بدعوة كريمة من الإخوة والأبناء في رابطة أبناء الخندق، كنت ضمن حضور اللقاء الذي تم بنادي أبناء الخندق، والذي كان لمناقشة فكرة الفيلم الوثائقي الذي سيتم تصويره عن المناطق الأثرية وتراث الأجداد في الخندق، وقد شارك في اللقاء بعض العاملين في مجال الآثار وعلى رأسهم الأستاذ فريد محمد أحمد ومنير والمهتمين بالتراث والثقافة النوبية الأستاذ محمد شريف وقد تحدث في اللقاء عدد من أبناء الخندق الذين هم أدرى الناس بمنطقتهم وآثارها وتراثها وتاريخها القديم والحديث. وقد دار الحديث حول الفيلم وتكاليفه وفوائده وأهميته كمادة تعريفية عن آثار وتراث وحضارة المنطقة. ولما كان التوثيق هو "إخراج ما في الصدور إلى السطور" فما سأذكره هنا جله مما أخرجه أهل الخندق من صدورهم في اللقاء ليكون في سطورنا هذه- ومما لاشك فيه أن التصوير المصحوب بالصوت من أهم وأبلغ انواع التوثيق وله أثره الفعال في وجدان ونفوس المشاهدين- وهذا أن شاء الله ما نتوقعه بعد تصوير الفيلم وعرضه علي المشاهدين- وقد رويت لحضور اللقاء قصة "الخواجية" التي رأيتها تجلس على أحد حجارة "القلقيلة" قبل شروق الشمس وترسم المكان- مما يدل على اهتمام الأجانب بآثارنا وتراثنا كتراث إنساني يهم الجميع ومن باب أولى أن نهتم نحن أحفاد من صنعوا تلك الحضارة بالتوثيق للجيل الحالي والاجيال اللاحقة. وللصورة آثرها الفعال في وجدان ونفوس المشاهدين- ومما رواه لنا أحد اخوتي المقيمين في امريكا- أن الاوربيين شاهدوا فيلماً وثائقياً عن اللجوء واللاجئين ومعاناتهم بسبب الحروب في القرن الإفريقي- ومن مشاهد ذلك الفيلم- امرأة هدها الجوع والمرض وسوء التغذية مستلقية على الأرض وترضع في طفلها، وعندما طال "رقادها" بدون حركة اكتشفوا انها قد توفيت "والطفل ما زال ممسكاً بثديها ليرضع" وفصلوه عنها ودفنوها- وكان عرض هذا المشهد المحزن المؤلم سبباً في أن يتبرع كل من شاهد الفيلم بمبلغ من المال لمصلحة اللاجئين وتقديم الإغاثة لهم وكانت التبرعات بمليارات الدولارات، مما يدل على أثر التصوير والصورة وفوائد الافلام الوثائقية وفوائد الفيلم الذي سيتم تصويره عن الخندق. نرجع إلى الخندق وأهلها وتراثها وحضارتها- وكما قيل: إذا أردت أن تعرف مستقبل أمة فانظر إلى تاريخها وآثارها وحضارتها وتراثها وكيفية الاستفادة من هذا الإرث- وما سأذكرها هنا في السطور منها ما قيل في اللقاء ممن أتيحيت لهم الفرصة بالحديث ومنها لم يقال. ومن يريد الحديث عن الخندق وآثارها وتراثها وحضارتها لابد أولاً أن يبدأ "بانسان الخندق" وكما هو معلوم أن الانسان هو العنصر الأساسي الأول في تقييم المكان الذي يعيش فيه- ومدى وعي وتعلم وثقافة وحضارة الإنسان هو المعيار الذي يحدد أهمية "المكان" الذي هو "الخندق" وهنا نجد أن سكان القرى المجاورة للخندق- وبخاصة "العرب" الذين ساكنوا النوبين وهم أدرى الناس بلغتهم العربية ومدلولاتها ومقتضياتها نجدهم يصفون سكان الخندق "بالحضور" والمفرد "حضري" والحضري عكس "البدوي" مما يدل على أن سكان الخندق يختلفون عن سكان القرى التي تقع شمال وجنوب الخندق- في عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم "الغذائية" وهذا ما عايشناه نحن سكان القرى المجاورة من جيل أواخر الأربعينات من خلال تعاملنا معهم- وإن كان حدث الآن "تقارب" بين الثقافات والعادات التقاليد بين سكان الخندق والقرى المجاورة، بسبب ما ناله أبناء القرى المجاورة من "تعليم" بعد انتشار المدارس- والوظائف التي شغلوها..