قبل حوالي المائة عام، قامت السلطات البريطانية باستقدام مجموعة من النوبيين من السودان إلى كينيا. ومنذ ذلك الحين ظلوا يعاملون بصفتهم أجانب. واستناداً إلى أصولهم العرقية والدينية، فقد تم إخضاعهم لإجراءات فحص وتدقيق مطولة ومهينة في سبيل حصولهم على بطاقات الهوية الكينية، والتي تنطوي على أهمية قصوى بالنسبة لمجمل حياتهم اليومية. ونظراً لحرمانهم من اكتساب المواطنة، فقد كتب على النوبيين في كينيا أن يقبعوا في مرتبة المواطنين الفقراء من الدرجة الثانية، علماً بأن المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان سبق أن نوهت إلى أن الإجراءات التعسفية من جانب الحكومة الكينية بتقييد الحصول على مستندات المواطنة وفقاً للهوية الدينية والعرقية، يعتبر انتهاكاً صريحاً للميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان. الجدير بالذكر أن الجالية النوبية في كينيا تشكل ما يربو على 100 ألف نسمة تعود أصولهم إلى منطقة جبال النوبة في السودان. و قد تم جلبهم إلى كينيا للخدمة ضمن كتائب شرق إفريقيا التابعة للقوات المسلحة للاستعمار البريطاني. وعند تسريحهم رفضت السلطات الاستعمارية السماح لهم بالعودة إلى السودان، حيث تم توطينهم بمنطقة كايبيرا الكائنة بالقرب من العاصمة نيروبي. ومع ذلك، فإن السلطات الاستعمارية تعاملت مع الجالية النوبية بصفتهم أجانب". كما أن الحكومات الكينية المتعاقبة ومنذ استقلال كينيا عام 1963 سارت على ذات النهج من المعاملة، رافضة الاعتراف بالنوبيين كمواطنين مع عدم منحهم الوثائق الثبوتية. في ضوء ذلك، ظلت الجالية النوبية في كينيا تعاني زهاء المائة عام من تعقيدات مريرة في حياتها تمثلت بصفة خاصة في حرمانها من الخدمات العامة، خاصة الرعاية الصحية والتعليم. وذلك فضلاً عن عدم الاعتراف بأطفالها كمواطنين بالميلاد. ليس هذا فحسب، فقد تعرض النوبيون في كينيا أيضاً لحالات بشعة من التمييز، تمثلت في إخضاعهم لإجراءات فحص وتدقيق مطولة ومعقدة للحصول على بطاقة الهوية اللازمة للاعتراف بهم كمواطنين، والتي لا مناص منها لممارسة حياتهم اليومية. ومن أجل التأهيل للحصول على بطاقة الهوية، فإنه يتعين على النوبيين إبراز بطاقات إثبات الهوية الخاصة بالوالدين والأسلاف، والتي يستحيل العثور عليها الأمر الذي يعني بالضرورة جعلهم غرباء بلا هوية. وهذا بدوره يترتب على حرمانهم من الالتحاق بالجامعة والزواج وذلك علاوة على عدم استطاعتهم الحصول على وظيفة رسمية بالدولة أو حتى مراجعة الدوائر الحكومية لإنجاز الكثير من المعاملات الرسمية اليومية الضرورية. مع العلم بأن الحكومة الكينية لم توافق مطلقاً على حقوق الملكية الخاصة بالنوبيين والكائنة بأرض أجدادهم في منطقة كايبيرا. حيث نجد أن الحكومة الكينية ظلت تتمسك بحجة أنهم يحتلون أراضي حكومية. في المقابل، قامت الحكومة الكينية بطرد النوبيين من مساكنهم بالقوة، مع إخضاعهم للتمييز عن طريق الامتناع عن تزويد منطقتهم كايبيرا بأي مرافق أو خدمات عامة. وذلك بجانب تهميشهم قياساً ببقية أفراد المجتمع، مع تزويدهم بالقليل من مرافق متطلبات الحياة اليومية. وعلى الرغم من أن الجماعة النوبية التي تعيش في منطقة كايبيرا لديها الخيار في أن تعود إلى وطنها الأم، إلا أن النوبيين لديهم أرض أجداد وحيدة كائنة في كينيا لا يعرفون سواها-أي منطقة كايبيرا. بناء على ما تقدم، فقد ظلت الجالية النوبية في كينيا عرضة لإنكار