دق (حراس الذاكرة السودانية) ناقوس الخطر لافتين انتباه القائمين على الأمر بضرورة الالتفات والاهتمام بالأرشيف الخاص بالأفلام السودانية التي توثق لعدد من الموروثات السودانية وتحمل تاريخ البلاد في باطنها.. العم عوض ورفيق دربه الأبنوسي بنجامين ابن دولة الجنوب كانا الأمينين على ذاكرة الخرطوم التوثيقية، وظلا يعملان لأربعة عقود من الزمان بمؤسسة الأفلام السودانية، يبذلان قصارى جهدهما في حفظ الأرشيف الوطني والتراث السوداني. (الجزيرة الوثائقية) كانت الأكثر حساسية في التقاط فقدان الخرطوم لذاكرتها بفقدان بنيامين، فعرضت فيلما وثائقيا عن الأفلام السينمائية الوثائقية السودانية التي وثقت لكل مناحي الحياة بما في ذلك زيارات أسماء لها وقعها في العالم، الفيلم كان فكرة فتى سوداني آخر أوجعته صدمة الفقد والإهمال للإنسان ولذاكرة بلاده ممثلة في الأرشيف فكان صهيب قسم الباري قادرا في 25 دقيقة على توصيل رسالته وتحذيره من خطر فقد الأرشيف. مشهد اول عم عوض الضو شمالي الأصل ورفيقه بنجامين ابن الجنوب البار، جمع بينهما حب الوطن والخوف من ضياع ثروة قومية لا يمكن تعويضها وهي الأفلام التي توثق لتاريخ الخرطوم بكل ما فيه من معلومات تحتشد بها مكتبة تحتوي على أكثر من 13 ألف فيلم لأحداث تاريخية مرت على عصور مختلفة، لكن ما يدعو للاسف أن تلك الثروة تعرضت لإهمال وسوء تخزين، لتفقد الخرطوم الكثير مما تحتويه. الهم الأول لعوض وبنيامين كان كيفية المحافظة على ذاكرة الأمة – إذا جاز التعبير- من الاندثار فظلا أشبه بالحراس لا يغمض لهم جفن، وحسبما قال عوض في حديثه في (الفيلم) انه يشعر بأن تلك الأفلام مثل أبنائه. كاميرا التوثيق تجولت داخل الأرشيف من ثم أرجعت كبسولة الزمن إلى ما قبل الدولة السودانية المستقلة، مستعرضة بعض الأحداث من بينها زيارات لشخصيات مهمة وعبور سفينة الخرطوم من ميناء بورتسودان والرقصات الشعبية لبعض القبائل السودانية في احتفالات مختلفة. وكانت أغلى اللقطات رفع علم الاستقلال، وتوثيق افتتاح مباني الإنتاج السينمائي على يد الرئيس إسماعيل الأزهري ويظهر بنجامين الذي يلفت انتباه صديقه عوض ضاحكا (عايني أنا هداك)، فكلا الرجلين كانا حضورا منذ ذاك التاريخ. مانديلا مفقود عم عوض ظل يحكي بمرارة عن الخطر الذي يهدد الأرشيف بسبب الإهمال، وقال: ظللت ورفيقي نأتي للمكتبة لنعمل على تصنيف الأفلام، إذ تكون البداية بمعرفة أن الفيلم صالح أم طاله الإهمال من ثم مقاسه ومعرفة إن كان سالبا أم موجبا، وهي المواصفات الفنية للأفلام كل هذا بعد نفض الغبار عنها ثم تأتي مرحلة المشاهدة ليتم تصنيفها وترتيبها بين أقرانها، عم عوض شكى أن هناك عددا من الأفلام اصبحت رمادا بسبب درجات الحرارة وما يدعو للأسف أن بعضها لا توجد له نسخة ولا يمكن استرجاعه من جديد. وكشف صاحب الفكرة عن غياب عدد من الأفلام من بينها زيارة رئيس جنوب إفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا، فما كان من عوض وبنيامين إلا أن يمما وجهيهما شطر منزل صديقهما (عدوي) الذي يعد من أوائل المصورين السودانيين، وهو من قام بتصوير زيارة مانديلا. وأكد ذلك