الخ وقد كان الاحتفال بالمولد النبوي وعادات الاحتفال بالزواج حتي طقوس المأتم في الخندق لا تختلف كثيراً عن المدن الكبرى، بل نجد أن عاداتهم وتقاليدهم حتى في طريقه الحديث عندهم هم أقرب إلى عادات وتقاليد وحديث سكان ولاية الخرطوم، وقد عايشناهم ثم انتقلنا إلى الخرطوم ولم نجد فرقاً كبيراً بين العادات والتقاليد. لقد كان سكان الخندق هم الأقرب والأكثر اتصالا بولاية الخرطوم عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، وهم من أوائل الذين إقتنوا أجهزة "الراديو" وبحكم عمل والدي في الخندق والذي كان يعمل "جزاراً" وكنت أساعده في عمله الذي كان يستدعي أن تكون هناك الخندق قبل صلاة الصبح.. وكنت أساعده في العمل حتى مرحلة توصيل اللحم إلى "الدكان" ثم أرجع إلى قريتي "شبتوت" وغالباً ما يكون رجوعي قبل شروق الشمس، ومع الهدوء الذي كان يسود الخندق في الصباح الباكر- كنت أسمع أصوات البث الإذاعي من أخبار وأغان.. الخ في أغلب بيوت الخندق مما يدل على إنهم كانوا أكثر أرتباطاً بالعاصمة اكثر من سكان القرى المجاورة. واذكر أنني أثناء رجوعي في الصباح الباكر كنت أوقف حمارتي بالقرب من "أشجار الجميز" التي كانت أمام مبنى الشرطة والبوستة، وأملأ جيوبي من الجميز الذي تدفق ليلاً قبل أن يستقط اطفال الخندق، وعندما يستقظون لا يجدون إلا بقايا ما تركته أما عن أصول وجذور سكان الخندق، فإن مما علمناه من خلال ما كتبه أبناء الخندق عن أصولهم، إنهم مجموعة من القبائل السودانية المختلفة، إنصهروا واختلطوا وتزاوجوا وكونوا "مجتمع الخندق" وصاروا جميعاً "خنادقة" يفخرون بهذا الانتماء لموطنهم الصغير، ويدل على ذلك أسماء الكثيرين منهم مثل حسن الفكي الخندقاوي- والذي هاتفني لحضور اللقاء اسمه منسوب للخندق، وكثير من أسماء أصحاب المحلات التجارية ينسبون اسماءهم وأسماء محلاتهم التجارية للخندق، هكذا يفخرون بموطنهم الصغير. للقرى المجاورة للخندق ارتباطاً وثيقاً به وبأهله، وهناك منافع متبادلة والخندق يعتبر سوقاً لكثير من منتجات القرى الزراعية "خضروات- قشوش" وقد اشتهر سكان الخندق بامتلاك الحمير الاصيلة ويحسنون تربيتها والعناية بها عناية فائقة مثل حمير "ود الشفيع شجر الشيك والطاهر إبراهيم والهادي مصطفى" رحمهم الله والأخير كان قد أعد لحماره ظلاً صليلاً وسط الجروف، وكانت حمير هؤلاء بالنسبة لحمير الآخرين مثل "اللاندكروز" بالنسبة "للاتوس" وكان اكثر الناس شراء "للبرسيم" العم "طيفور" وزوجته "دهبية" رحمها الله حيث كانا يملكان الحمير التي كانت يستخدم في خدمة السكان والأغنام للالبان ولهذا كان العم طيفور يهتم بزراعة الجروف بمشاركة أصحاب الجروف، وقد كانت محطة الباخرة سوقاً للقرى المجاورة للخندق، وبخاصة النساء اللائي كن يعرضن "الطباقة" التي أجاد صناعتها نساء القرى وكانت مصدراً اقتصادياً مهماً للاسر. ومن أسباب ارتباط القرى المجاورة بالخندق قبل