حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة في مشروع أركون
نشر في حريات يوم 18 - 01 - 2015


(حريات)
الاستشراق واستقلال السؤال الفلسفي
دراسة في مشروع أركون
الشريف زروخي
تمهيد
اشتغلت المشاريع النهضوية الفكرية على الكثير من المفاهيم والمقولات كالإصلاح، والنهضة، والتجديد، والتغيير، والتحديث، والهوية، والاستشراق…الخ . فاتحدت على مستوى الغايات والأهداف واختلفت على مستوى المرجعيات الفكرية، مما أدى إلى اختلاف المقاربات والتأويلات في التعامل مع مشكلات العالم العربي، لأن كل تيار سيوظف أدوات ومناهج المذهب الذي تأثر به.
وإذا كان القرن التاسع عشر قرن اللحظة التاريخية لانبثاق هذه المشاريع الفكرية، عل أيدي "محمد عبده"(1849-1905) و"الأفغاني"(1838-1897) و"الطهطاوي"(1801-1873) و"الكواكبي"(1852-1902) و"شبلي شميل"(1850-1917) و"طه حسين"(1889-1973)، فان القرن الواحد والعشرين يطلق عليه عصر ما بعد النهضة الأولى، إنها لحظة ضرورية لمراجعة المرجعيات الفكرية التي استندت عليها النهضة الأولى مراجعة نقدية بهدف التأسيس لسوسيولوجيا الإخفاق ثم التأسيس لسوسيولوجيا الانبثاق واستئناف القول الفلسفي وتعميق السؤال في عالمنا العربي.
تلك هي المهمة التي حاول ويحاول بعض المفكرين العرب المعاصرين انجازها أمثال زكي نجيب محمود(1905-1994) من خلال مشروعه الوضعي أو العلمي، و"ناصيف نصار"(ولد 1940) صاحب مشروع "النهضة العربية الثانية"، و"حسن حنفي" في "نقد الاستشراق" و"محمد عابد الجابري"(1936-2010) في "نقد العقل العربي" ، و"نصر حامد أبو زيد"(1943-2010) في "الهيرمينوطيقا"herméneutiqueوصولا إلى "محمد أركون"(1928-2010) في "نقد العقل الإسلامي"critique de laraison islamique".
وإذا كان النقد الفلسفي السبيل فهذا يعني ضرورة نقد المفاهيم والتصورات لزحزحة المقولات والمسلمات التي انبنت عليها المشاريع النهضوية في صورتها الأولى والاستعاضة عنها بمفاهيم ومقولات جديدة، في إطار أن الحقيقة كائن تاريخي وطبيعة نسبية هذا من جهة، وعدم مصادرة المشكلات الحقيقة بالهروب إلى الأمام أو الرجوع إلى الماضي من جهة ثانية.
إن ممارسة النقد على المرجعيات الفكرية في نظر أركون" ضرورة تفرض نفسها على أي مفكر إسلامي يعتبر نفسه مسؤولا من الناحية الفكرية والابستيمولوجية"1وهذا بهدف تفكيك أنماط التفكير والكشف عن بنيتها الفاعلة لإنتاج المعرفة، لأن تفكيك الأسس أهم عمل تقوم به الفلسفة لاكتشاف مدى انسجام فكر ما مع موضوعاته، وكشف أسباب العجز فيه وعدم قدرته على الإبداع.
فإذا كان العقل العربي يعيش أزمة الأسس والمرجعيات وغياب السؤال الفلسفي، نتيجة اعتماده المرجعيات الغربية في التعامل مع مكوناته الحضارية -نقصد خاصة دور الاستشراق "l'orientalisme" السلبي في تعامله مع تراثنا- فإننا في أمس الحاجة اليوم إلى إعادة بعث التفكير الفلسفي من أجل استقلال السؤال الفلسفي من المرجعيات الغربية. وهو ما سنعمل على توضيحه من خلال مشروع محمد أركون الذي يقول في موضع "إن الحاجة ملحة اليوم لضرورة إعادة التفكير جذريا في طرح المشاكل بشكل مختلف كليا بعد كل ما حصل من التحولات المؤلمة في العالم العربي والإسلامي.2
هذا ما يدفعنا إلى التساؤلات التالية: كيف تعامل أركون مع الاستشراق والمستشرقين؟ هل بمنطق القطيعة والنقد والتجاوز؟ أم بمنطق التوظيف والتواصل؟ وهل كان للاستشراق دور إيجابي أم سلبي في التعامل مع تراثنا؟ وهل استقلال السؤال الفلسفي يقتضي قطع الصلة مع الآخر في صورته الاستشراقية؟ أم أن الاستقلال يقتضي التواصل مع الاستشراق تواصلا نقديا؟
وفي ظل مقولة حوار الحضارات، ومنطق تبادل المنفعة والخبرات المعرفية، هل العقل العربي اليوم قادر على التأسيس للقول الفلسفي؟ هل نحن بحاجة لثورة معرفية على الدراسات الاستشراقية نعيد فيها تصحيح المفاهيم في أذهاننا وأذهان الآخرين؟
في بنية الاستشراق
إن الاستشراق ليس على درجة من التجانس تسمح لنا بإطلاق أحكام قيمية كلية معه أو ضده، لأن التراث الاستشراقي تراث ضخم يقتضي تظافر الجهود وتوظيف الأدوات المعرفية الكافية لمعرفة هل كان الاستشراق أداة استيلاب لنا؟ أم أداة معرفة ذواتنا؟
لهذا سعى أركون إلى محاولة استيعاب المناهج المعاصرة من جهة وتاريخ الفكر الإسلامي وبنيته المعقدة من جهة ثانية، تجنبا لإصدار أحكام غير علمية أو غير مؤسسة معرفيا، فحاول إحداث حركة نقدية في تاريخ الفكر الإسلامي ليكون حلقة وصل بين التراثيين الإسلامي والغربي، لاعتقاده بأن إصلاح ثقافة ما لا بد أن يبدأ من نقد العقل الذي أنتجها، ولنقد العقل الإسلامي لا بد من نقد مرجعياته ليصبح قادرا على إنتاج مفاهيم جديدة للوجود والحياة.
