه كما كانت له عيوبه، فمن مزاياه أنه جنّبني التأثر بالأعمال التي وضعت من قبل، ومن عيوبه أنه ربما أوقعني في تكرار كان من الممكن تلافيه بمراجعة ما سبق على الطريق من آراء ودراسات. ثم عدت بعدها أنقِّب فيما قيل وكتِب عن الشخصيات القومية في كل مكان فوجدت ذلك التحفظ الكبير من قبل الدارسين قبل الزج بالحكم المزمع عن هذا الجانب من الشخصية وذاك، والغريب أن بعض أولئك المتحفظين من الأكاديميين المرموقين في بلادهم وليسوا ممن قصد دراسة الشخصية القومية من منطلق إبداعي عام وحرّ غير مقيّد بالمناهج الأكاديمية كما هو الحال معي تحديداً. ولعل الدكتورين علي الوردي وجمال حمدان من أوائل الأمثلة في هذا الصعيد، الأول مع دراسته عن شخصية الفرد العراقي والثاني في موسوعته عن شخصية مصر التي عرّج فيها على دراسة الشخصية المصرية بوصفها شخصية قومية. وإذا كان مفهوماً أن يبدي الأكاديميان المرموقان تحفظهما على دراسة الشخصية القومية في وقت باكر (بدايات النصف الثاني من القرن الماضي وما بعدها بقليل)، فإن الدراسات الأكثر حداثة في هذا الباب في محيطنا القومي لم تتخلّ تماماً عن هذا التحفظ، كما في دراسة حديثة للدكتور محمد المهدي أستاذ الطب النفسي في مصر على سبيل المثال. يقول جمال حمدان :".. معنى هذا أن دراسة الشخصية المصرية هي في واقعها وجوهرها دراسة في الذات المصرية والنفس المصرية، في الروح المصري والمزاج المصري. وهذا ما يدخل أو يعود بنا على الفور إلى مجالات علم النفس الاجتماعي والأنثروبولوجيا الاجتماعية والأخلاقيات الجماعية Collective Ethology ونظرية الأمزجة والبيئات وقضية الطوابع القومية والشخصية القومية National Character...". ويواصل :"وهنا بالطبع مواطن الخطورة ولب المشكلة. فإذا لم تكن بعض جوانب ونواحي مثل هذه الدراسات موضع شك في وجودها أصلاً أو جدواها فعلاً من الوجهة الأكاديمية، فإنها أساساً دراسة غير موضوعية غير محايدة وإنما شخصية انطباعية متحيزة، بمعنى أن ليس لها مقياس ولا ضابط علمي محدد صارم خارج الإنسان ومستقل عنه، أي عن الباحث أو الكاتب، وإنما هي تخضع للتقييم والانطباع الشخصي وتنحاز إلى وجهات النظر الخاصة وتتلون بالمثل العقائدية المسبقة وتتشكل بفلسفات الأخلاق المقولة أو المقبولة... ". ثم يفضي إلى المحصلة :" واختصاراً فتلك دراسات إن لم تكن انطباعات شخصية بحتة، فإنها على الأكثر قيم تحكيمية Judgment values أو أحكام تقييمية Value Judgments .. وهنا وجه الخطورة والخطر، والأسوأ منه الحساسيات الحرجة الشائكة بل المتفجرة التي يمكن أن تثيرها، سواء من تمجيد أو تشويه للشخصية القومية أو من تملق أو إساءة إلى الروح الوطنية. ولا يقل موقف الباحث نفسه حرجاً ودقة، وإذ لا يخفى أن كل قارئ يحب أن يقرأ عن نفسه كل تمجيد وإطراء مهما شعر بزيفه ومغالطته، وبنفس القدر والقوة ينبذ أدنى كلمة يستشعر فيها الإساءة أو التجريح مهما استشعر في قرارته من صحتها أو حقيقتها. غير أن الأسوأ من هذا كله بالتأكيد هو مشكلة أو مأساة حرية القول والكلمة حين وحيث يعني الأمر السلطة والحكم والنظام بالتحديد". ثم يعود جمال حمدان في موسوعته "شخصية مصر" إلى الحديث عن فكرة الشخصية القومية من حيث زئبقيتها المترائية للكثيرين :" رغم سديمية الفكرة أصلاً ورغم كل ما يكتنفها من الشكوك والتحفظات المبدئية والمنهجية، تميل جمهرة المفكرين والدارسين إلى الاعتقاد بوجود الشخصيات القومية والطوابع القومية كناتج طبيعي منطقي معقول و وارد – لم لا؟ - لتعايش وتفاعل مجتمع ما في بيئة مادية وبشرية خاصة عبر تاريخ ألفي متصل (لعله يشير هنا إلى الشخصية المصرية كمثال).. فدون قوالب منمطة أو أقفاص حديدية، ولكن كالعدسة المجمعة، أليست تجنح هذه العملية بمجمل المجتمع نحو قدر ما من الاستقطاب البؤري والتشابه النسبي وشبه التمازج الكلي؟ ألا يصنع هذا كله في النهاية نمطاً أو شبه نمط متميز نسبياً من الإنسان والسلوك والطبيعة والقيم والعادات المكتسبة، أو تضفي لوناً عاماً أغلب عليه كمتوسط أو كنموذج أكثر تواتراً وحدوثاً في المتوسط؟ ..هو ما يحق لنا موضوعاً ودون تجاوز أو حرج أن نسميه الطابع القومي أو الشخصية الوطنية". ولكن الخطر لا يزال كامناً حتى بعد الاتفاق على وجود شخصية قومية، وعند حمدان الذي يخص الشخصية المصرية في الحديث القادم فإن :".. منطقة الخطر إنما تبدأ حين نضع هذه الخصائص المستنبطة (للشخصية القومية والمصرية تحديداً) في الميزان لتقييم الإيجابيات والسلبيات. فمن ناحية فإن ما يراه البعض إيجابيات ومحاسن قد يعده البعض الآخر سلبيات ومثالب، وما يعتبره البعض نقط قوة وبقاء ومفاخر .. قد يصمه البعض الآخر بأنه نقط ضعف وهوان بل ومقاتل للشخصية القومية، وهكذا. ومن ناحية أخرى فبينما يخرج البعض في كشف الحساب الصافي بتغلب الإيجابيات على السلبيات، قد يخرج الآخر بالعكس تماماً". وقد ذكّرني القول الأخير لجمال حمدان بتعقيب لمّاح وطريف للصديق العزيز خالد فتح الرحمن على مداخلات الحضور لندوة تناولت كتابين لي عن الشخصية السودانية، فقد رأى خالد أن حساسية الموضوع تكمن في أن لكل سوداني رؤيته الخاصة للشخصية السودانية على اعتبار أنها شخصيته هو، وبصرف النظر عن موقف الواحد من سماع ما لا يسرّه عن شخصيته (وهذه ليست هينة بحال) فإن الأدعى للانتباه هو التباين العريض في قبول ورفض حتى ما يُتفق على وجوده من الملامح استناداً إلى تباين التفاسير والمرجعيات الذاتية بامتياز، وهذا هو عين ما قصده جمال حمدان في اقتباسنا الأخير عنه. بالعودة إلى مغالطة وجود الشخصية القومية، وفيما يخص الشخصية السودانية تحديداً، كان ردِّي على المجادلين في ذلك الأمر خلال الندوة المشار إليها منذ قليل في بساطة أن الشخصية السودانية موجودة طالما ظل بإمكاننا أن نردِّد "نحن السودانيين" سواء في معرض إشادة أو مقام استهجان، فالشخصية القومية موجودة وفاعلة طالما ظل ممكناً أن يسع القوم المستظلين/المكتوين بها جمع مذكر سالم أو حتى جمع تكسير.