ضاحية الرياض شرقي الخرطوم الأربعاء الماضي، اهتزت على سماع السكان لدوي إطلاق رصاص، قبل أن يتفاجأوا بأن مصدره هو سلاح الحرس الخاص للوزيرة السابقة، وزعيمة تيار الإصلاح والتغيير بالحزب الاتحادي الديمقراطي، إشراقة سيد محمود.. الحرس اضطر لإطلاق أعيرة نارية لتأمين خروج إشراقة من مقر الأمانة العامة للحزب، بعد محاولة مناوئيها تفجير أسطوانة (غاز طهي) لحرق المقر الذي تحولت ساحته إلى حلبة للصراع بدلاً عن استضافة الأنشطة السياسية والتنظيمية. بتصفح تاريخ الحركة السياسية منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي رغم حدة الخلافات داخلها، والصراع المحموم على السلطة، والتنافس الشديد، إلا أن الأمر لم يصل أبداً لمستوى التصفية أو القتل، ولم يتجاوز في أسوأ الأحوال الاشتباكات الفردية، أو المشادات إلا إبان الحملة الانتخابية والتراشق بالألفاظ. بروز موجة العنف داخل الحزب الاتحادي الديمقراطي يطرح أسئلة معقدة حول اسباب تناميه وسط أنصار الحزب ومحاولة حسم الصراع بأساليب لم تكن ضمن أدبيات السياسة السودانية حتى وقت قريب، لجهة أن أساليب (البلطجة) لم يستخدمها الاتحاديون تاريخياً، بل ظهرت قبل أعوام وبالتحديد بعد دخول الحزب في الحكومة، ما يشير إلى أن أحد أبرز أسبابها هو عملية التنافس للحصول على مقعد "كرسي وثير" في المباني الحكومية الشاهقة وقليل من النثريات و"الحاشية". اشتباكات بالأرقام بدأ الصراع يحتدم داخل الحزب الاتحادي بزعامة جلال يوسف الدقير – المقيم ببريطانيا منذ أشهر- منذ أن قدم شباب الحزب مذكرة أطلقوا عليها (واجبنا السياسي) كانت أبرز مطالبها معالجة القصور التنظيمي، يومها وافق الشريف الصديق الهندي الذي كان يشغل نائب الأمين العام، على المذكرة، لتبدأ أولى مراحل الصراع داخل الحزب، وبعدها تزعم الهندي تيار الإصلاح بالحزب وخاض معارك سياسية كبيرة مع الدقير، قبل أن يغادر الهندي الحزب ويدخل في رحلة تحالفات طويلة بدأت بتكوين الحركة الاتحادية وانتهت حالياً بالتحالف مع جلاء الأزهري وتشكيل الحزب الاتحادي الديمقراطي الموحد. إبان الصراع السياسي بين الدقير والهندي، وقعت مواجهات لكنها لم تصل لمرحلة إطلاق الرصاص، كان الصراع سياسياً وتخلله قليل من المشادات الكلامية، خاصة بعد احتدام الصراع حول "من الذي سيتولى دار الخريجين بأم درمان". ويومها كان يسيطر الدقير على مقر الأمانة العام للحزب بالرياض بينما كان أنصار صديق الهندي يقودون نشاطهم من "دار الخريجين بأمدرمان". حينها شهد نادي الخريجين اشتباكات بالأيدي بين عضوية تيار الإصلاح بزعامة الشريف صديق وتيار آخر على خلفية إعلان الحزب تنظيم احتفال لمناصرة القوات المسلحة في الهجوم على أبوكرشولا. الحادث الثاني: أما الحادث الثاني، وقع في احتفال اللجنة القومية باليوبيل الماسي لمؤتمر الخريجين بنادي الخريجين وشهد الاحتفال ملابسات عنيفة بين شباب الحركة الاتحادية والقيادي بالحزب الاتحادي الأصل، عثمان عمر الشريف، وسادت حالة من الهرج والفوضى بعد تعالي الهتافات المناوئة للشريف الذي ابتدر كلمته ممثلاً لحزبه، ولم يبال الشريف للهتاف في بادئ الأمر، لكن اشتداد الهجوم عليه، دفعه للرد قائلاً (الما ادبوا الزمن نحن بنأدبوا)، وبالمقابل واصل الشباب الهتاف ضده وتجمهروا فى المنصة واقتلعوا منه الميكروفون، مما اضطر الشريف لمغادرة الدار برفقة القيادي الاتحادي أحمد سعد عمر. لكن لاحقاً وضعت السلطات يدها على دار الخريجين بأم درمان، وغادر تيار الإصلاح بزعامة الشريف صديق الهندي، حزب الدقير "ولم يعد يجمعهم سوى الذكريات، وقليل من التواصل الاجتماعي". حالة اختطاف: لم تتوقف المعارك داخل الاتحادي بعد مغادرة مجموعة صديق الهندي للحزب، ومن أبرز أحداث العنف التي شهدها الحزب الاتحادي في التاريخ القريب، هو ما تعرض