القاهرة الرسمية تعيش حالة من الحرج بفعل الأدلة التي كشفتها الخرطوم عن تورطها في دعم حركات دارفور في الهجوم الأخير، ولمنع التكتيكات السياسية حرصت الخرطوم على إقامة عرض للمدرعات والذخائر التي وجدت في حيازة حملة السلاح. وطبقاً لمعلومات (السوداني) فقد تم استدعاء السفير المصري بحضور كل ممثلي البعثات الدبلوماسية في الخرطوم بعد 24 ساعة من انجلاء المعارك، ومواجهته بالحقائق، فما كان منه إلا أن رجح أن تلك الأسلحة والمدرعات قد انتقلت من قوات حفتر للحركات، قاطعاً بعدم تورط بلاده عمداً. واعتمدت القاهرة أسلوب النفي الرأسي، فصدر أول بيان رافض لاتهامات الخرطوم من الخارجية المصرية قبل أن يعزز الموقف الرافض الرئيس عبد الفتاح السيسي. اتهام الخرطوم عبر الرئيس البشير ونفي القاهرة على لسان الرئيس السيسي، جعل التحليلات تذهب إلى أن كلا العاصمتين تتحدثان من منطلق معلومات مؤكدة وموثوقة، الأمر الذي استشفَّته الخرطوم وجعلها تنظر للأمر بحكمة وتبحث عن أطراف تحرص على إشعال النار، لتبرز مرونة الخرطوم وبرود أعصابها في التعامل مع الأزمة عبر عدم تعدد التصريحات أو شذوذ الاتهامات تجاه القاهرة. الخرطوم من جانبها تعيش أجواء المنتصر والقادر على إدارة دفة الأمور، فعملت على التصعيد الشرعي، فاعتمدت في الخطوة الأولى على إبراز ما لديها من دلائل عبر الإعلام، قبل أن تترجمه إلى مطالبة بتكوين لجنة تقصي حقائق في الدعم المصري والجنوب سوداني والليبي عبر المؤسسة العسكرية لا السياسية، ممثلةً في نائب رئيس هيئة الأركان يحيى محمد خير في اجتماع هيئة رؤساء أركان البحيرات العظمى بأنجولا. خطوة الخرطوم الثانية في مواجهة القاهرة جاءت عبر مجلس الوزراء القومي الذي أجاز كل القرارات السابقة بحضر المنتجات والسلع المصرية من دخول البلاد، وهي الخطوة التي وصفها الخبراء بالقوة الناعمة التي تمس عصب الاقتصاد المصري، لتصبح الاحتمالات مفتوحة على ما يمكن أن يحدث بين العاصمتين، فما هي أبرز الاحتمالات؟ المواجهة العسكرية التحليلات تذهب إلى إمكانية نشوب حرب في أعقاب مقطع فيديو مسرب للرئيس السيسي قطع فيه بحق مصر في مهاجمة كل المعسكرات والمواقع التي تنطلق منها الأعمال العدائية تجاه بلاده. تزامن المقطع مع حالة التوتر المتصاعد بين الخرطوموالقاهرة، جعل الكثيرين يفسرون التهديدات بأنها تستهدف الخرطوم؛ بيد أن خبراء عسكريين وأمنيين استبعدوا أن تحدث مواجهات عسكرية بين البلدين. ويذهب الفريق أمن الفاتح الجيلي المصباح في حديثه ل(السوداني) أمس، إلى أن العلاقات التجارية والسياسية بل والاجتماعية بين مصر والسودان تحول دون الوصول لمرحلة المواجهات العسكرية. وبرر المصباح لاستبعاده بأن مصر غير راغبة حقيقة في الدخول إلى مواجهات عسكرية مع السودان لجهة أن ثمة ظروفاً داخلية كثيرة تمنع ذلك، وما تقوم به الآن محاولة لتنفيس الضغوط السياسية المرتبطة بأوضاع ملف الأمن المائي والملف الاقتصادي والتجارة، وما تقوم به محاولة للتأثير على تلك الجوانب بما يؤدي لتقليل الضغوط أو حلها ليس إلا. نائب رئيس هيئة الأركان الأسبق الفريق عثمان بلية يتفق مع المصباح في استبعاد حدوث مواجهات مسلحة بين العاصمتين، بيد أنه يذهب في حديثه ل(السوداني) أمس، إلى أن سبب استبعاده مرتبط بالإرادة السودانية نفسها، ويرى أن الخرطوم إذا كانت ستلجأ للمواجهة العسكرية والتصعيد المسلح لتبنَّته منذ بداية التسعينيات لدى محاولات مصر احتلال حلايب ووصلت حالياً حد إقامة سد ترابي وبوابة تمنع من تمنع وتسمح لمن تسمح بالعبور. ورجح بلية أن يدخل السودان في حرب مع مصر في حالة الدفاع عن النفس فقط، وأضاف: "الخلافات تحدث من وقت لآخر وتُحل بالحوار والوسائل