وسائلُ التواصلِ الاجتماعي الحديثة أصبحت نعمةً ونقمةً ، نعمةً بتقريب الشقةِ وتواصل الأهل والأصحاب وتبادل صالح الأخبار ، الفكر ، الدروس والعِبْر . وهي لا شك نقمةً بنشر فارغ ِو غثِّ الحديث وكاذبه دون التحقيقِ و التثبت فكأن لسان حالها يقول : تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقةً لَيْستْ بِنَبْعٍ إذا عُدَّت ولا غَرَبِ 2 يضاف إلي ذلك أصبح تداول الأخبار عبر الأسافير يؤثر سلباً وإيجاباً في الحالةِ النفسية للمتلقي فقد يجد بعض الترويح والتسلية وقد يجد رياح الهمّ والغم ّ تعاوده من كل الجوانب فلسان حال صاحبها : وإلْفُ هُمُومٍ ما تَزَالُ تَعُودُهُ عِيَاداً كَحُمَّى الرِّبْعِ أو هِيَ أثْقَلُ 3 إذا وَرَدَتْ أصْدَرْتُها ثمّ إنّها تَثُوبُ فَتَأتي مِنْ تُحَيْتُ ومِنْ عَلِ منذُ أيام ٍ وأنا مثل الشاعر الجاهلي تعاودنِي الهموم من تُحيتٍ ومن عُلٍ بعد أن شاركني صهري بمادة تركتني واقفاً وحيداً ، تهطلُ عليّ "أمطار الحَزْن" ، و تعْصِفُ بي رياح الهم ّ و الأسى ، "حركت فيّ عصب السكون" وفتحت فيّ "شُرفة وَجَعْ " ، جددت عذاب الأزمنة 4 . قدمت قناة الجزيرة الوثائقية الانجليزية آواخر أكتوبر برنامجاً متميزاً عن الإرشيف السينمائي في السودان بعنوان : الشاهد : أفلام السودان المنسية ، يمكن الاطلاع عليه عبر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=NUPlYMjC4FY ويستحسن مشاهدة المادة أولا ً حتى يتسنَّى فهم سِياق الحديث . سَرَدَ البرنامجُ الوثائقِي قصةَ الثنائي بنيامين (بنجامين) شكوان أدو الجنوبي المولد ، سوداني الهوية ، ورفيق دربه السينمائي عوض الضو الذين ترافقا عبر سنوات ٍ تقاربُ الخمسة عقود في حقل الأفلام والسينما . سَردا فيها بحنو إنساني متجرد ، وواقعية سوداوية و ألم مكنون تأسيس التلفزيون السوداني وإدارة الانتاج السينمائي القومية في الستينيات من القرن الماضى ، في سبق ٍ إعلامي فريد على مستوى القارة والعالم العربي ومن ثمّ تكوين أكبر إرشيف سينمائي يفوق الثلاثة عشر ألفاً هو الأكبر في إفريقيا . أدت عوامل الزمن والإهمال البيروقراطي أن يتعرض الإرشيف إلى التأكل والتلف مثل توثيق زيارة مانديلا التاريخية للسودان والاحتفاء به كقائد للمقاومة الإفريقية . رغم ذلك بذل بنيامين وعوض كل جهد ٍ و عنت بكل تجرد ٍ ونكران ِذات في محاولة للذود عن الإرشيف المعرفي التاريخي بكل ما أوتيا من جهد ٍ وعطاء حتى تم تخصيص غرفة ٍ قميئة تحوي الكنوز والدرر عن ماضٍ وتاريخ تليد لأمة ثمثل عظمة شعب كان بين الأرفع في القارة والمنطقة تقازمت نخبه عبر العقود في من حفظ سبقه وصون عزته وكرامته ، وسردا كيف كان جهدهما يجد كل الإهمال من المسؤلين الذين لم يمنوا عليهم بأقل درجات الإهتمام فتجدهم يعملون في تفان ٍ في ظل رمضاء يتقطر عرقهم بينما المسؤول المعنِي " يتوهض" الوثير ويستمتع بهواء الزمهرير ، بينما يتقاصر سبقه وجهده عنهم رفعة ومكانة لو كان يدري ، لكنه لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ! بعد كل ذلك الرهق لم يتم تقدير جهدهم وتفانيهم ليتم تقييم بنيامين " كعامل أجنبي " دون حقوق مادية أو أدبية ! رغم هذا الحَشْفَ وسُوء الكيل ، ترفّع الثنائي عن الضيم الذي لحق بهما وعمِلا في صمت ٍ كما وثّقا أن جهدهم من أجل الوطن لا المردود . وفي محاولات يائسة لحفظ التراث خاطبوا بإسم السودان الملحقيات الثقافية الأجنبية أن أدركوا تاريخ بلادنا يتسرب بين فرجات أصابع عدم المبالاة وعدم المسؤولية ، فكانت الوعود التي لم تتحقق لكن يبقى الواقع أن ما حكّ جلدك غير ظفرك ؟ تسردُ أحداث البرنامج الوثائقي المتميز فكرة ً و موضوعاً وتنفيذا ً ، عشرون دقيقة من عمر الوطن المكلوم عبر أبطال الحدث نقتفِي فيها آثار الوطن المغبون ثم ّ نقف باكين على الرسم ِ الذي دَرَسْ حتى نجلس في وهن نعزي أهلنا و أنفسنا في الفقدِ العظيم . حتى تعمُّ الفائدة ، نستخلص من أحداث البرنامج الوثائقي المتميز وقفاتٍ علّها تكون تذكرةً لأُوْلِي الألباب و أُوْلِي لنُّهى : الوقفة الأولى : بُؤس إعلامنا المحلي الذي دوما ً ما يقتصرُ على الإعلام الخبري و الحواري دون التوثيقي والاستقصائي حيث يتحلّق الجميع تزيّنهم الغواني والحِسْان حول الكراسي الوثيرة يجترّون أحاديث السياسة ، المجتمع ، الرياضة والفن التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تطور العقل والفكر ، يكسرون الرتابة بكل من هبّ ودبّ من أهلِ الفنِّ و الوَتَر حتى تخال أن الغناءَ قد أصبح الحرفة الرئيسية في البلاد مستبدلاً الزراعة والرعي ! يحدث هذا فيأتي الأجنبي ليستخرج الكنوز و الدرر من بين ظهرانيهم وهم ما يزالون يطربون و يتمايلون ! وإن استنجدوا بعُذر الامكانيات فما عليهم سوى أن يُرجعوا البصر كَرّتَيْن في مادة البرنامج التوثيقي الذي ضمَّ الفكرة والمحتوى ونُفْذَ بأبسط تقنيات السهل الممتنع! الوقفة الثانية : التدهور النسبي المتسارع في البلاد ، سرد الثنائي ماضي وحاضر السودان في فهم عميق ٍ يفوق فهم الكثير من السياسيين المتشدقين الذين يملأون الدنيا ضجيجاً ، وناقشا قضايا جوهرية كالهوية ، الانفصال ، التنمية ، الخدمات ، الاقتصاد. كما شاهدنا كيف نال السودان استقلاله وخطا خطوات واعدة نحو التنمية وتوفير الخدمات المختلفة التي ما لبثت أن تراجعت سريعاً . في منتصف البرنامج تنبأ بنيامين أن الخدمات الصحية لا تتوفر إلا لمن يستطيع توفير ثمنها لا كما سابق الأيام بينما يكتوي الفقراء بنار الإهمال : لم يعلم أنه كان يستطلع غيب قدره حيث وافه الأجل المحتوم بعدها إثر حادث حركة أليم فتمّ نقله للمستشفى الحكومي ليواجه القدر الذي تنبأ به من قبل . الوقفة الثالثة : تفرّد وإنسانية السوداني ، رغم عوامل التعرية التى خطّت أثارها على جسد الوطن اليبوس ، يبقى العامل البشري السوداني أكبر ثروة في البلاد تجسدها بساطة وعبقرية بنيامين وعوض في نكران للذات وإيمانٍ بالمبادئ وتجردٍ من أجلِ الفكرة لا العائد وفهمٍ عميقٍ للحياة . رغم أن المتشائم قد يقول أنهما من الزمن القديم إلا أن المأمول أن تبقى جذوة الأمل حية في الأبناء والأجيال . لم يفرق البعد الإثني بين عوض وبنيامين فكانت بينهما زمالة و أخوة عمر و إيمان مطلق بالهدف المشترك وتاريخ يمثل السودان الحديث . تمثلت هذه الإنسانية في العبرات تخنق صوت عوض في رثاء رفيق دربه وعمره في لحظات رثائه . الغنى الإنساني أعظم وأكبر درجة لو يعلمون . رغم مرارة الأحداث نؤمن أنها لم تحدث سوى بسبب من لم يعرفوا قدر الرجال فأمثال بنيامين و عوض يجب الإحتفاء بهم وتكريمهم ، وتقديم كل أوجه المساعدة لهم ، فقد ضحوا دون مقابل ، و بذلوا من أجل المبدأ والفكرة : مثل الأشجار الباسقة تضرب جذورها في الأرض اليباب وترسل أوراقها بعيدا ً نحو السماء ليقتطف الثمر دون مقابل : في آخر السِّطرِ أم في بَدِئه تَقفُ في الحالتين وحيدٌ أيًّها الألف5 أرسلتَ جذركَ حيثُ الأرضَ معتمة ً وأمتدَ جِذْعُكَ حيث النجمُ يقتطفُ نأمل عندما تصفو الأيام وتغلبُ الفطرةُ السليمة ويعود رونق الأشياءِ كما الأشياء ، أن يتم الاحتفاء المناسب بذكرى بنيامين وعوض بتأسيس مركزٍ للارشيف السينمائي يحمل إسميهما ذكرىً ووفاءاً لأشجارٍ عاشت ثم ماتت واقفة 1- الأشجار تموت واقفة ، مسرحية رمزية ألفها الأديب الأسباني اليخاندرو كاسونا (1903-1965 م ) تعبر عن البشر الذين يدافعون عن المبادئ و يثبتون شامخين أمام عواصف الحياة حتى إن إنهزموا وماتوا . 2- الأبيات من قصيدة فتح عمورية لأبي تمام . التخرص : الكذب والافتراء ، التلفيق : الاختلاف ، النبع : الشجر الصلب ، الغَرَب : الشجر الليّن يعني أن أحاديثهم ليس لها أساس من القوة أو الضعف 3- الأبيات من لامية العربِ للشنفرى . ألف : أتعوّد ، حمى الربع : الحمى التي تعاود كل أربع أيام ، وردت : قدمت ، أصدرت : طردتها ، تُحيت وعُلِ : تحت وأعلى . 4- الأبيات بتصرف من قصيدة "واقف براك" للشاعر مدني النخلي . 5- من قصيدة في آخر السطر للشاعر أحمد بخيت عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.