ومن أهم المرجعيات التي تحدث عنها أركون ؛ الاستشراق الحاضر بقوة مفكريه ونصوصه في أعماله مما صعب المهمة أمام الكثير من الدارسين لمشروع أركون. ونلمس ذلك في المواقف المتباينة من علاقة أركون بالاستشراق، فقد اعتبره الكثير من الدارسين مستشرقا في ثوب جديد لأنه امتاز بإمكانية تمثل الخطاب الإسلامي من الداخل بذهنية غربية رغم الاختلافات، إلا أنه يبقى في جغرافيتها يطورها من الداخل بحقل مفاهيمي جديد، إذ أنه تعامل مع التراث بذهنية استشراقية موظفا أدواته. يقول عنه التونسي محمد المزوغي"إن أركون مؤمن ومستشرق ولا هو هذا ولا هو ذاك3. لكن أركون يصف مثل هذه المواقف بالسطحية غير النابعة من الدراسة المعمقة، لذلك نجده يدعو إلى التأني في إصدار الأحكام بهدف الوقوف على الحقيقة يقول: "ربما ظن بعضهم أني تبنيت هذا الموقف المعرفي والمناهج التابعة له، تأثرا بالتيارات العلمية المتتابعة السائدة في الجامعات الغربية وبخاصة بباريس، وربما استنتجوا أني أفرض على الإسلام والفكر الإسلامي إشكاليات، ومنهجيات، ومصطلحات، وتأويلات خاصة بالفكر الغربي أو الأوروبي…4.يتبين من قوله هذا أنه ينكر تمام النكران أن يكون منتميا للثقافة الغربية لإيمانه بانتمائه لأمته وللإنسانية وحاجته إليه. يقول:"أنا أقوم بهذا العمل أو تلك المهمة بصفتي عضوا من أعضاء الإسلام ومساهما في التجربة الإنسانية للوجود".
فنجده يحاول تصحيح التصورات وكشف ما فيها من مغالطات في ظل منطق حوار الحضارات وتبادل التجارب ،ومن ثم يصبح رفض الاستشراق باعتباره دخيلا على تراثنا رفضا للآخر، وحكما على الذات بالانتحار يقول أركون: " كم من مرة قصدت خيرا ونويت تحرير العقل العربي من التصورات الخاطئة والتقليد المدرسي والشعارات الباطلة. فلاقيت الرفض والهجوم العنيف ضد العلوم الدخيلة والمناهج الغربية البعيدة عن روح العلم الإسلامي"5.
إن في النص تعبير عن قلق معرفي، وهمً حضاري ناتج عن سوء فهم وقراءة إيديولوجية"idéologie"، لأن أعمال أركون تختلف عن المستشرقين؛ فهو ينظر للتراث من الداخل، أما المستشرق فينظر من الخارج يقول في ذلك" أنا لا أتحدث عن الفكر العربي الإسلامي من الخارج بل أدرسه من الداخل وبمصطلحاته نفسها، ولذلك ليس لأحد أن يقول بأني أخلع عليه صفات من الخارج من الغرب، وأني أتعامل معه بغير أدواته ومفهوما ته"6.
إن الدراسة الأركونية دراسة ابستيميةépistémèتأخذ بعين الاعتبار البعد الزماني الذي تشكلت فيه الأنظمة المعرفية وعلاقتها بكل العلوم التي تتعايش في زمن معرفي واحد لتشكيل بنية عقلية واحدة، وهذا غائب في الدراسات الاستشراقية التي تعتمد التاريخ الخطي للأفكار، يقول: "إن هذا البرنامج الضخم من التفحص والبحث والمتمثل في فهم كل المنتجات الثقافية العربية، ووضعها في إطار رؤية اجتماعية وانثروبولوجية وفلسفية، هو ما أحاول القيام به، إن هذا البرنامج يختلف عن برنامجي بروكلمان g.Prockelmanوفؤاد سيزكينf.sezginالمتمثلين في جرد المؤلفات وإحصائها، إنه برنامج نقدي بمعنى دراسة شروط صلاحية كل المعارف التي أنتجها العقل ضمن الإطار الميتافيزيقي والمؤسساتي والسياسي الذي فرض عن طريق ما كنت قد دعوته بالظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية"7.
بهذا يكون أركون قد تجاوز المنهج الاستشراقي وأخطاءه وأحكامه المتعسفة، لأنها خضعت للمركزية الأوروبية والعقلانية الديكارتية، ومن ثم يكون قد وضع العقل الإسلامي خارج الممارسة الاستشراقية، التي تعود إلى مجال معرفي كلاسيكي.
