كل من يتحدث عن السلام في السودان يدخل عبر مدخل (ثقافي / تاريخي) ويستبطن افتراضات مثل فكرة ان الشماليين هم من حكموا السودان او ان قبائل الشايقية والجعليين وغيرها همشت بقية قبائل السودان بالذات في الغرب وجبال النوبة. نجد اليوم شعورا لدى الكثيرين بأنهم امام فرصة تاريخية لعكس الدور وقلب الآية لصالح قبائل الهامش. هذا المدخل الثقافي يسيطر على الكثير من اونطجية الحرب في السودان و بعض مثقفيه العاقرين مثل محمد جلال هاشم الذي مايفتأ في مزايداته على الجميع بكونه مهمشا وان كان من صفوة أبناء الشمال فتجده يبحث عن لغة ضائعة وقديمة يستدعيها قسرا للصراع ولينصب نفسه ضحية تستحق أن تنال دورا عظيما في المرحلة الجديدة. نعم هناك مخلصون كثر وشهداء ومناضلون من أجل شعوب جبال النوبة والجنوب قديما والغرب والشرق ولكن محاكمة الفرضيات الأولى ضرورية لعملية سلام حقيقي. ان الثورة اذا ما كنت حقيقية ليست معنية بطبيعة مفاوضات جوبا بل معنية بفرض تفسير معين للصراع وبالتالي تجاوز تلك التفسيرات الآيدلوجية البالية المرتبطة طبيعة الدولة الاستعمارية والنظرة الإستشراقية لنا جميعا كشعب أسود إفريقي يعيش على هامش العالم. هذه النظرة هي الجوهر المحرك الخالق لتلك الفرضيات الثقافية المتوهمة التي تعيق عملية السلام. ان أزمتنا تبدأ مع الإستعمار وليس مع الثقافة الإسلامية العربية او مع الدين الإسلامي.انا استغرب جدا من مثقفي الحركات كيف لم ينظروا للاسلام كدين محلي في جميع تمظهراته الثقافية سواءا الشعبوية والصوفية او العالمة المتصلة بحواضر العرب في دمشق والقاهرة والمغرب والتي يمثلها الفقيه ورجل الدين . إن العرب وثقافتهم اتصلوا بأفريقيا منذ أمد بعيد قبل الإسلام وخبرتهم بشعوب افريقيا هي خبرة إنسانية عظيمة بها فصول كثيرة من التعايش والتجارة في الرقيق والبضائع. ولا تستغرب يا عزيزي فالرق تجارة معروفة معهودة وسط شعوب أفريقيا وشعوب الإنسان كله آنئذ. ولكنها أي علاقة العرب بأفريقيا هي علاقة الند للند وهذا ما مثلته حضارة زنجبار و ثقافة شعوب القرن الأفريقي كلها واليمن وشبه الجزيرة العربية . تلك فصول عظيمة منثورة في كتب التاريخ والثقافة التي لا يستطيع اونطجي كمحمد جلال هاشم او ابكر ادم ان يقرأها ليس بسبب الجهل بل بسبب شح النفس وقصر النظر والتأثر بالافتراضات الاستعمارية بخصوص الإسلام والعرب وتلك خيانة عظيمة للثقافة والتاريخ والانسان ، وهنا عزيزي القارئ يمكنني أن أحيلك لكاتب وأديب سوداني عظيم ، يبدو كالجبال امام اونطجية محمد جلال هاشم وأعني جمال محمد احمد الذي كتب عن وجدان أفريقيا المتصل بالإسلام والعرب وكتب مقدمة عظيمة عن العرب في شرق إفريقيا أشاد بها الأديب علي المك وعظم قدرها، وترجم كتابا لأوروبيا منصفا هو بازل ديفيدسون، ترجم له كتاب أفريقيا تحت أضواء جديدة هي أضواء العرب المسلمين. بتلك الرؤية كان بالإمكان خلق خطاب نضالي وتحرري يكشف أن العدو الحقيقي في السودان ليس هو الشمال بل هي تلك التركة الاستعمارية التي خدمت نخبة معينة وخلقت وحشا دولتيا عنيفا قهر الإنسان وخلقت ثنائية مانوية في الثقافة والتعليم والتربية. والضحية نحن جميعنا وليس احد ولكن هذه الضحية حين تفكر في اليقظة بالوعي الجديد من لدن فرانز فانون وادوارد سعيد وقبلهم جمال الدين الأفغاني ولاحقا نكروما ونيريري يأتي مثقفو الحركات المتوهمون والاونطجي محمد جلال ليسدوا الطريق أمام هذه اليقظة ويخلفون وراءهم تلاميذ كثر متأثرين بخطابهم العنصري المتوهم الخاضع لافتراضات المستعمر ونظرته الأستشراقية السطحية وقد عايشنا هذا الخطاب المريض في الجامعات السودانية من أمد طويل. كل تلك القصة هي الجزء الظاهر من الجبل لأن الجزء الأعظم يكمن فيما يسميه دوركايم التركيب الاجتماعي وهنا خليط من بنية المجتمع الاقتصادية ومن مؤسساته الاجتماعية وتركيبته المورفولوجية والمناخية والجغرافية. وهنا يكون تمثيل الصراعات الاجتماعية كصراعات بين قبائل و ثقافات هو أمر مضلل ومتهافت وغير موضوعي. هذه رسالة لرفقاء الطريق من الشبيبة الجدد الذين يحتفون بثقافتهم بشكل فلكلوري تنميطي ويظنون ان هذه هي الاصالة والإخلاص للاهل والعشيرة ، لا ، بل ذلك هو الجمود والإنحطاط وخيانة الاهل والعشيرة بتنميطها في ثقافة فلكلورية تبدلت الأحوال والظروف من حولها ، فتجد (نصف مثقف) من أبناء البقارة يعيش في فرنسا يحتفي بالمراحيل ويحتفي بصعود سياسي لأبناء العمومة ولايدري بأن ذلك هو الوهم عينه. لأن التركيب الاجتماعي امر ابعد من التقسيمات الثقافية السطحية التي تنظر بها الامور وبالتالي فأنت لاتحقق النصر والسلام لأهلك البقارة مالم تكن على كامل الدراية بالتمثيل الخاطئ للمشكلة. ان فصولا جديدة للحرب والعنف تكتب اليوم في مفاوضات جوبا وفي بوستات صبية من الناشطين وفي تفسيرات عنصرية إستعمارية تنطق بها ألسن سودانية لنخب اونطجية تعمل مع منظمات غربية تقوم على إرث ثلاث قرون من الإستشراق والاستعمار والتمثيل الاستعماري . هذه الفصول الجديدة للحرب سنحاربها من أجل السلام والعدالة وأول جنود هذه المعركة هم المثقف والناشط السياسي والقائد وأبناء شعب السودان جميعهم حين يفهمون طبيعة المعركة الحقيقية ويفرضون بالقوة السياسية تفسيرا صحيحا يعبر عن الحقيقة.