له القيادي الشاب بالحزب الاتحادي سفيان أحمد، ووقتها كان أحمد من أبرز المناهضين للحزب. ما أن وصل سفيان أحمد لولاية نهر النيل برفقة وفد مركزي عالي المستوى برئاسة وزيرة العمل (آنذاك) إشراقة سيد محمود ووزير البيئة حسن هلال بالإضافة إلى أحمد علي أبوبكر، استقبله (6) من الشباب المحسوبين على الحزب وقاموا باستدارجه إلى داخل عربة (بوكس) ومن ثم تحركوا به إلى جهة مجهولة خارج المدينة –تفيد المتابعات بأنها في ضواحي أم الطيور-، طبقاً لرواية سفيان ل(السوداني)، مواصلاً: بأنه تعرض لضرب مبرح بالأيدي من قبل مختطفيه بل وصل الأمر حد تهديده بالقتل. بعد ساعات من حادث ضرب سفيان، شهد المؤتمر التحضيري للحزب بالولاية اشتباكات وصلت حد إشهار البعض للأسلحة البيضاء وسط ذهول الأعضاء والقيادات، على خلفية تعرض سفيان لعملية اختطاف من قبل مجهولين. لكن بعد مرور أشهر من الحادث، نجح جلال الدقير في تطبيع العلاقة مع سفيان، قبل أن يتم تعيينه مقرراً لدائرة الصحافة بالحزب، وهو الآن من أبرز المناوئين لإشراقة. إشراقة تواجه الدقير: مؤخراً، اشتدت حدة المواجهات داخل الاتحادي بعد فقدان مساعدة الأمين العام إشراقة سيد محمود، مقعدها في الحكومة قبل أن يصدر الحزب الاتحادي قرارات بفصلها، ومن يومها بدأت خوض معركة حامية مع جلال الدقير قبل أن يضطر الأخير لتقديم استقالته ومغادرة البلاد صوب لندن والاعتكاف بها حتى اليوم، لكن إشراقة لم تتوقف فكثفت معاركها مع الأمين العام المكلف أحمد بلال. المواجهات بين الحزب ومجموعة الإصلاح بزعامة إشراقة أخذت مسارين أولهما التحاكم لمجلس الأحزاب المعني بصراعات الأحزاب السياسية، وحكم المجلس لصالح مشروع الإصلاح ليدخل الطرفان في صراع الشرعية، والمسار الثاني أخذ منحى غريباً –اشبه بأسلوب البلطجة- وسط مواجهات إعلامية، وبدأت الخلافات تتطور حد الوصول إلى الاشتباكات. أنصار إشراقة، لم ييأسوا ولم يتوقفوا بل استخدموا جميع الوسائل لإظهار قوة تيارهم وإرهاب الخصم، ودشنت مجموعة الإصلاح والتغيير حربها بتنظيم مسيرة قوامها العشرات إلى مجلس الأحزاب في يناير العام الماضي، وتسليمه مذكرة تطالب بعقد المؤتمر العام وملء الفراغ الذي خلفه رحيل رئيس الحزب الشريف زين العابدين الهندي في العام 2006م ويومها عقدت إشراقة مؤتمراً صحفياً كالت فيه الاتهامات للدقير وأحمد بلال بالخيانة المالية، ومن يومها احتمى الطرفان بوسائل الإعلام وباتت خلافاتهم تتصدر عناوين الصحف والبرامج التليفزيونية. اقتحامات متكررة: خلال رحلة الصراع، اقتحمت إشراقة بمعية عدد كبير من أنصارها، مقر الأمانة العامة للحزب أكثر من مرة وقامت بكسر أقفال الأبواب، وفتح مكتبها –مساعد الأمين العام- لإدارة نشاطها، ولم تتمكن إدارة الحزب من إيقافها، لكن قوة من الشرطة ظلت ترابط بالقرب من مقر الأمانة. وبمرور الأيام تحول الصراع من المشادات الكلامية إلى الاحتكاك الطفيف بين أنصار الحزب ومجموعة الإصلاح التي تتزعمها إشراقة. مطلع العام الجاري، عقدت اللجنة المركزية للحزب الاتحادي، اجتماعاً لها بحضور إشراقة التي غادرت الاجتماع بعد أن شعرت بأن هناك خطة لازاحتها، الاجتماع العاصف قرر فصل إشراقة، لكن الأخيرة لجأت إلى مجلس الأحزب الذي أبطل قرار اللجنة المركزية، القاضي بفصل إشراقة، كما أبطل قرار اللجنة المركزية بحل الأمانة العامة وتفويض الأمين العام المكلف للحزب بإعادة تشكيلها، وأكد بعدم صحة تكوين لجنة محاسبة دائمة بالحزب الاتحادي. ساهم قرار المجلس في بث الروح في جسد مجموعة الإصلاح الذي ظن قادة الحزب بأنه "مات بعد قرار اللجنة المركزية"، وبدأت إشراقة في إطلاق الاتهامات لقيادة الحزب قبل أن تطالب الحكومة بتحمل قرار مشاركة أحمد بلال في التشكيل المقبل باسم الحزب دون الرجوع للمكتب القيادي للحزب. إطلاق الرصاص: مساء