العنوان أعلاه اشتققته من المثل الشعبي السوداني ذائع الصيت " الجن بداوى كعب الإندراوة " فأمة السودان هذه الأيام تقع تحت وطأة هذا المثل ويحترق جوفها في مجالات الحياة كافة، وتعيش حالات من الجنون متعدد الأشكال والأنماط … جنون الخبز … جنون الوقود …جنون التجار والأسعار … جنون الدولار … جنون البقر …جنون كورونا …جنون الأسافير والشائعات المقرضة القاتلة ونحصد في كل يوم مضى ويوم قادم ثمار "المشروع الحضاري" وتغذيته الراجعة وما اقترفته أيدي الإنقاذيين وكيزانهم ولصوصهم ومفسديهم في حق هذا الشعب العظيم طوال حكمهم الذي امتد لمدة ثلاثين عاماً، وبذلوا فيه ما بوسعهم بمكر وخبث ودهاء لأجل مجدهم الشخصي ومنفعتهم الذاتية مستخدمين في ذلك أسوأ أدوات الهدم والتدمير ومسخرين الدين الحنيف في بث شعارات براقة من أمثال "لا لدنيا قد عملنا " وخاطبوا الإنسان السوداني البسيط من جانبه السلبي ونقاط ضعفه فعمدوا إلى إزكاء الأحقاد القبلية والجهوية والإثنية والعنصرية الموروثة واستطاعوا بوميض الشعارات الزائفة وغموض الكلمة ومطاطية الفكرة أن يستميلوا إلى صفوفهم نسبة مقدرة من جماهيرالمثقفين وأنصافهم والجهلة والباحثين عن المجد والشهرة والثراء الحرام واستصحبوا أيضاً معهم "الداقسين" من الخيرين والشرفاء والطيبين والشفوت وشياطين الإنس والجن وحشروهم قسراً وتلطفاً في مرجل يغلي سمي "بالمؤتمر الوطني" … دمروا كل شيء جميل في حياتنا المشروعات الاقتصادية الناجحة أو باعوها بثمن بخس أو حولوها إلى قطاع خاص باسم أبنائهم ونسائهم وأقاربهم و دمروا الخدمة المدنية "صامولة صامولة"، وأحالوها إلى مكاتب وثيرة للأنس وتناول الوجبات واحتساء القهوة والشاي ومطالعة الأسافير ومواقع التواصل الاجتماعي , أشعلوا الحروب القبلية في كل مكان في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وأفقدونا جزءاً غنياً عزيزاً من أرض الوطن تسبب في كل هذه الأزمات التي نعيشها الآن احتلت حلايب وشلاتين والفشقة وامتلكوا العقارات والفلل والقصور والمزارع والمنتجعات وتزوجوا النساء مثنى وثلاث ورباع قهروا الأحرار وأفقروا الضعفاء والمسحوقين ودمروا الأحزاب السياسية وسحقوا المعارضة ودمروا التعليم العام والعالي بثورة سموها زوراً بثورة التعليم العالي ودمروا كل فكر ومذهب قادر على مجابهة مدهم ومسعاهم الخبيث ودمروا فوق ذلك ما تبقى للإنسان السوداني من قيم أخلاقية وهبطوا بالأمة السودانية إلى خواء فكري وأخلاقي وتمزق وجداني ولا يزالون يهيئون أنفسهم بدولتهم العميقة للقفزة الأخيرة للقضاء على ما بقي من السودان دون حياء أو خجل يربطون دعوتهم بالدين ويقرنون مذهبهم بالقيم والأخلاق ولا أدري عن أي دين يتحدثون؟ وعن أي أخلاق يدعون؟ ورئيس دولتهم حبيس القضبان في جريمة الاتجار في الدولار وولاتهم ارتكبوا الفاحشة في نهار رمضان وجهاز أمنهم قتل المعلمين وأدخل الخوابير في دبورهم وفوق هذا يحتكرون حق النقمة على الحاضر والسخرية من ثورة شعبية عارمة مُهرت بالدماء والمهج والأرواح ويزرعون الساحة برؤوس تتلفت إلى الماضي … يستنبطون المغانم من المغارم ويستخلصون الانتصارات من الهزائم فما من مصيبة نزلت على شعبنا العظيم إلا وصارت انتصاراً حتى لو كشفت "امتحانات الشهادة الثانوية " ووقف الناس في صفوف الوقود والخبز وما من خراب حل إلا أصبح كسباً في مقاومتهم لثورة وحكومة قائمة لا تزال تتحسس طريقها لإصلاح ثلاثين عاماً من الدمار الشامل بالمدفعية الثقيلة ؛ وإن المرء ليتعجب كيف لكيان أو حزب أن يدافع عن عهد مضى بعد أن أورثنا كل هذا الخراب و تركة مشحونة بالخسائر الجسيمة التي تتضاءل أمام فداحتها كل المنجزات وأورثنا خراباً اقتصادياً قاتلاً بدأت تداعياته تمس كل بيت سوداني وأورثنا دماء غالية يبكيها كل بيت سوداني وأورثنا وطناً ممزقاً واحتلالاً لأراضينا وأورثنا دماراً أخلاقياً وتمزقاً في نسيجنا الاجتماعي لم ندركه في أي مرحلة سابقة من تاريخنا، وكل هذه وقائع ومشاهد حقيقية يلمسها الأعمى قبل البصير !! وهي إن كانت تثير خلافاً في أسبابها وجدلاً حول دوافعها فإنها لا تثير خلافاً في نتائجها ولا جدلاً حول آثارها فأين إذاً المكاسب والمنجزات التي يحلم الإنقاذيون بالعودة إليها ليستنسخوا منها "مشروعاً حضارياً " جديداً يقضي على ما بقي من سودان ويضيف إلى ما ضاع من عمر الأمة ضياعاً جديداً ؟ وهذا لعمري هو "الإندرواة" التي عنيتها وأعيت من يداويها، وفي الجانب المقابل يمكننا القول إن حالات الجنون التي تعيشها مكونات الحكم الانتقالي اليوم يمكن أن تعالج بالحكمة والصبر والتريث إذا التفتت الحكومة إلى مصدر الأزمات ومكامن الخلل وعملت بجدية على علاجها بدلاً من الدوران في فضاءات الحلول الرومانسية وسلحفائية الإجراءات والتنفيذ، ثمة جنون آخر يتمثل في عطاء من يملك لمن لا يستحق ومنحها عن قصد أو غير قصد وسادة "حرية سلام وعدالة" " للإندراويين" ليتكئوا عليها من خلال صحافة وصحافيين ينطقون باسمهم وأقلام تدافع عن آرائهم وفيهم من يقع تحت طائلة الجريمة والعقاب والتحريض وأسهم بقلمه المسموم في بث سموم قادت إلى تمزيق الوطن وإزكاء روح العنصرية التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن ولا يزالون يدعون بالصوت الجهور إلى إجهاض الثورة والاستخفاف برموزها وبرامجها دون أن يدرك شركاء الحكم أن الصحف المعربدة الموجهة هي التي أسقطت كل نظم الحكم المتعاقبة من لدن حكومة الزعيم الراحل الأزهري وحتى حكم المخلوع البشير، ولعل من المفارقات أن الذين أسهموا في سقوط نظام الإنقاذ من حيث يدرون ولا يدرون هم أبناء النظام نفسه الذين رضعوا من ثديه وتشبعوا بثقافته وتعاليمه عندما منحوا مساحة من المنابر الحرة لم تتح لغيرهم ليتبجحوا فيها كما يشاؤون وينتقدون النظام على الهواء الطلق ؛ ثم عادوا ليدافعوا عن نظامهم البائد، ووصف الثوار بالجرذان وشذاذ الآفاق وهذا نمط آخر من