إبان زيارة أصدقائه وحينما أخبروه بضياع الفيلم، قال متحسرا (دي جريمة يا جماعة) خاصة حينما تكهن بنجامين بأن الفيلم ربما حرق أو غرق عندما دخلت المياه إلى مباني الأرشيف، وما يلفت الانتباه أن عم عوض وبنجامين كان يستقلان عربة امجاد ما يعني أنهما ورغم سنين عملهما لا يملكان عربة خاصة. فضيحة الاحتياجات كشف العم عوض أن مكاتبات عديدة تمت بينهم والهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون بضرورة توفير الاحتياجات اللازمة من بينها أجهزة تبريد ورفوف بالإضافة إلى العمال الذي يعملون على حمل علب الأفلام من على الأرض ووضعها على الرفوف، إلا أن أحدا لم يلتفت إليهم فخاطبوا المهتمين بالثقافة وكانت البداية بالملحق الثقافي الإيراني والفرنسي والسفير الصيني وحضروا للزيارة إلا أنهم لم يعودوا مرة أخرى. بنجامين وصديق عمره عم عوض ظلا يقاتلان من أجل الموروث السوداني باعتبار أنها معركتهما الأخيرة ولا يريدا أن تصرعهما الظروف بعد تلك السنوات التي أفنيا العمر فيها في الحفاظ على الأرشيف الذي ظل جزءا منهما. بنجامين لفت إلى شراء الأدوات الخاصة بالعمل من نقودهم (شفرات- لاصق - مقص) حين يود أن يصنف الأفلام ومعالجتها من الكسور ورفيقه قائلا: (ماعندي قروش، قبل الهيئة كنت فوق وجو هنا رموني تحت) لكن من أجل الاجيال القادمة سأعمل ولا أظن أنها ستجد ما تشاهده. من هو بنيامين؟ لم تتوقف الأحزان عند بوابة الأرشيف فقط، فالجانب الآخر من حياة الحارس الأمين بنجامين هي مأساة في حد ذاتها إذ يعيش مع أفراد أسرته في منطقة عشوائية خالية من الخدمات تأتيهم مياه الشرب على ظهر (الحمير)، وأضاف والدموع تملأ مقلتيه بعد انفصال الجنوب: ظللت أُعامل معاملة الأجنبي فدائما ما يطالبونني بإبراز الإقامة أو إذن الدخول عند مدخل الهيئة وأنا الذي ظللت أخدمها طوال عمري وما يؤلم أن الهيئة لم تكن تفي بمستحقاتي المالية. وتظهر من خلال الفيلم كريمته التي قال إنها تتعرض لمضايقات دائمة من بعض الشماليين إذ يطالبونها بالعودة لأهلها بالجنوب. وأضاف: في الجنوب يتم طردنا بوصفنا (مؤتمر وطني) ثم يصمت باكيا خاتما بقوله (البلد خلاص انتهت). وتتوالى الأوجاع عند مدخل منزل عم عوض بأم درمان الذي يُبرز خطاب إيقافه لزوجته إذ تم فصله عن العمل بسبب مطالبته بضرورة الاهتمام بالأرشيف السينمائي قبل ضياعه، ليترك عوض العمل ويظل بنجامين وحيدا يعامل معاملة الأجانب. الصورة حزينة من داخل الأرشيف لبنجامين الذي قال إنه سيفعل ما بوسعه لحماية آلاف الأفلام، لكنه لم يكن يدري خبايا القدر. (أمات طه) بنجامين آخر أمنياته أن يعمل على حماية الأرشيف قبل (أن يلحق بأمات طه) – بحسب تعبيره - وأن يقابل مسئولا يشيد به ورفيقه على ما قاموا به تجاه إرث حضاري لأهميته. كل هذه كانت أحلام ابن الجنوب الرجل الأبنوسي بنجامين، ولكن (...) صوت سارينة الإسعاف يقتل تلك الأحلام ويعلن صافرة النهاية لرجل خدم بتفان دون أن ينتظر كلمة شكر، حادث سير يضع آخر نقطة في حياة رجل جميل الملامح وهو خارج من العمل في طريقه إلى المنزل الذي احتشد بالحضور؛ كل يبكي أوجاعه خاصه رفيق الدرب عم عوض.