إن نقد أركون لا يلغي المخيال باسم العقلانية، ولا الشفوي باسم المكتوب، ولا الديني باسم الوضعية العلمية، انه ممارسة إناسية تشمل جميع أبعاد الإنسان، ممارسة منفتحة على كل حقول المعرفة والمناهج العلمية، بعيدا عن التوظيفات الأيديولوجية، باعتماده الدراسة الابستيمية لكل ما أنتجه العقل الاستشراقي والإسلامي على حد سواء.
وقد اعترف حسن حنفي بجهد أركون قائلا"ينتظر منه الغرب مفكرا غربيا إنسلخ من تراثه ولكنه يكتشف فيه محاورا نديا له، ينقد الذات كما ينقد الغير فريدا في بحثه أصيلا في منهجه أصيلا في مذهبه قاسيا في نتائجه، بين بحثه والبحوث الأخرى فرق نوعي يتكلم كأنه يخاطب المستمعين كما يفعل كبار الدعاة بل والأنبياء، يريد إبلاغ رسالته، يؤثر في الكل بل ويقنع الكل بقوة حججه ووضوحها يتكلم ببطء حتى يطلب المستمعون المزيد(…) هو نموذج لمفكر عربي حمل همه في عقله واجتهد حتى ولو أغضب دعاة الاجتهاد .إن موقف حسن حنفي تعبير عن نظرة فاحصة ومدققة لأعمال أركون وللحظة التاريخية الحرجة التي أنجزت فيها، لأن هذا النص يحيلنا إلى إشكال هام ومحوري لتعلقه بالتراث والآخر.
فإذا وجدنا دعوة للقطيعة مع التراث فهذا يعني ضرورة التواصل مع الآخر، أما إذا تحدثنا عن التواصل مع التراث فيعني التصادم مع الآخر وثقافته، لكن أركون له تصور مختلف فهو يدعو إلى الاستفادة من الآخر وما ينتجه من مناهج وأدوات معرفية تمكننا من إعادة النظر في تراثنا، وإعادة تأهيله من جديد بالنقد ليصبح راهنيا، ومن ثم يصبح استقلال السؤال الفلسفي لا يعني الانغلاق على الذات والتصادم مع الآخر. وهنا يلتقي أركون مع "ناصيف نصار" في تصوره للاستقلال الفلسفي يقول:"الاستقلال الذي نقصده ليس بالطبع انطواء على الذات وانقطاعا عن الغير واكتفاء بالنفس، استقلال من هذا النوع في هذا العصر يعني الانتحار، وإنما المقصود هو الاستقلال السليم الذي يقوم على الانفتاح والتفاعل الدائم والمشاركة الايجابية، لكن انطلاقا من الذات"9 والمطلوب من الفكر العربي استيعاب مشكلات المجتمع التاريخية التي تعيشها الشعوب العربية في وضعيتها الحضارية المتميزة، انطلاقا من الذات وهذا لا يعني قطع الصلة نهائيا مع تاريخ الفلسفة.
هذا ما حاول أركون إنجازه ،لأن جوهر مشروعه يتأسس على إعادة بناء التراث الإسلامي بإعادة قراءته قراءة علمية، وتحريره من التصورات الايدولوجية، فقد عبر نصر حامد أبو زيد عن مشروع أركون قائلا"إن المشروع الفكري الأركوني ينبني داخل منظومة الفكر الديني بصفة عامة والفكر الإسلامي بصفة خاصة، وهذا ما يحدد نقط الاختلاف بين منهجه وبين المنهجية الوصفية الاستشراقية"10 والاختلاف لا يعني عدم توظيف أركون لمناهج الاستشراق وأدواته لإنجاز قراءته، بل يجب أن يصاحب التوظيف الوعي النقدي كشكل من أشكال التواصل، والانفتاح الحضاري بين العقل العربي والعقل الغربي تاريخيا. لكن الانفتاح على الآخر لا يعني الاستغراق فيه، لأن الإبداع الفلسفي يعني الاستقلال من التبعية. يقول أبو يعرب المرزوقي: " لا يمكن لأمة أن تصبح عظمى إذا ظلت تفاخر بعمل لم يتجاوز فيه التلميذ الأستاذ في فعله وإن فاقه أحيانا في المضمون، فمحاكاة الشكل غير محاكاة المضمون(…) أحاكي الإبداعات لأتعلم الإبداع، وأصعب أنواع الإبداع إبداع النظريات، فهو جوهر العقل، ومن دونه يصبح الفكر مجرد طحن للكلام الخالي من المعنى، كما هو الشأن فيما يسمى فكرا عندنا".11 يدعو المرزوقي في هذا القول إلى الاستناد على مقومات الذات وإمكاناتها لإبداع فكر ينسجم مع مشكلاتها الواقعية الراهنة ، وعدم الاكتفاء بنقل منتجات العقل الغربي والعمل على أقلمتها لأن من شأن ذلك أن يِدي إلى اغتراب الفكر عن واقعه ويزداد تأزما.
