للحكم اللا مركزي العديد من المَزَايا، وله دَورٌ كَبيرٌ في تَقصير الظل الإداري وسُهولة توصيل الخدمات للمُواطنين مِمّا يُخفِّف عبئاً ثقيلاً على المركز. فبالرجوع إلى الوثيقة الدستورية نجدها أخذت بنظام الحكم اللا مركزي، ففي الفصل الأول الأحكام العامة طبيعة الدولة المادة (3) الفقرة (1) تقول: جمهورية السودان دولة مُستقلة ذات سيادة ديمقراطية، برلمانية، تعدُّدية، لا مركزية.. وأيضاً في الفصل الثالث أجهزة الفترة الانتقالية مُستويات الحكم المادة (8) الفقرة (1) تقول: جمهورية السودان لا مركزية تكون مُستويات الحكم فيها على النحو الآتي:- (1) أ. المُستوى الاتّحادي ويُمارس سلطاته لحماية سيادة السودان وسلامة أراضيه …إلخ. ب. المُستوى الإقليمي أو الولائي ويُمارس سلطاته على مُستوى الأقاليم أو الولايات وفق مَا يُقَرّر مِن تَدابير لاحِقَة. ج. المُستوى المحلي ويُعزِّز المُشاركة الشعبية الوَاسِعَة ويُعبِّر عن الاِحتياجات الأساسية للمُواطنين ويُحدِّد القانون هَياكله وسُلطاته. (2) تكون لمُستويات الحكم المُختلفة اِختصاصات وسُلطات حِصرية ومُشتركة ومَوارد لِكُلِّ مُستوى حكم يُحدِّدها القانون. (3) إلى حين إعادة النظر في التقسيم الجُغرافي وتَوزيع السُّلطات والاِختصاصات بين مُستويات الحكم يَستمر العمل بالنظام القائم.. وتَشكيل حكومات تنفيذية بالولايات وفق ما يتم اتّخاذه من تدابير لاحقة. هذا ما ذكرته الوثيقة، ولكن إذا نزلنا إلى أرض الواقع، نجد أنّ الوثيقة اِهتمت فقط بالمُستوى الأول "الاتحادي" وفصّلته وذكرت كيفية تعيين رئيس الوزراء وشروط تعيينه واختصاصاته، وصلاحيات الوزراء وشُرُوط تَعيينهم وكيفية وعدد الوزارات المُختلفة، ولكنها جهلت وتجاهلت مُستوى الحكم الولائي والحكم المحلي ولم تفصل هياكله أو سُلطاته ولا صلاحياته وكيفية تشكيله، ولم تضع جدولاً زمنياً لاستكماله، ولم تُبيِّن علاقته بالمُستوى الاتّحادي، وما هي السُّلطات المُشتركة، وما هي آلية الفصل فيما ينشب من نزاعات بين مُستويات الحكم المخُتلفة.. ففي المُستوى الولائي حدّدت الوثيقة كيفية تَعيين الولاة، حيث أن من يُعيِّنهم هو رئيس الوزراء ويعتمده المجلس السيادي.. فكان من الأوفق أن يتم التعيين من قِبل المجلس السيادي لأنّه أمرٌ يتعلّق بالسيادة، ولكنها لم تُحَدِّد معايير اختيارهم واختصاصاتهم.. وهنا لنا أن نتساءل عن صلاحيات الوالي في ظل نظام برلماني هَل هِي نفس صلاحياته في النظام الرئاسي؟ ولم تُحدّد عدد الوزارات وكيفية تعيين الوزراء الولائيين وشُرُوط تَعيينهم كما فعلت في المُستوى الاتّحادي، فالوثيقة ذكرت أن المُستوى الولائي يُمارس سُلطاته على مُستوى الولايات وفق ما يُقرّر من تدابير لاحقة.. ولنا أن نتساءل مَن الذي يضع هذه التدابير؟ مَعلُومٌ أنّ الوثيقة كانت نتاج تفاوُض بين قِوى إعلان الحُرية والتّغيير والمجلس العسكري الانتقالي، فهل يمكن أن يفتح باب التفاوُض مرةً أُخرى بين قِوى الحُرية والتّغيير والعسكريين لوضع التدابير اللازمة والتي على ضوئها يُمارس المُستوى الولائي سُلطاته؟ ما تجاهلته الوثيقة فيما يتعلّق بمُستوى الحكم الولائي تَداركه قد يُكَلِّف زَمناً طَويلاً من تَفَاوُضٍ واختيارٍ للولاة والوزراء في (18) ولاية، والولايات لا تَتَحَمّل انتظاراً طويلاً لما تُعانيه من إشكالات في الصحة والتعليم والتنمية والزراعة، فجل اقتصاد البلاد يعتمد على هذه الولايات. نَعلم أنّ الولايات يُديرها الآن ولاة عسكريون مكلّفون، عيّنهم المجلس العسكري الانتقالي.. والوزارات مُكلّف بإدارتها المُديرون العامون إلى حين تعيين الوزراء.. وعُمُوماً الشخص المُكلّف لا تكون له الهِمّة اللازمَة ولا الاستعداد النفسي كالشخص الذي يتم تَعيينه رَسمياً، لأنّه في أيّة لحظة قد يغادر موقعه.. ولا ننسى أن في الحكم الولائي جهازاً تشريعياً هو المجلس التشريعي الولائي، فحسب الوثيقة تظل المجالس التشريعية الولائيه قائمة، لأنّها ذكرت أنّ النظام القائم يَستمر إلى حين إعادة النظر في التقسيم الجُغرافي وتَوزيع السُّلطات والاِختصاصات.. أيضاً، كان على الوثيقة أن تحسم أمر هذه المجالس كتحديد عدد الأعضاء وكيفية تعيينهم ونسب المشاركة أُسوةً بالمجلس التشريعي القومي. وفي مُستوى الحكم المحلي أيضاً، لم تفصل الوثيقة كيفية تعيين المُعتمد ولا صلاحياته ولا الجهة التي تُعيِّنه، وكَذلك المَجَالس التّشريعية المَحليّة، فالمحليّات يُديرها المديرون التّنفيذيون في كل الولايات عدا الخرطوم تَمّ تعيين مُعتمدين مُكَلّفين. وقبل الختام، تبادر إلى ذهني سُؤالٌ يبحث عن إجابة، مَعلُومٌ أنُ الولاة العَسكريين الحاليين عيّنهم المجلس العسكري الانتقالي والذي تمّ حله بمُوجب الوثيقة الدستورية والتي جعلت أمر تعيين الولاة لرئيس مجلس الوزراء، سؤالي أمام مَن يكون هؤلاء الولاة مسؤولين عن أداء أعمالهم ومهامهم؟! تجاهل الوثيقة لمُستوى الحكم الولائي والمحلي من أكبر المآخذ التي عليها.. ولا أدري كَيف يتم تداركه والزمن الذي يأخذه ذلك.