انتشار المراكز الصحية والمدارس السفخانة والمدرسة والبوستة ونقطة الشرطة، وكان سكان القرى "سلقي- دمبو- شبتوت" جنوباً "وسالي وملواد وكبار شمالاً تعاملهم مع هذه المؤسسات الصحية والتعليمية والخدمية، وكان أهم هذه المؤسسات، بوستة الخندق حيث كانت كل خطابات وبرقيات والتحاويل المالية ودفاتر التوفير، للقرى المجاورة بواسطة بوستة الخندق. ومما يدل على مكانة الخندق وسكانه كما ذكر أحد الاخوة، وذكرت أنه ما من "خريطة" ترسم للسودان الا ونجد الخندق في موقعه بوضوح، على الرغم من وجود كثير من المدن التي اكثر منها سكاناً واكبر مساحة، مما يدل على مكانة الخندق التاريخية ومكانة سكانها، وقد حدثنا أحد اقاربي الذي تجول كثيراً في الدول الأوربية، أنه ما من خرطة رسمت للسودان في تلك البلاد الا ويجد فيها الخندق وقد التقى ببعض "الخواجات" الذين عاشوا في فترة الاحتلال الصليبي لبلادنا في السودان ويسألونه عن مكانة في السودان- وعندما يقول لهم إنه من الشمالية يسألوه "وين من الخندق" مما يدل على مكانة وسكانها، من الآثار القديمة في الخندق، ذلك الاثر الذي نجده في أحد التلال التي نجدها غرب منزل أسرة "الفكي" قريباً من معهد حسن الفكي رحمه الله- وقد تم "تجويف" الجبل.. وإحداث حفرة عميقة فيه.. بنيت الحفرة بالطوب- ويبدأ البنيان على شكل دائري في عمق الحفرة، ثم يضيق كلما ارتفع إلى أعلى، حتي ينتهي على شكل دائرة قطرها حوالي المترين في سطح الجبل، ولا أظن أن اشهر المهندسين في زماننا هذا يستطيع أن يبني مثل ذلك البناء، وقد أعد هذا المكان على الرغم مما فيه من "فن" البناء- أعد لوضع جثامين الموتي فيه وقد ذكرت أن هذا الاثر قديم "قبل الإسلام" بدليل أن المسلمين لهم طريقهم في الدفن معلومة. من المناطق الاثرية الحديثة "بعد دخول الاسلام" والتي بنيت في عهد الملك بشير منطقة "القلعة قيلي" والاسم يعني "باللغة النوبية" القلعة الحمراء، على الرغم من إنكار أحد احفاد من أنشأوا ذلك، انكر "نوبيته" وانتسب إلى جنس آخر يرى أنهم ارفع شأناً من "النوبيين" فإن كان الفخر بالانساب والقبلية في أصله "مزمه"فان الادعاء ومحاولة الانتساب إلى قبائل أخري يرى البعض انها أرفع شأنا "مزمة عظمى" وليت الذين يتنكرون لنوبيتهم قارنوا أشكالهم وسحناتهم باشكال وسحنات "من ينتسبون إليهم" أو كان من ينتسبون لهم يقرفون بانتمائهم لهم- والله الذي لا إله إلا هو- لو جاء والهم بشهادات وأنساب معتمدة بأختام من قحطان وكنعان وعدنان لما اعترفوا بهم- وللنوبيين تراثهم وآثارهم التي لا مثيل لها في "الدنيا" وهم يفخرون بهذا وبالانتماء إلى نبيوتهم فان كان تاريخ القبائل الأخرى كتبه "البشر" فقد ذكر النوبيون في كتب "الله" المقدسة- وجاء ذكر ابطالهم في كتب الله المقدسة- وهنيئاً لمن ينتسبون إلى غيرهم- وليتهم يعترفون بهم، وعلى من يفعلون ذلك أن يقارنوا اشكالهم بأشكال وسحنات اسرة كرار وأهله بجوارهم نرجع إلى موضوعنا الأساسي ونقول.. إن طريقة مباني بيوت الخندق من حيث ارتفاع حيطانها والخامات التي بنيت منها والطرق الهندسية للبناء..الخ تدل كلها على انها منطقة "اثرية" وحضارية، وقد ذكرت أن الطريقة التي بنيت بها البوستة ونقطة الشرطة من الجهة المقابلة للنيل، والخامات المستخدمة في البناء وما فيها من فن هندسي وسلالم وبوابات...