ومن زاوية أخرى فإن منطق المنفعة يقتضي منا التواصل مع الآخر تواصلا نقديا، ثم العودة إلى مشكلات واقعنا الراهنة وهو ما دعا إليه الجابري في قوله بضرورة :"الدخول مع ثقافته(الغرب)، التي تزداد عالمية، في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقوماتها في نسبيتها، وأيضا التعرف على أسس تقدمه والعمل على غرسها أو ما يماثلها داخل ثقافتنا وفكرنا"12،تأتي هذه الدعوة بعد قراءة في الفكر العربي وكيفية تعامله مع الآخر في صورته الاستشراقية، قراءة كشفت لنا أن التعامل مع الفكر الاستشراقي لم يكن دائما تعاملا علميا صارما موضوعيا، بل كان في الكثير من الأحيان ايدولوجيا انفعاليا. مما خلق التصادم بين الثقافات والأطروحات، فنجد من ينظر للاستشراق وأطروحاته على أنها استعمار ثقافي وتغريب للذات وتشويه للحقيقة، فقد جعل مثلا"ادوارد سعيد"(1935-2003) الاستشراق مظهرا من مظاهر الاستعمار الثقافي والمعرفي يقول في ذلك "ينتابني شك في أن انجلترا كانت ستحتل مصر تلك الفترة الطويلة من الزمن وبذلك الأسلوب شديد التنظيم، لو لم تكن مدفوعة بالاستثمار القوي في المعرفة المشرقية"13. كما لا ينكر أركون البعد الإيديولوجي في الدراسات الاستشراقية لخدمة النزعات الاستعمارية، وبخاصة في القرن التاسع عشر يقول: "إذ نجد أن القائمين على نشر الاستعمار في البلدان الإسلامية، يتوجهون للمختصين في الدراسات الاستشراقيةليستمدوا من كتبهم ما لا بد منه لتسيير شؤون الأهالي"14.
واللغة نفسها يعتمدها بعض المستشرقين في تعاملهم مع النتاج الإسلامي فقد خضع مثلا كتاب "ادوارد سعيد" "الاستشراق" لمراجعات من قبل العديد من المستشرقين أمثال "بيرنارد لويس"، و"كلود كاهين"، و"ماكسيم رودنسون"، لكنها في الغالب محاكمات إيديولوجية. كما تناول مفكرو الأمة العربية أعمال المستشرقين كلا من زاويته الإيديولوجية، مما دفع "بحسن حنفي" أن يدعو إلى البديل المعرفي في كتابه " علم الاستغراب" في مقابل الاستشراق. والحال نفسه مع "عبد الله العروي" الذي تعامل مع الاستشراق تعاملا نقديا، لأن الحضارة الغربية تأسست على مقولة النقد. وهو ما تناوله "هيدجر"M. Heidegger(1889-1976) في أعماله لتفكيك العقل الحداثي يقول"يمكن أن نعتبر أن النقد هو العلامة الفارقة للوعي الحداثي، ومبدأ كل المبادئ الحداثية كالتقدم والعقلانية والتقنية والعلم وغيرها"15.
لقد التزم أركون ممارسة النقد الموضوعي على مناهج المستشرقين بهدف تجاوز آلياتهم ومناهجهم، لكن حضور الاستشراق بمقولاته ومفكريه ومناهجه بقوة في أعماله ، جعل البعض يصر على أن أعمال أركون متشبعة بأيدولوجية الاستشراق، وهو ما عبر عنه "خالد كبير علال" قائلا"لا يحتاج الباحث إلى عناء كبير ليدرك أن أركون متأثر بالمستشرقين تأثرا كبيرا، لأن كتبه مليئة بذلك"16. ويقول في موضع آخر مؤكدا انتماء أركون إلى الدراسات الاستشراقية:" أركون كثير المدح للمستشرقين والالتزام بمنهجهم والاعتماد على تراثهم، أما انتقاداته، فبعضها انتقادات شكلية سطحية وبعضها الآخر انتقادات مشبوهة ماكرة، تتعلق بحثًهم أكثر على التركيز على طرق هدم الإسلام وإثارة الشبهات حوله"17 هذا عن بعض المواقف العربية اتجاه مشروع أركون.كما لم يسلم من نقد بعض المستشرقين وعدم الاعتراف بمشروعه .إذ نجد "رون هاليبر" يقول عنه "إن مشروع أركون النقدي دعوة إلى الاجتهاد والتجديد، ولكن ليس في الفكر الإسلامي كما يدعي، بل في الفكر الاستشراقي، فهو يقوم بدور الاستشراق من الداخل لإثبات ما أثبته المستشرقون من الخارج"18.مثل هذه المواقف ساهمت في تشويه حقيقة المشروع الآركوني مما دفعه إلى الرد على كل المشككين سواء أكانوا من المسلمين أم من المستشرقين يقول"أما انأ فأرى الإسلام مفتوحا، اعتبر نفسي مسلما و انسانويا في آن، لقد اكتشفت ذلك مع مسكويه"19.
إن اهتمام أركون بالاستشراق كان مبكرا ، باعتباره إحدى المرجعيات المهمة في المشاريع النهضوية. يقول عن الاستشراق "شهد تنوعا اختلافيا وتعميقا لخطه الذي انتهجه، وقد اعتبر في البداية كعلم واحد متكامل، لكن سرعان ما انقسم إلى فروع وتخصصات مستقلة بعضها عن بعض، ومتعلقة بمختلف الحضارات الخاصة بالشرق الإفريقي – الأسيوي، وهكذا شهدنا ظهور الاستشراق الصيني والهندي والدراسات الإيرانية والتركية والعالم السامي والإسلاميات والدراسات المصرية القديمة دراسة إفريقيا (…) كل هذه التخصصات راحت تحتل محل التسمية العامة والمشتركة للاستشراق"20. فالدراسات الاستشراقية تتطور بتطور الحضارة الغربية وما تبدعه من مناهج علمية، وأدوات معرفية، ففي لحظة تاريخية ما كان الاستشراق يعبر عن مظهر من مظاهر الاستعمار، وسلب الآخر حق قراءة تراثه، بفرض تصورات ومفاهيم وقراءات إيديولوجية على تراث المجتمعات المستعمرة. أما اليوم فلم يعد هناك مبرر لمثل هذه الدراسات، إذ لابد من تغيير طبيعة أهدافها ومناهجها وأدواتها تماشيا مع مفاهيم البشرية الراهنة كالحوار والتواصل والإنسانية، وقد شعر المستشرق "كلود كاهين" Cl.Cahen (1909-1991) بضرورة التغيير لتفادي الإحراج الثقافي يقول:" في الحالة التي وصلنا إليها ينبغي علينا أن نحذف كلمة" استشراق" من قاموسنا، فليس هناك نوعان من البشر الأول شرقي والثاني غربي، وإنما البشرية هي واحدة في جوهرها العلم واحد للشرقي والغربي"21.
كما دعا "ماكسيم رودنسون"M.Rodenson(1915-2004) إلى تغيير هذا المصطلح "فنحن لم نعد نستطيع أن نستخدم مصطلحي "استشراق" و" مستشرقين" بشكل طبيعي بعد أن أصبحا أسطوريين، ولذلك فسوف ندعوهما بالدراسات العالمة أو العلمية حول تاريخ الشعوب المتموضعة شرقي أوروبا، وهذا تحديد جغرافي حيادي خال من أي حكم مسبق"22. وقد لقيت هذه الدعوات صدى في باريس سنة (1973) أين تم التخلي عن مصطلح الاستشراق بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين، وتم استبدال تسمية المؤتمر ب: "المؤتمر الدولي للعلوم الإنسانية في آسيا وإفريقيا الشمالية"23.
وتغيير التسمية صاحبه تغيير في المواقف والأطروحات، لكن على مستوى الشكل دون المضمون فظلت الدراسات تحتكم لتصورات إيديولوجية حول الشرق، كما لم يساهم في تغيير مواقف المفكرين العرب من نظرتهم السلبية للدراسات الاستشراقية، واعتقد أن الصدام قد زاد واشتد نتيجة الممارسات اللاموضوعية من قبل وسائل الإعلام الغربية وتشويهها للإسلام والمسلمين. وهو ما دفع "بأركون" إلى محاولة إنجاز مقاربة علمية حول الاستشراق ترتكز على النقد من الداخل بدل الخارج، لأنه مستوعب لأدواتهم ومناهجهم. وهذا ما نجده في دراسته لأعمال "كلود كاهين"، و"وغوستاف فون غرونباوم"G.E.VonGrunebaum(1909-1972)، و" ويلفريدكانتويل سميث"w.cSmith(1916-2000).
لقد حاول أركون التموضع داخل منظومة الاستشراق ليبين ايجابياتها وسلبياتها، ويرى أنه لا يمكن أن نحكم على التراث الاستشراقي بالسلب، لأن في ذلك جحودا لما قدمه للحضارة الإسلامية، على اعتبار أن الاهتمام بالثقافة العربية ومنجزاتها كان قبل الحركة الاستعمارية بكثير، كما أن أغلب المستشرقين كانوا من ألمانيا ولا علاقة لهم بالاستعمار، وهو ما أكده برنارد لويسB.Lewis(1916-)"إنها لحقيقة واقعة أن بعض المستشرقين قد خدموا الهيمنة الامبريالية أو استفادوا منها بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن هذا التفسير للمشروع الاستشراقي في مجمله يبدو ناقصا إلى درجة العبثية"24.
إذا أردنا الاستفادة من الدراسات الاستشراقية فلابد من التخلي عن الأحكام العامة، ويجب التعامل معها بعلمية وبالروح النقدية، ومن ثم تبادل المنفعة وهذا ما حاول أركون القيام به. وهو خلق حوار بين العالمين عن طريق التواصل النقدي، وفق مبدأ الاحترام المتبادل بدل الإقصاء والتهميش. يقول:"لا يحق للعرب ولا للمسلمين أن يهاجموا المستشرقين، إلا إذا قدموا عن تراثهم دراسات علمية بالمستوى نفسه الذي يقدمه كبار المستشرقين، فالمسالة ليست مسالة عواطف وانفعالات ذاتية وشعارات إيديولوجية أو تبجيلية، إنما هي مسالة بحث علمي أو ارتفاع إلى مستوى البحث العلمي"25.
ويعود الفضل الكبير للمستشرقين في إعادة بعث التراث الإسلامي كما حدث مع أعمال ابن رشد "فصل المقال" الذي حققه " المستشرق م، ج مولير(M.j.Moller)الذي نشره لأول مرة عام 1859معتمدا على مخطوط واحد، ثم أعاد تحقيقه الأستاذ حوراني بعد قرن من الطبعة الأولى أي سنة 1959″26
وقد أشار الباحث نديم نجدي إلى التناقض في مواقف المسلمين يقول:"المفارقة الأكثر غرابة : هو أننا مازلنا نتعلم تراثنا العربي الإسلامي إلى الآن من مصادر غربية، أي كما حققه المستشرقون المتهمون بالانحياز ضد امتنا، من غير أن نوفر جهدا يذكر لتحقيق أصول معارفنا المتروكة في عهدة باحثي الغرب، فبدلا من أن يسعى الباحثون العرب المسلمون لإعادة تحقيق ما حققه العلماء الغربيون عن تراثهم، تكرس جل اهتماماتهم للرد على الاستشراق والمستشرقين بطريقة اتهامية رائجة في أوساط المثقفين العرب المحدثين، الذين لو بذلوا الجهد ذاته للتدقيق والبحث عن معارفهم التراثية لكان حال مجتمعهم أفضل بكثير"27.
أي أننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالعودة إلى ذواتنا، والانطلاق منها في عملية النهضة، والكف عن اتهام الآخرين وتحميلهم مسؤولية فشلنا الحضاري، تحت مسميات عديدة لا تخرج عن إطار التبرير بدل الاستقلال، وهذا ما نادى به "محمد عابد الجابري" الذي يؤكدعلى ضرورة موضعة الذات عن طريق السؤال حول الماهية لتجاوز الوضعية الراهنة إلى وضعية أفضل يقول بضرورة "التفكيك الواعي الهادف للوضعية القائمة المأزومة في عملية بناء جديدة، بمنطلقات وإستشرافات جديدة"28
وقد رد المستشرق "كلود كاهين" على المشككين في الدراسات الاستشراقية قائلا" ينبغي أن يعترفوا(المسلمون) أيضا أن الاستشراق الأوروبي هو الذي أخذ المبادرة في العصور الحديثة لدراسة تاريخهم الخاص، وأنه لولاه لكانوا عاجزين عن أن يقولوا عن ماضيهم نصف ما يستطيعون قوله اليوم بطريقتهم الخاصة"29.فما هي الآليات التي يقدمها أركون للتحرر من الاستشراق وتحقيق الاستقلال الفلسفي؟.
نقد أركون للمناهج الاستشراقية والتأسيس لاستقلال السؤال الفلسفي
تناول أركون الأعمال الاستشراقية بالنقد على مستوى المفاهيم والمناهج، إذ يصف مناهجها بالتخلف مقارنة بمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، لأن الاستشراق لا يزال يعتمد مناهج القرن التاسع عشر كالمنهج الفللوجيla Philologieوالتاريخ التقليدي السردي. يقول عن دارسيهم" لا ينخرطون في المراجعات والتجديدات المنهجية والابستيمولوجية، التي أصبحت ضرورية بسبب ازدهار علوم الإنسان والمجتمع ونجاحاتها".30
إن عدم انفتاح الدراسات الاستشراقية على الثورات العلمية، التي أبدعتها العلوم الإنسانية جعلها في نظر أركون عاجزة وبعيدة عن تقديم تصور عقلاني وموضوعي وعلمي للتراث الإسلامي، فلا تزال الدراسات الاستشراقية مرتبطة بالماضي دون الانخراط في مشكلات الحاضر، لذلك يدعو أركون المستشرقين إلى تجاوز المرحلة الكلاسيكية ابستيمولوجيا، والتأسيس لمرحلة ما بعد الاستشراق التقليدي، وتقديم حلول عملية وعلمية لمشكلات المسلمين الحاضرة، على غرار ما قدمته الحداثة الغربية من حلول لمشكلات الإنسان الأوروبي.
لكن البعض اعتقد أن مهمة الاستشراق تنصب على الماضي لا الحاضر وهو ما نلمسه في قول كلود كاهين" نحن لا ندعو إلى إهمال دراسة التاريخ المعاصر للشعوب الشرقية، ولكن هل ينبغي أن يتم على يد الأشخاص أنفسهم ؟. إني أشك في ذلك وبالتالي فان مفهوم الاستشراق لا يزال يحتفظ بمبرره التاريخي أو التسلسلي الزمني (أي إعطاء الأولوية لدراسة الماضي) "31.
يلقي كلود كاهين-في هذا النص- مسؤولية النهضة على الفكر العربي لأنه عجز عن تقديم خطاب عقلاني حول مشكلات الواقع، وهو ما أكده محمد عابد الجابري في قوله"الثغرة الخطيرة التي تعاني منها النخبة العصرية في كثير من البلدان العربية، إن لم نقل كلها، هي غياب العلاقة العضوية بينها وبين جماهير الشعب"32. ورغم المبررات التي يقدمها بعض المستشرقين فإن هذا لم يمنع أركون من مواصلة ذكر أخطائهم ؛ ومنها الدراسة الانتقائية للتراث الإسلامي، بالتركيز على فترة دون أخرى، وعلى مفكرين دون الكل، فقد اهتموا بعصر الازدهار (ق7ه) وأهملوا عصر الانحطاط، كما أهملوا إسلام السلطة والهيمنة، وإسلام الشيعة والجانب العملي والثقافة الشفهية للإسلام، ومن ثم إهمال كل ما هو غير مكتوب، كما أهملوا الأنظمة السيميائية غير اللغوية المرتبطة بالدين كالميثولوجيا والموسيقى والعادات، واقتصرت على الفلسفة والشريعة.
يدعو أركون من هذا المنطلق إلى إعادة دراسة التراث الإسلامي دون اعتماد التجزئة، كما يجب أن تعتمد الدراسة مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، وتوظف أدواتها المعرفية مثل "الأنتروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وتاريخ الأفكار، واللسانيات"، بهدف استنطاق التراث من الداخل لا من الخارج. وقد لقيت هذه الدعوة اهتمام المستشرق "ماكسيم رودنسون" فنجده يقول"كل هذه المسارات والمنهجيات الجديدة الصاعدة حاليا تثير الحماسة، وليس لنا أي اعتراض عليها سوى أنها تنطوي على نوع من التشبث بالرأي والديكتاتورية، فكل واحدة منها تزعم أنها قادرة غلى تفسير كلية الظواهر، وهذا الزعم لا يقل خداعا من مزاعم المنهجيات القديمة"33.
إن هذا الموقف تعبير عن مدى إدراك ووعي المفكر بضرورة الانفتاح على المناهج المعاصرة مع الحذر المعرفي، لأنها لم تنضج بعد مما يعني ضرورة التعامل معها بذهنية نقدية ، والموقف نفسه يذهب إليه المستشرق "برنار لويس" يقول:" حصل تحسن في هذا المجال مؤخرا، فقد أخذ بعض المستشرقين يعترفون بضرورة الاهتمام بالمناهج الدراسية والمقاربات الجديدة"34.
لكن "أركون" يتخذ موقفا سلبيا حينما نجده يقول بأن" الاستشراق قد فشل في مهمته، فهو شبه غائب عن الساحة وحضوره ضعيف جدا أو منقطع لا يشفي الغليل، وإذا ما تدخل لتصحيح النظرة عن المجتمعات العربية الإسلامية، فإن تدخلاته تظل سطحية أو موجهة (…) وظل إنتاجه محصورا بفئة ضيقة من الاختصاصيين، وبالتالي فلم يؤثر في نظرة الجمهور الأوروبي (أو الغربي) إلى الإسلام أو العرب، وهي نظرة سلبية جدا بشكل عام "35
إن تصور أركون للمقاربات الاستشراقية أنها لم تتمكن من تغيير التصورات المغلوطة عن المسلمين لدى الجمهور الغربي، حتى أصبح لدى متخيل الغرب أن الإسلام جزء من مشكلاتهم الأمنية المعاصرة، وهذا اعتقاد لا تاريخي للإسلام، ومن بين المقولات التي تم الترويج لها هو أن المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تتحول إلى مجتمعات علمانية، بدعوى أن الإسلام لا يميز بين الدين والدولة. كما ترسخت هذه المقولة لدى عامة المسلمين أنفسهم، وهذا فيه تجاهل لحركية المجتمعات الإسلامية والعربية، واختزال التجارب والنماذج الحضارية، فلدينا- يقول أركون- تجربة تركيا –مثلا- التي استطاعت أن تعلمن المجتمع بمعناه العلمي لا الديني.
لقد تميز "أركون" بجرأة فكرية في نقده للمستشرقين عبر تفكيك مسلماتهم ومنطلقاتهم، لكن هذا النقد لا يعني إنكار الدور الذي أدوه، بل- أكثر من ذلك- تأسف أركون على تراجع دور المستشرقين اليوم، ليترك المجال لوسائل الإعلام والصحافيين يؤدون دور الباحثين والعلماء متشبعين بإيديولوجيات عدائية، تسهم في تأزيم الواقع وخلق التوتر والصراع بين الثقافات، نتيجة الدراسات السطحية يقول: "إن الكتب التي تملأ السوق الأوروبية اليوم عن "الإسلام الراديكالي" و"التطرف الإسلامي" و"الأصولية" و" السلفية…الخ تبدو لي قصيرة النظر (وهي عموما من إنتاج باحثين في العلوم السياسية)، فهي لا تعود إلى الوراء كثيرا لفهم الظاهرة الأصولية، وإنما تتوقف في تحقيقها الزمني عند الخمسينات أو الستينات"36.
من الواضح أن الاستشراق اليوم يعيد إنتاج الصور والمفاهيم القديمة عن الإسلام، موظفا في ذلك وسائل الإعلام، ومن ثم فهو يقدم نفسه على أنه المتفوق الحداثوي، ويقدم الإسلام على أنه الضعيف الماقبلحداثوي. فنجده يقلل من شأن الدين الإسلامي في دراساته مقارنة بدراسة الديانات الأخرى التي حظيت بدراسة علمية موضوعية نقدية، في حين أن الدين الإسلامي لا يخرج عن إطار الوصف بتوظيف مقولات التضاد (إسلامي- علماني، ديني دنيوي). إن الاستشراق في نظر أركون ما يزال متأثرا بالتصورات الاثنوغرافية. هذه النظرة التي ما هي إلا تعبير عن النزعة المركزية الأوروبية في نظرتها للشعوب غير الأوروبية.