السلمية". وقطع بلية بأن الخرطوم تدرك جيداً حجم المخطط السياسي الكبير لإجهاض رفع العقوبات، لذا ستعمل للتهدئة وليس للتصعيد. قريباً من الكروت إمكانية المواجهة العسكرية ولو دفاعاً عن النفس، تفرض تحليلات أكثر عمقاً. ويذهب الكاتب عبد العظيم الجعفري في مدونته التي اطَّلعت عليها (السوداني) أمس، إلى أن إقدام القاهرة على مهاجمة الخرطوم يعد نوعاً من الانتحار، وأضاف: "مصر بكل الحسابات السياسية والعسكرية أضعف من أن تواجه السودان بضربة، لأن ذلك يجعل خيارات الخرطوم مفتوحة". ويرى الجعفري أن الخرطوم يمكن وبأقل مجهود أن تدمر السد العالي مهما كانت الحصانات المصرية، وهو الأمر الذي يعتمد عليه مصير مصر بأكملها. واعتبر الجعفري أن زيادة الاستفزازات المصرية حد التلويح العسكري من شأنه أن يدفع الخرطوم لتصعيد مماثل في ظل توفر كرت مياه النيل في يد الخرطوم، وأضاف: "السودان يمكن أن يحرم مصر من النيل حال وقع على اتفافية عنتيبي وبالتالي خسارة مصر زراعياً واقتصادياً وهي في وضع اقتصادي وسياسي وعسكري لا يسمح لها بضرب السودان كما أنها تخوض حروباً في جبهات متعددة واقتصادها متدنٍّ وجبهتها الداخلية غير متماسكة". فيما نقلت تقارير إعلامية عن مدير المعهد الدولي للعلوم السياسية والاستراتيجية ممدوح المنير، أن التصعيد على الأقل في المستقبل المنظور سيظل في مستوى المناكفات السياسية والإعلامية، لافتاً إلى أن الطرفين بأوضاعهما الداخلية أضعف من تجاوز مستوى الخلاف إلى أبعد من ذلك. وعزا المنير احتدام الخلاف بين البلدين إلى ارتباط السيسي بالأجندة الأمريكية الصهيونية وأضاف: "للطرفين أسبابهما المباشرة للخلاف لكن ارتباط السيسي بالأجندة الأمريكية الصهيونية تمثل عاملاً حافزاً لتصعيد الخلاف، كذلك النشاط السعودي القطري الاقتصادي في السودان يمثل أيضاً عنصرَ ضغط غير مباشر على السودان تجاه مصر". التهدئة وبقاء الوضع حال تم استبعاد خيارات التصعيد العسكري من قبل المهتمين، إلا أن ثمة خيارات أخرى تفرض نفسها خصوصاً في ظل ما تم إعلانه عن وساطة عربية بين الخرطوموالقاهرة من أجل التهدئة. ويرى اللواء عمر عبد الماجد في حديثه ل(السوداني) أمس، أن القاهرة لا يمكن أن تخوض أي حرب، وستعمل على بقاء الوضع كما هو بما في ذلك محاولات المساومة السياسية والمفاضلة بين تغيير موقف الخرطوم من سد النهضة في مقابل حل مشكلة حلايب. وقطع اللواء المقرب من الرئيس والنائب الأول، بأن القيادة السودانية تدرك أن مصر لن تغامر في ظل وضعها الحالي، ووصفه بالصعب لجهة أن ثلاثة أرباع الشعب المصري ضد الحرب. وقطع بأن السودان يملك كروتاً لا يريد استخدامها منعاً لإيذاء مصر بحكم العلاقات التاريخية ومكانتها في الوجدان، وأضاف: "قيادة الدولة تدرك جيداً حجم إمكانياتها وكروتها السياسية التي يمكن أن تستخدمه في مقدمتها التوقيع على عنتيبي ما يجعلها اتفاقية دولية، بالإضافة إلى انتظار أي انقلاب أو مغامرة مصرية ما يعني إلغاء اتفاقية مياه النيل 1959م والتحلل منها". وكشف عبد الماجد عن أن مصر تدرك حجم الخطر السوداني إذا غازل جنوبها بحكم القرب الوجداني لجنوب مصر مع شمال السودان بحكم الانتماء النوبي، وبالتالي إغضاب الخرطوم يعني توتير جنوب مصر ويعني كذلك فتح جبهة جديدة غير الشرق حيث سيناء، وعبر الغرب حيث ليبيا، بإضافة الجنوب مع السودان. فيما قطع مصدر عسكري رفيع ل(السوداني) أمس، أن دخول المعارك ليس نزهة، ومصر قبل العالم يعرف أن حسم المعارك يعتمد على المشاة، والسودان بشهادة العالم يملك جيشاً من المشاة لا يُستهان به وقادراً على العمل في كل الظروف وهو ما لا يتحقق للجندي المصري والاعتماد على الطيران والبحرية لا يتيح السيطرة على أي شيء.