الخ لم نر مثلها في أي مدينة من مدن السودان التي زرتها حتى في ولاية الخرطوم لم نر مثل طريقة ذلك البناء- وقد رأينا بيوتاً أكثر من طابق وهي من "الجالوص" أو الطوب الاخضر وكان آخرها في منزل اسرة محمد عبدالله "البيطري" وقد كانت لنا معه علاقة وثيقة بحكم مهنة الوالد "جزار" كما نلاحظ أن المآذن التي وجدناها في مساجد الخندق لم نر مثلها في القرى الأخرى الا في السنين الاخيرة. هناك شخصيات "تاريخية" في الخندق كل في مجال عمله، وفي مجال التعليم الأستاذ عبدالمولى محمد عبدالمولى- الذي له الفضل بعد الله في تعليم كثير من أبناء الخندق والقرى المجاورة وقد كان يمتاز بقدرته الهائلة وموهبته التي وهبه الله له في "تلحين" قصائد المحفوظات بطريقة تجذب السامعين وتطربهم وتساعد التلاميذ على الحفظ وبخاصة نشيد "بلادي" وقصيدة "عصفورتان في الحجاز صلتا علي فنن..الخ" وكان عندما يقرأ لنا القراءة النموذجية لموضوعات كتاب المطالعة يقرأ بطريقة جذابة وكانه يذيع نشرة أخبار مهمة، من حيث الاهتمام بطريقة القراءة وكان له صوت جهوري. ومن الشخصيات الدينية.. الشيخ حسن الفكي رحمة الله وهو معروف كل أهل السودان- وكان والده "الفكي" هو مأذون الخندق والقرى المجاورة حتي الخسمينات وكما يقال "جني الوز عوام" فقد كان الذي بدأ لنا اللقاء بتلاوة القرآن هو ابن حسن الفكي رحمه الله. ومن الشخصيات "الدينية والحزبية" الشيخ الخير جاه النبي رحمه الله الذي كان يحفظ القرآن ويقرأه بصوت جميل حيث كنت أسمعه في الصباح الباكر عندما نذهب لعرض الذبيح المراد ذبحه عند البيطري الذي منزله قريباً من المسجد وقد كان الخير جاه النبي رحمه الله "شاعراًَ"من شعراء "الانصار" يقول الشعر في الإمام المهدي رضي الله عنه وزعماء الانصار وأبطال المهدية مما يجعل عمنا "محمد جميل حاج الأمين" يعرض ويبشر بعصاته "الضخمة" في الليالي السياسية التي كان يقيمها مرشحنا أمين التوم ساتي محمد أيام الانتخابات وكان شاعرنا الخير جاه النبي "يهجو" الاحزاب الاخرى هجاءً "لا بذاءة فيه ولا الاستفزاز" الذي يفضي للعداوة مع الآخرين. ومن الشخصيات الخندقاوية التي لن ينساها جيلنا من سكان القرى المجاورة للخندق شخصية "أحمد مدينة" الذي كان يردد عبارة "هوي- هوي" وكأنه كان يسخر من أهل زمانه ممن ليسوا من جيله- وكان كبيراً في السن وكان هو الذي يقوم بتوصيل "البرقيات" التي يرسلها المغتربون من أبناء القرى المجاورة لذويهم وكنا إذا وجدناه يدخن "كدوسة" بشراهة حتى يصل دخانه عنان السماء ويسأل عن أصحاب البرقية بصوت عال نعرف أنه يحمل خبراً "ساراً" وعندئذ يطالب "بالبشارة" التي كانت لا تقل عن "عشرة قروش" وكان ذا المبلغ يكفي لشراء التبغ "القمشة" لغليون العم أحمد لعدد من الأيام. رحمهم الله جميعاً- ونحن في انتظار تصوير الفيلم الوثائقي وعرضه على أهل السودان حتى يعلم الاجيال الحالية واللاحقة من أبناء السودان تراث وحضارة وثقافة اسلافهم وحتى يعلم الجميع حضارة ومكانة هذا الجزء العريق العزيز "الخندق" من وطننا الكبير السودان والله وحده المستعان والهادي إلى سواء السبيل.