ورغم أن الفكر الغربي قد أنتج العقلانية ووظفها في الحياة الاجتماعية كما وظفها في إعادة قراءة تراثه، في نظر الفرنسي "ألان توران" في قوله"ما يميز الفكر الغربي، في أقوى لحظات تماهيه مع الحداثة هو إرادة الانتقال من الدور المحدود لعملية العقلنة إلى فكرة المجتمع العقلاني الأكثر شمولا، والذي لا يقوم العقل فيه بتوجيه النشاط العلمي والنفسي فحسب ولكنه أيضا يوجه حكم البشر وإدارة الأشياء"37، إلا أن المستشرقين لم يتعاملوا مع التراث الإسلامي تعاملهم مع التراث الغربي لعدم توظيفهم المنهج الانتروبولوجي في دراساتهم للتراث الإسلامي، وهو ما يبرر خلطهم بين الإسلام كدين وعقيدة وبعض الظواهر الاجتماعية كخصوصية تاريخية، ومن ثم الوقوع في عائق إبيسيمولوجي، وهو التعميم غير العلمي عبر عنه أركون قائلا"بعض المستشرقين ينشرون كتبا ويعنونونها بشكل مضلل على النحو التالي تاريخ المجتمعات الإسلامية ل"ايرا لابيدوس" حضارة الإسلام الكلاسيكي ل (جانيس و دومنيك سورديل) الإسلام وحضارته ل (اندليه ميكل) الإسلام القروسطي ل (دومنيك سورديل) ..الخ وهكذا انتشرت هذه الممارسة في التأليف وانتهى بها الأمر إلى حد فرض موضوع "الإسلام" وكأنه يعبر عن مجال موحد من الدراسات والتفسيرات العلمية، وانا أتساءل لماذا لا يقوم المؤرخون الغربيون بالتعميم نفسه عندما يتحدثون عن المسيحية أو العالم المسيحي؟. فبحسب معرفتي لا توجد كتب معنونة على الشكل التالي في أوروبا : تاريخ الحضارات المسيحية"38.
هذه المقاربة لتراثنا الإسلامي في نظر أركون ساهمت في إضعاف فرص البحث العلمي لفهم مكونات الهوية ، وصيرورتها التاريخية، كما تحرمنا من فهم أسباب إخفاقنا، ومن ثم تعطيل محاولة النهوض.
ومن عيوب التعميم- كذلك- اختزال التنوع الحاصل في العالم الإسلامي. يقول أركون:"إن هذا المنظور الشمولي والتضليلي للأمور، يعني أن كل ذلك الفضاء الشاسع الواسع المليء باللغات المختلفة واللهجات والعادات والتقاليد والعقائد والأعراف والإثنية الثقافية والبنى الاجتماعية والممارسات الاقتصادية والتجارب التاريخية …الخ، أقول كل هذا العالم أصبح منظورا إليه فقط من خلال اسطنبول"39
ويمكن تحديد أخطاء الدراسات الاستشراقية من منظار أركون في النقاط التالية:
1- تمسك الدراسات الاستشراقية بالبنية الداخلية للنصوص – اعتماد الدراسات الاستشراقية للمقاربات اللغوية للكشف عن الحقيقة الكامنة في النصوص- جعل أركون يرى فيها (المقاربة اللغوية) فشلا معرفيا لأن العقل ليس نتاج نص لغوي فحسب .2- التمسك بتاريخ الأفكار الخطي: فهو معضلة في الدراسات الاستشراقية بسبب محدوديتها في النقد، لأن هذا التمسك يمنعها من تجديد بنيتها المعرفية والانتقال إلى بنية ابستيمية جديدة. إنها تظل في مستوى السطح يقول أركون:"إن المستشرقين التقليديين لا يعدو عملهم النقل عن النصوص القديمة التقليدية، مختارين للمفكرين البارزين مقلدين لقولهم دون أن يبحثوا عن الروابط بين الأشكال الفكرية والتيارات الفكرانية والقوى الاجتماعية المتصارعة في سبيل التغلب واستلام السلطة"40.
3- تجاهلها للمقاربة الإناسية: بسبب انطلاق المستشرقين من مرجعيات نقدية خاضعة لسلطة المكتوب دون وعي الفروقات بين المجتمعات الكتابية والمجتمعات الشفوية، ومن ثم افتقارها للنظرة الشمولية واكتفاؤها بالنظرة التجزيئية والشكلية .
4- عدم اعتمادها لآليات النقد المنهجي والعلمي وعجزها عن توظيف مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة.
وأخيرا ومن خلال هذه المقاربة نستنتج أن التحرر من الدراسات الاستشراقية أو الفكر الغربي عند "محمد أركون" مرهون بممارسة النقد على التراث الاستشراقي ومحاولة التزام الموضوعية العلمية في إصدار الأحكام، والابتعاد عن الرؤى الأيديولوجية، و الدخول مع الآخر في حوار نقدي بناء، وفق منطق المنفعة العامة، كما يجب توظيف مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة واستيعاب مناهجها وتوظيف مفاهيمها، وتفكيك كل البنى لفهم سبب إخفاقنا الحضاري. ومن ثم التأسيس لنهضة ثانية يكون للعقل الفلسفي مكان فيها يساهم في موضعة ذاتنا تاريخيا. انه يدعو النخبة العربية للتحرر من ذهنية تبرير الواقع وتحميل الآخر مسؤولية تخلفنا الحضاري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.