لم أستغرب من انتهاء الجولة الأخيرة من مفاوضات سد النهضة بدون اتفاق بين الدول الثلاث السودان وإثيوبيا ومصر، فالبون كان شاسعاً بين أطراف القضية خصوصاً إثيوبيا ومصر. أما السودان فلديه فقط بعض التحفظات على إصرار أديس أبابا في تنفيذ خطة الملء الأولي لبحيرة السد ابتداءً من يوليو القادم بعد انفضاض جولة المفاوضات، اختارت مصر تدويل القضية وتصعيدها إلى مجلس الأمن، فالسد بالنسبة إليها يمثل هاجساً كبيراً رغم أن رئيسها الحالي عبدالفتاح السيسي وقّع بكامل إرادته على إعلان المبادئ في الخرطوم قبل 5 أعوام مما أعطى إثيوبيا فرصة المُضي قدماً في تشييد السد، وكذلك صعّدت إثيوبيا عبر وزير خارجيتها غيدو أندارغاشيو المحسوب داخلياً في بلاده على تيّار الصقور، فقال في مقابلة مع وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية: نحن نعمل بجد للتوصل إلى اتفاق، ولكننا ما زلنا سنمضي في جدولنا الزمني مهما كانت النتيجة". كانت تلك ردود فعل إثيوبيا ومصر على انتهاء جولة التفاوض دون اتفاق، أما السودان فقد عبّرت عنه وزيرة الخارجية أسماء عبدالله ببيان صحفي أعتقد أنه متوازن لدرجة لا بأس بها، فلم تجاري مصر في التصعيد ودعوة مجلس الأمن إلى التدخل، وفي الوقت نفسه جددت موقف السودان الرافض لفكرة اتخاذ إثيوبيا إجراءً أحادياً لملء بحيرة سد النهضة دون اتفاق مشيرة إلى أهمية سلامة وتشغيل سد الروصيرص. السيدة الوزيرة ذكرت إفادة مهمة للغاية وهي أن "الجولة الأخيرة حققت تقدماً ملموساً في القضايا الفنية، مما عزز من القناعة بأهمية تمسك الدول الثلاث بخيار التفاوض كأفضل وسيلة للتوصل لاتفاق شامل". تنبع أهمية حديث الوزيرة أسماء في أن ما ذكرته عن تحقيق تقدم في جولة التفاوض يمثل قطعاً وجهة نظر الجانب السوداني. واللافت أن تصريحات وزيرة خارجيتنا يتطابق مع تصريح لوزارة الري الإثيوبية نشرته وكالة الأنباء الرسمية هناك في نسختها الإنجليزية بتاريخ 18 يونيو، جاء فيه: "بحسب بيان صادر عن وزارة المياه والري والطاقة الإثيوبية، فقد تم حل أبرز القضايا الفنية من خلال المفاوضات. وأضاف البيان أن إكمال المفاوضات يتطلب حل القضايا القانونية". إذاً، من الواضح أن موقف السودان يتقارب إلى حد كبيرٍ مع الموقف الإثيوبي، فنحن نختلف تماماً عن مصر التي ترى سد النهضة مهدداً كبيراً لها، بينما نرى نحن أنه يحقق فوائد كبيرة للسودان، وفق ما صرّح به خبراؤنا الفنيين وأكّد ذلك وزير الري ياسر عباس، بل حتى رئيس الوزراء حمدوك تطرّق في حوار مع جريدة الشرق الأوسط اللندنية إلى هذه الفوائد. وبالطبع هناك سلبيات للمشروع لكنها تظل محدودة مقارنة بالفوائد، ويعمل وفدنا المفاوض على تخفيف هذه السلبيات كما ذكر الوزير. ما أريد قوله هنا أن تصريح السيدة أسماء عبدالله كان متوازناً نوعاً ما، مقارنة بتصريحها السابق الذي جاء ضمن حوار أجرته الفضائية السودانية الرسمية قبل نحو أسبوعين مع الوزيرة أسماء ووزير الري ياسر عباس. كان الحوار شائقاً بطبيعة الحال، أكّد فيه الوزيران الفوائد التي تعود على السودان من سد النهضة، وبثّ وزير الري تطمينات مقنعة للذين كانوا يتخوفون من سلامة السد، مبيناً أنه أكثر أماناً وسلامة من كل سدود السودان ومصر لأمر يعود إلى سببين، أولهما: الأساس الصخري الذي بُني عليه السد، والآخر هو التكنولوجيا الحديثة المستخدمة في