مطرد لحقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وذلك من واقع عدم الاعتراف بهم كمواطنين من قبل الحكومة الكينية، بالرغم من أنهم يعيشون في الدولة لحوالي قرن من الزمان. وقد نجم عدم الاعتراف بهم كمواطنين عن حرمانهم من التوظيف وحقهم في التصويت في الانتخابات والعمل في القطاع الحكومي. وبالتالي فإن الغالبية العظمى منهم ظلت تعاني من الفقر المدقع. ويتجلى ذلك في تدنى مستوى دخلهم وتراجع فرص حصولهم على خدمات التعليم والرعاية الصحية، بجانب معاناتهم من سوء التغذية والأمية، ناهيك عن عدم حصولهم على الخدمات الاجتماعية الأساسية. وهذا في مجمله يعد انتهاكاً صارخاً لحقوقهم بمقتضى لوائح الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان. في هذا الصدد، فقد طرحت بعض المنظمات الحقوقية المحلية في كينيا، مبادرة العدالة الرامية لاسترداد حقوق الجالية النوبية المسلوبة، مع إعداد مطالبة في هذا الخصوص وعرضها بالإنابة عن الجالية النوبية على المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان. وذلك بغية الطعن في العديد من انتهاكات الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان، والتي تشمل التمييز في حصول الجالية النوبية على الجنسية الكينية وبدون أي مبرر مقبول الأمر الذي جعلهم في وضع غامض وملتبس. وقد تم التنويه من قبل منظمات حقوق الإنسان إلى أن عدم استطاعة النوبيين في كينيا الحصول على بطاقات الهوية يخالف صراحة الميثاق الإفريقي والقانون الدولي، مع العلم بأن بطاقة الهوية تعتبر شرطاً أساسياً للاعتراف بالنوبيين كمواطنين كينيين. بناء عليه، فقد أصدرت المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان قرارها القاضي بأن إجراءات منح وثائق المواطنة لا يجوز أن تستند على الخلفية الدينية والعرقية لصاحب الطلب.أيضاً، شدد القرار على ضرورة التزام الدولة الصارم بالحيلولة دون منح المواطنة بالمخالفة لأحكام الميثاق الإفريقي. كما أشار قرار المفوضية إلى ضرورة إلغاء السلطات الكينية لنظام الفحص والتدقيق، وما ينطوي عليه من حزمة من الإجراءات الإدارية التعسفية التي تطبق فقط على أقلية بعينها للحصول على بطاقات الهوية الوطنية. في ضوء ذلك، طرحت المفوضية التوصيات أدناه أمام الحكومة الكينية :- 1) وضع معايير وإجراءات موضوعية وشفافة وغير تمييزية للبت في أحقية المواطنة الكينية. 2) الاعتراف بحقوق الأراضي الخاصة بالنوبيين في منطقة كايبيرا عن طريق منحهم صكوك ملكية. 3) معالجة مشكلة النزع التعسفي والتمييزي لأراضي الجالية النوبية بما يتفق مع قواعد وأحكام حقوق الإنسان. بناء عليه، وبتاريخ 28 مارس 2019 أصدر الرئيس الكيني أوهورو كينياتا قراراً بمنح الجالية النوبية سند ملكية أرض مساحتها 288 فداناً بمنطقة كايبيرا. أيضاً، فقد تعهد الرئيس كينياتا بأن الحكومة سوف تعمل جنباً إلى جنب مع الجالية النوبية من أجل تحويل أرضهم إلى مدينة نموذجية من خلال التخطيط السليم وتزويدها بالمرافق العامة بالصورة التي تكفل لهم الحياة الكريمة حسب تعبيره. علماً بأن الحكومة الكينية أصدرت مسبقاً أكثر من 2.8 صك ملكية للسكان النوبيين، وكان من المتوقع إصدار صكوك إضافية تبلغ 200,000 صك ملكية لهم. وهكذا أسدل الستار على مأساة المواطنين الكينيين من أصول نوبية، الذين تم حرمانهم من الهوية وحقوق المواطنة لما يقارب المائة عام بدافع إقصاء تعسفي وغير مبرر.