أنماط "الإندرواة" التي عنيتها ؛ لنقول في خاتمة المطاف إن العبرة في الحكم على أي نظام سياسي ليست في حسن نية قادته وطهارة ألسنتهم وأيديهم ولكن العبرة بالنتائج الملموسة التي حققوها قياساً بالتضحيات الجسام التي كابدتها جماهير شعبنا وليست بالنوايا ولكن بالنتائج والمنجزات ؛ فالطريق إلى الجحيم محفوف بالنوايا الطيبة كما يقولون، والسياسة لا تعرف العواطف إنما تعرف فقط النتائج النهائية، لكل هذا فإن الوضع البائس الذي يعيشه أهل السودان هذه الأيام لا يعفي شركاء الحكم في الفترة الانتقالية من "الجناح العسكري وقوى الحرية والتغيير" من المسؤولية والأمانة إذا انشغلوا بملف التمكين ومفاوضة الحركات المسلحة والتوقيع بالأحرف الأولى على محاور مفصلية والدخول في ملفات ليست من اختصاصاتهم وتحتاج إلى شورى وتشاور وديمقراطية حقة وبرلمان منتخب وحتى ملف التعليم الذي يحاول "الإندراويون" النفاذ من خلاله ليجثموا على صدر الثورة وإجهاض مكتسباتها يمكن أن تذلل معوقاته ومشاكله من خلال تعاميم ونشرات للمناهج صادرة عن "وزارة التربية والتعليم الاتحادية" توجه للإدارات التعليمية في الولايات كافة يسير على نهجها المعلمون كما كان يحدث في عهود التعليم الزاهية حتى و لو تقلصت أيام العام الدراسي لبضعة أشهر ثم أين ضياع العام الذي يؤسف عليه ؟ وتعليمنا العام الذي أورثنا له النظام السابق لا يزال يُخرِّج في كل عام جيوشاً من الأميين الذين لا يحسنون فك طلاسم الخط وتعلُّم القراءة والكتابة دعك من العلوم الأخرى، وهناك من البحوث والأدلة والبراهين ما يثبت ذلك، فعلام الحسرة والشكوى لتأجيل فتح المدارس أو تجميد العام إذا كان نظامنا التعليمي برمته يحتاج إلى إعادة هيكلة وتقويم ؟ بينما الأزمة الاقتصادية والتضخم قد بلغ مداه ويكاد الأنين والشكوى من ضنك المعيشة واستحالة الحياة يحاصر كل بيت دون أن يلمس شعبنا الأبي المقدام تغييراً ملموساً أو قرارات ثورية صارمة تتيح الشنق والصلب من خلاف في الساحة الخضراء أو ساحة الثورة وميدان أبو جنزير لكل فاسد ولص سواء كان في العهد السابق أو هذا العهد ولكل متلاعب جلب الشقاء لهذا الشعب الصابر العظيم، وإذا استمرت الحالة على هذا الوتيرة وهذا الجنون فلا شك أن الحبل سيلتف حول عنق الحكومة ويذهب بها إلى مزبلة التاريخ كما ذهبت حكومات كثيرة غيرها وستضيع ثورة الشعب المجيدة التي بهرت العالم وعلمت الشعوب ويضيع الوطن العزيز ويظل سودان الحقيقة موزَّع الخطى بين حاضر تحاصره الأزمات من كل جانب و ينوء بأثقال الماضي وبين غدٍ في طي المجهول ويوم تختل الموازين وتسقط الروادع الثورية النافذة يبقى الباب مفتوحاً إلى معاودة الجرائم وتكرار الأخطاء ويظل المجتمع السوداني مهدداً بمخاطر الردة محاطاً بأسباب الانتكاس والتردي وتصبح عودة "الإندراويين" أو أشباههم للحكم محتملة في أي وقت وحينها لا نملك غير أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .