انطلقت صرخة داوية شقَّت صمت الظلام من إحدى شقق ذلك الحي الراقي ليسارع الجيران لنجدة جيرانهم، فاكتشفوا أن ابن جيرانهم، الشاب (م)، قد سقط مغشياً عليه. سارع الجيران بنقله إلى المستشفى، إلا أنه فارق الحياة نتيجة العلة التي ضربت الكبد والقلب والكليتين، وتسببت في تراكم السموم بجسده ما أدى لوفاته، وكانت المفاجأة حينما أكد الأطباء أن (م) توفي إثر تعاطيه لمواد مخدرة تسببت في فشل أعضائه الحيوية، وكان لا زال في ريعان صباه ويدرس بإحدى الجامعات المعروفة. بالعودة إلى التفاصيل، تَبَيَّن أن لديه (شلة) من أصدقائه بتلك الجامعة هم من خططوا لجرِّه إلى تلك الهوّة، فزيّنوا له تلك الحبوب المخدرة وكان يتعاطاها ليسهر أطول وقت ممكن بغرض المذاكرة ليلاً، ومن ثم الدردشة عبر برامج التواصل الاجتماعى المختلفة ليلتقي ببعض الفتيات في (الشات) ويآنسهن حتى الصباح، وبمرور الأيام وجد (م) نفسه قد اعتاد على تلك الحبوب وانقلب حاله من حالة النشاط إلى حالة الخمول والتراخي والتصرف بلا وعي، ووصل مرحلة متأخرة من الإدمان، وفتح عينيه ذات يوم على الحقيقة المرة حينما أفاد الطبيب الذي نَقَله إليه أفراد عائلته للكشف عليه بأن الشاب يتعاطى (الكبتاجون)، وأنه في مرحلة خطيرة رغم أنه لم يتجاوز الثلاثة أشهر منذ بدئه تعاطي تلك الحبوب، وبعدها بأيام لقي حتفه. خطة ترويج: الشاب (م) ليس وحده الذي وصلته تلك الفة، فمؤخراً انتشرت حبوب الكبتاجون بكل ولايات السودان، وباتت تجد سوقاً رائجةً وسط الشباب الذين يُقبِلون على شرائها، بحجة أنها حبوب منشطة حسبما يصوِّر لهم مروّجوها، ونسبة لجهل أولئك الشباب فإنهم يستجيبون للخدعة ويتجهون لتعاطيها. طبقاً لخطة مروجي الكبتاجون، فإنهم يستهدفون ثلاث فئات من الشباب وهم: فئة الزرَّاع وفئة الطلاب وفئة العمال، وهم حاضر ومستقبل البلاد، يبدأ أولئك المستهدفين بتعاطي الكبتاجون والذي تبدو آثاره الأولية أقرب إلى تأثيرات الحبوب المنشطة، إلا أنه في فترة وجيزة يسبب العديد من الأمراض مثل الفشل الكلوي والسرطان وتَلَف الكبد والضعف الجنسي، وفي كثيرٍ من الحالات، وقبل ظهور تلك الأمراض، تحدث حالات وفياتٍ غامضة وسط الشباب بسبب تعاطي ذلك العقار. حقائق وإحصائيات: انتشرت ظاهرة تعاطي الكبتاجون في عددٍ من ولايات السودان تتصدرها ولاية الخرطوم، الجزيرة، البحر الأحمر، نهر النيل، الولاية الشمالية وولاية النيل الأبيض. حسب ضبطيات الإدارة العامة للمخدرات، فإن جملة المضبوط من حبوب الكبتاجون خلال 2016م بلغ في مجمله (115.079) حبة كبتاجون تم ضبطها أثناء ترويجها بالولايات المذكورة، حيث تروّج لأغراض الاستهلاك المحلي، علماً بأن نسبة المضبوط دائماً في أحسن الدول إمكانيات لا تتعدى (10%)، وطبقاً للبلاغات المدونة خلال 2016م فإن أعداد المتهمين الذين ضُبطوا أثناء قيامهم بترويج الكبتاجون بكل أنحاء البلاد بلغ (56) مروجاً، بينهم أجانب من جنسيات مختلفة. حسب متابعات المحاكم فإن العام 2016م شهد محاكمة (20) بلاغاً من بلاغات الكبتاجون وأصدرت فيها المحاكم السودانية المختلفة بكل الولايات أحكاماً رادعة تراوحت ما بين السجن المؤبد، والسجن لفترات تتراوح ما بين (3- 10) سنوات بجانب الغرامات. مصدر الكبتاجون: الكبتاجون يدخل السودان عبر موانئ الدولة الرسمية قادماً من دول الهلال الخصيب، وتحديداً لبنان.. وكشف تقرير بثَّته قناة المستقبل اللبنانية بأن معامل تصنيع الكبتاجون بالجنوب اللبناني مملوكة للأخوين هاشم وجهاد الموسوي، وهما شقيقا نائب رئيس حزب الله اللبناني حسين الموسوي، واللذين سبق وأن أُلقي القبض عليهما على ذمة إدارة معامل لتصنيع الكبتاجون وترويجه بغرض تغطية الشحّ المالي الذي يعانيه حزب الله، إلا أنه تم تهريبهما إلى إيران عبر العراق باستخدام جوازات سفر مزورة، بينما يمكث ثلاثة متهمين آخرين بسجن زحلة وهما خبيرين كيميائيين وثالث من أهم المروجين العالميين، ويشير التقرير إلى أن تصنيع الكبتاجون يقف خلفه مسئولون سياسيون بلبنان يمارسون ضغوطاً على الدولة حتى تقوم بتبرئة المتهمين الخمس وإطلاق سراحهم، ولَفَت التقرير إلى أن تلك المصانع أغرقت أسواق عددٍ من الدول بالكبتاجون وأبرزها العراق والسعودية ودولاً إفريقية بينها السودان وأمريكا اللاتينية. توطين التصنيع: عقب الضبطيات المتوالية لحاويات الكبتاجون ومحاصرة عمليات التهريب بمطار الخرطوم وغيرها من الموانئ اتجه الأجانب لتوطين صناعة الكبتاجون داخل السودان، واتجهوا لإنشاء مصانع داخلية يقومون باستيراد السلائف الكيميائية التي تُسخدم في صناعة الكبتاجون، وخلال العام 2016م تم ضبط (3) مصانع وإغلاقها وإبادة موادها وتقديم أصحابها للمحاكمة. كما تم تشير الإحصائيات إلى ضبط أكثر من مليوني حبة بالموانئ الرسمية ضُبطت قبل أن تنفذ إلى داخل البلاد. حسب الضبطيات يتضح جلياً أن السودان لم يعد معبراً لعبور شحنات الكبتاجون إلى دول الخليج حسبما رُوِّج له في السابق؛ حيث أصبح السودان الآن إحدى البلدان المُستَهْلِكَة، وبدأت نسبة المتعاطين من الشباب السوداني لهذا المُخدِّر السام في تزايد مستمر. سوق دولي: للكبتاجون مافيا عالمية وسوق دولي، وتُجَّار عالميين ومروجين على اتصال بتجار ومروجين داخل السودان، ومما يؤكد أن للكبتاجون تنظيمٌ دوليّ وأيادٍ تقف خلفه أن سعر حبة الكبتاجون يتراوح ما بين (40-50) جنيهاً داخل السودان، وسعره مُوحَّد بين كل المروجين له بالولايات المختلفة، إلا أن سعر الحبة الواحدة يفوق مبلغ (100) ريال أو (100) درهم بدول الخليج. وتتعدد أنواع الكبتاجون طبقاً لتنوع أساليب التمويه؛ فهنالك الكبتاجون أبو هلالين، وآخر بلا أشكال، ونوع ثالث مُلوَّن بألوانٍ مختلفة وهكذا. وتُعتبر السودان ومصر وليبيا هي أكثر الدول الإفريقية المُستَهْدَفة من قبل مافيا الكبتاجون العالمية، والتي تسعى جاهدةً لتدمير شباب تلك الدول بهذا المخدر. أزمة علاج: حتى الآن لا تُوجد مستشفيات حكومية متخصصة لعلاج الإدمان في مراحله المختلفة؛ ابتداءً من مرحلة التعاطي ومروراً بمرحلة التعوّد وحتى مرحلة الإدمان، وعدم وجود مثل تلك المستشفيات يتسبب في تفاقم الأزمة حيث يتطلب الأمر معالجة المتعاطين قبل خروجهم من دائرة العطاء، ولا يزال السودانيون -وفق التقديرات- يتعاملون مع قضية المخدرات مثل التعامل مع قضايا الشرف، ويضربون سياج الغموض حولها، وتُمَارِس الأسر التعتيم وكتم المعلومات حول أبنائها المتعاطين، الأمر الذي يجعل من إمكانية إيجاد إحصائية لأعداد المدمنين في السودان أمراً مستحيلاً، حيث لا توجد إحصائيات دقيقة بأعداد المدمنين بالسودان حتى الآن. تحذيرات الخبراء: في ندوة سابقة حول المخدرات حذَّر خبير المخدرات الفريق د. كمال عمر من مراحل الإدمان الجسدي لتلك المخدرات، باعتبارها تؤثر على الأعضاء الحيوية في جسد الإنسان، وتُحدِث أضراراً بالغة بالكبد والكلى وكافة أعضاء الجسم، مشيراً إلى أن تجار المخدرات يُشكِّلون أنظمة حماية قوية لأنفسهم حتى لا يقعوا في أيدي السلطات، وأن الذين يقضون فترات عقوبتهم الآن في السجون ليسوا سوى متعاطين. ويرى مراقبون أن عصابات المافيا الدولية لن تتوقف عن السعي والتفكير في ابتكار وتطوير وتصنيع أنواع مستحدثة من المخدرات الأكثر سمية والأشدّ فتكاً بالجنس البشري؛ ففي كل حين يتم تصنيع أنواع جديدة من المخدرات يكون لها تأثيرٌ ومفعولٌ أشد يختلف عن ما تمَّ تصنيعه من قبل على من يتعاطها، حيث يتم ابتكار أنواع لها تأثير على كيمياء المخ من الناحية السمعية والبصرية والحِسِّية، ويختلف مفعوله عن التي كانت متواجدة أو معروضة في الأسواق، وخصوصاً المخدرات ذات التركيب الكيميائي أو ما يُعرف ب(السلائف) والتي أبرزها الكبتاجون والترامادول والكرونيك والجوكر والاكستاسي وغيرها من المخدرات المُخَلَّقة، وفي الغالب تلجأ عصابات المخدرات الدولية إلى تطوير أنواع جديدة من المخدرات لأسباب عدة، منها التحايل على القانون والتهرب من العقاب؛ حيث يقوم أفراد مافيا المخدرات بالبحث في جداول المواد المخدرة التي تنص عليها الأممالمتحدة من العقاقير المخدرة والمؤثرات العقلية التي يُعاقِب عليها القانون بعقوبة أقل من غيرها، ويتم تصنيعها وتطويرها من خلال إضافة مواد كيميائية لها، والعمل على ترويجها، وذلك من أجل حماية المُهَرِّبين وتجار المخدرات من يد العدالة، كما يهدف أفراد عصابات المخدرات من ذلك إلى تصنيع مواد مخدرة أقل حجماً من أجل تسهيل عملية التهريب، وتمويهها بهدف تضليل منسوبي الجمارك ورجال مكافحة المخدرات بمداخل ومعابر الدول المقصودة، كما تسعى مافيا المخدرات من خلال تصنيع تلك المواد إلى تصنيع مواد مخدرة لها تأثير عقلي ونفسي يختلف عن الأنواع المعروضة في الأسواق غير المشروعة.