الثلاثاء الماضي، اقتحمت إشراقة وبمعيتها أنصارها التي لا تتحرك بدونهم، مقر الأمانة العامة للحزب وقامت بكسر أقفال الأبواب، لكن بعد دقائق تجمهر عدد من أنصار الحزب، ووقعت اشتباكات طفيفة بينهما. في اليوم الثاني، حشد الطرفان أنصارهما في انتظار معركة حاسمة بينهما بعد أن أعلن عدد من أنصار الحزب بأنهم "لن يسمحوا لمجموعة الإصلاح بدخول الدار وممارسة العبث"، لكن يبدو أن أنصار إشراقة لم يكترثوا إلى التهديد وقاموا باقتحام الأمانة وتتوسطهم إشراقة. وبعد دقائق أصاب الهلع السكان القريبين من الأمانة العام للاتحادي بعد سماعهم صوت الرصاص، وقالت إشراقة سيد محمود إن حرسها الخاص قام بإطلاق الرصاص بغرض فك الاشتباك وحماية مقر الأمانة، واتهمت أحمد بلال بتحريض ثلاثة شبان بينهم ابن أخيه وأقرباؤه بحرق الأمانة العامة، لكن المتحدث باسم الاتحادي نفى اتجاه أنصار الحزب لحرق الدار، قبل أن يضطر الحزب الاتحادي لإغلاق داره حتى انجلاء الآزمة والوصول إلى حل. انحطاط سياسي: ووصف عدد من الاتحاديين أحداث العنف داخل الاتحادي بالسلوك الدخيل، وقالوا إن التاريخ الاتحادي لم يشهد قط محاولة اغتيال، وأدان القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي الموحد، علي يوسف حادثة إطلاق الرصاص، واعتبرها انحطاطاً سياسياً وسلوكاً دخيلاً وسط الاتحاديين ولا تشبه سماحتهم وحزبهم المعروف بحزب (السماحة والاعتدال)، وطالب بالوقوف والتدبر حولها، ودعا الاتحاديين بالالتزام بأدب الاختلاف وعدم الجنوح إلى العنف لتصفية خلافاتهم السياسية، وشدد يوسف على ضرورة محاسبة الجهات المتورطة في الحادث حتى لا تصبح ظاهرة جديدة داخل الحزب، وقال إنهم يطمحون في ممارسة سياسية راشدة تسود فيها ثقافة الاعتدال وتقبل الرأي الآخر، ورأى يوسف أن الهدف من الصراع هو تحطيم الحزب بفضيحة كبرى مثل ما يحدث الآن من اشتباكات بالأيدي واتهامات بالخيانة المالية وهذا انحطاط سياسي المشاركة في الحكومة: وعزا مراقبون بروز ظاهرة العنف وسط الاتحاديين مؤخراً لمشاركة عدد من الأحزاب الاتحادية في الحكومة وسط اعتراض منسوبي الحزب للخطوة مما خلق حالة من الخصومة والعداء بين تيار المشاركة والرافض. ويرى المحلل السياسي د. محمد أحمد محجوب أن إدخال جرثومة العنف في الحياة السياسية يتحمل وزره الكثيرون، وعزا في حديثه ل(السوداني) أحداث العنف السياسي وسط الاتحاديين لعدد من الأسباب أولها غياب الروح الأبوية التي كانت تحكم الفرد الاتحادي بالإضافة إلى الانفلات التنظيمي، موضحاً أن ظاهرة الانقسام والانشقاقات لعبت دوراً كبيراً في بروز العنف داخل الحزب الاتحادي بالإضافة إلى الإحباط العام الناتج عن ضعف الحزب وخروجه من دائرة الفعل السياسي، وأضاف "كيف لايجنح الشباب وهم ينظرون إلى حزب عريق مثل الاتحادي لا تأثير له في الأحداث السياسية بالبلاد وقضاياه المصيرية". الوطني هو الحكم: بالعودة إلى الصراع بين الاتحادي بزعامة بلال ومجموعة إشراقة، فإن بلال ما يزال فعلياً يقود الحزب وممسكاً بملفاته لا سيما أن قواعد الحزب في المركز والولايات ما زالوا في صفه، بينما يراقب الدقير الأوضاع من لندن ويساهم في عملية التخطيط والدعم المالي. أما إشراقة فهناك اتهامات لها من قبل مناوئيها بأنها مسنودة من تيار قوي داخل الحكومة، لكن جميع المؤشرات تؤكد أنها لن تكون ضمن التشكيل الوزاري السابق بالرغم من أنها قامت بتسليم قائمتها للحكومة. وبحسب مراقبين فإن المؤتمر الوطني هو من سيرجح كفة أحد التيارين المتصارعين داخل الاتحادي بعد أن يقرر " من سيمثل الاتحادي في الحكومة"، لكن في حال قرر (الوطني) التعامل مع بلال، هل ستصمت إشراقة الواثقة من قدراتها وظهرها المسنود بتاريخ طويل ؟ أم سينتهي الصراع بالدم ؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.