البناء. الشيء الوحيد الذي لم يعجبني في تصريح السيدة أسماء أنها ربطت موقف السودان بالموقف المصري عندما قالت وزيرة الخارجية: "إثيوبيا إذا واجهت موقفًا قويًا من السودان ومصر، بألا يتم ملء سد النهضة قبل الوصول إلى اتفاق، ستفكر في الأمر مرتين". مبعث استغرابي أن يخرج مثل هذا التصريح غير المقبول من الوزيرة أسماء المعروفة باختيارها للكلمات الموزونة فقيادتها للدبلوماسية السودانية تحتم عليها ذلك. وتساءلتُ حينها إن كانت قائدة الدبلوماسية السودانية لا تعلم أن مثل هذا التصريح يضر بعلاقات البلاد مع إثيوبيا الحليف الأوثق لحكومتها المدنية؟ وعما إذا كانت السيدة أسماء لا تدري أن سد النهضة صار قضية وطنية بالدرجة الأولى لكل مواطن إثيوبي سواء كان مؤيداً لرئيس الوزراء آبي أحمد أو معارضاً له؟ لدرجة أن 67 حزباً سياسياً فضلاَ عن رجال الدين الإسلامي والمسيحي شاركوا في ملتقى وطني عن السد قبل المقابلة التلفزيونية للوزيرة بثلاثة أيام فقط. سد النهضة كذلك شارك في تمويله معظم أبناء الشعب الإثيوبي أفراداً ومؤسسات وشركات بعد أن نجحت مصر في استصدار قرار بمنع التمويل الدولي عنه في العام 2014 قائلةً إنه يشكل تهديداً لأمنها المائي. عندها استذكر الإثيوبيون مقولة رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي: "ممولو السد نحن.. داعمو السد نحن.. ممولو السد نحن"، وتداعى الكل للمشاركة في تمويل المشروع عبر التبرعات والمسابقات وسندات الاستثمار. وليس هناك أي مجال أمام رئيس الوزراء آبي أحمد للتراجع عن المشروع أو خطط تنفيذه مهما كانت الضغوط الإقليمية أو الدولية، بيد أن الرجل حريص جدا على كسب وُد السودان وعدم تضرره كما ذكر ذلك مراراً وتكرارا. لم يكن حديث الوزيرة السابق أسماء موفقاً أبداً، وهي تربط السودان الذي يستفيد من سد النهضة بمصر التي تعتبر المشروع ورطة كبيرة بعد أن وقّع رئيسها عبدالفتاح السيسي على اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم عام 2015، ومنح بموجبه إثيوبيا اعترافاً رسمياً بحقها في إنشاء السد. ما أود أن أقوله في هذه المقالة أنه من الأهمية بمكان أن تقوم حكومتنا بإجراء اتصالات منع الجانب الإثيوبي للتنسيق فيما يتعلق بسد الروصيرص إلى أن يتم إيجاد حل وسط للاتفاق الشامل الذي يبدو حلماً بعيد المنال! فنحن ندرك من معلوماتنا البسيطة أن سد النهضة عند اكتماله يفترض أن يرفع كفاءة السدود السودانية بما فيها خزان الروصيرص ومروي. إثيوبيا حرصت على كسب وُد السودان فقامت بتعديل التصميم الأولي لسد النهضة مراعاة لمخاوف خبرائنا من سلامة السد، كما ذكر السيد وزير الري وحتى بعد أن قررت المضي في خطة بدء الملء قدّمت رؤية جيدة للخطة لا يتضرر منها السودان بل مفيدة جداً وفق ما ذكر لي مصدران أحدهما دبلوماسي والآخر فني في وزارة الري أثق كثيراً في مصداقيتهما، لكن للأسف لم يجد العرض الإثيوبي قبولاً من رئيس الوزراء عبدالله حمدوك الذي كان يرى أهمية التوصل إلى اتفاق ثلاثي شامل. نعم من الأفضل الوصول إلى اتفاق مُرض لجميع الأطراف، لكنّ الواقع يشير إلى صعوبة تحقيق هذا الهدف في ظل تصلب مواقف أديس أبابا والقاهرة.. ولذلك أرى أن تضع حكومتنا الموقرة مصلحة السودان وشعبه في المقام الأول ولا يفوتني أن أذكر القارئ الكريم ببعض المواقف المصرية تجاه بلادنا في ظل سعي بعض أطراف الحكومة الانتقالية في السودان إلى تبني الرؤية المصرية والتصعيد مع إثيوبيا مجاملة للقاهرة، كما في تصريحات نائب رئيس حزب الأمة إبراهيم الأمين الذي قال في مقابلة مع قناة الجزيرة، "إن السودان لن يسمح بوقوع أية أضرار على مصر من سد النهضة"، فسألته المذيعة عن مصالح بلده السودان فلم يقل إجابة مقنعة واكتفى ببعض العبارات العامة! لن أتحدث عن المرارات التاريخية التي أذاقتها الحكومات المصرية للسودان من إغراق أعظم حضارة إلى الاستيلاء على حلايب ودعم حركات التمرد، وإعادة تصدير منتجاتنا الزراعية بعد تعبئتها بإستيكر "صُنع في مصر". فلنتذكر فقط أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أرسل في أواخر العام 2017 خطاباً إلى إثيوبيا حمله وزير الخارجية سامح شكري وسلّمه إلى رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلا مريام ديسالين يطلب فيه السيسي استبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة! فكان الرد الإثيوبي بأن السودان طرف أصيل في المفاوضات ولا يمكن استبعاده. الواقعة أعلاه نشرتها مجلة أديس فورتشن الإثيوبية المرموقة الصادرة بتاريخ 26 ديسمبر 2017، مما تسبب آنذاك في فضيحة مدوية لمصر حاولت تداركها بنفي الرسالة، لكنّ أحداً لم يصدق النفي ومحاولة التغطية على الفضيحة فالمجلة الإثيوبية معروفة بمهنيتها العالية وبمصادرها القوية. حتى بعد أن اجتهدت حكومتنا الموقرة لأجل إعادة الأطراف الثلاثة إلى طاولة المفاوضات، وقاد الاتصالات رئيس الوزراء عبدالله حمدوك من أجل هذا الهدف النبيل رغم مشاغله العديدة، فتُوّجت الجهود بموافقة الجانبين الإثيوبي والمصري إلى استئناف التفاوض عن بعد. ماذا كانت ردة فعل القاهرة؟ بدلاً من أن تشكر الحكومة المصرية جهود حمدوك ثم وزير الري ياسر عباس، قال بيان صادر عن مجلس الأمن القومي المصري، إن "دعوة وزير الري السوداني لاستئناف المفاوضات جاءت متأخرة! يُقال أيضاً أن هناك ضغوطاً من عسكريي السيادي مُورست على الممسكين بملف سد النهضة، بعد أن انزعج العسكريون من الموقف القوي لوزارة الخارجية إبان مشروع القرار العربي الداعم لمصر في مارس الماضي، بعكس ردة فعل الشارع السوداني الذي اعتبر أن وزارة الخارجية حرصت على مصالح السودان فقط دون النظر إلى أي تكتلات أو محاور خارجية، وقد دافعنا عن موقف الحكومة الانتقالية حينها في مقال استعان به موقع المونيتور الأميركي الشهير على الرابط https://www.al-monitor.com/pulse/originals/2020/03/egypt-sudan-ethiopia-renaissance-dam-dispute-arab-league.html . أختم حديثتي لقادة حكومة الثورة بأنّ السيسي إذا كان قد أخطأ التقدير بالتوقيع على إعلان المبادئ فهي مسؤوليته ومشكلته هو ينبغي عليه أن يحله أمام شعبه، ومن الغباء أن يتخذ السودان موقفاً ضد إثيوبيا الدولة الإقليمية الوحيدة التي تدعم العملية الانتقالية ورعت الاتفاق الدستوري، هذا بخلاف المسألة الأهم وهي أن سد النهضة يحقق فوائد كبيرة للسودان. من الواجب أن تعود حكومتنا إلى سياستها السابقة وهي إعلاء مصلحة السودان فقط، والعمل على التوصل على اتفاق مع إثيوبيا حول الملء الأولي لبحيرة السد وهذا أمر ليس بالصعب وقناة الاتصال مفتوحة بين وزير الري ياسر عباس ونظيره الإثيوبي سيلشي بيكلي. فقط علينا أن نتخلى عن المثالية الزائدة والكف عن مجاملة الجارة الشمالية.