وضوح الرؤية ووحدة الهدف في اعتقادي تمثل أهم ركائز النهوض بالمجتمعات المتساكنة لتنفض عنها غبار التخلف، هذا مع توفر الإرادة على التغيير ومعالجة أسباب التنازع المجتمعي فيما بين مكونات المجتمع المختلفة (قبلية وسياسية) وغير ذلك، فطالما أن تلك المكونات تجمعها أرض يتشاركون جميعا في منافعها ومواردها، وبالمقابل يتشاركون أيضا همومها، ويتقاسمون الأوجاع فيها. فما يعتري المجتمع من أمراض لن يصيب عضوا واحدا من أعضائه دون غيره، ولا يمكن لمكون قبلي أو سياسي او خلافه أن يكون في منأى عن أي مصاب يقع في الرقعة الجغرافية التي تضمه مع الآخرين، وبالتالي ليس أمام أي كتلة بشرية تتشارك الارض والمنافع داخل أي رقعة جغرافية غير الاتفاق على الحد الذي يمّكن تلك المجتمعات المتساكنة من الحفاظ على الموارد المشتركة، أي أن قضايا المتواجدين في تلك الرقعة واحدة لا يمكن فصلها عن غيرها، فمثلا مجتمع ولاية القضارف بمحلياتها المختلفة التي تمثل نموذج مصغر لمجتمع السودان الكبير بمختلف مكوناته القبلية والسكانية، تمثل الزراعة القاسم المشترك بين المجتمعات المحلية فيه، فإذا ما أصاب الزراعة مكروه كما حدث لمحصول السمسم هذا العام بسبب آفة (الكرمشة)، فإن من تأثر جراء ذلك ليست قبيلة بعينها، وانما كل المجتمع الزراعي، وقس على ذلك بقية القضايا الآخرى، فعند انعدام مصل الثعابين في الخريف بالولاية سينعكس اثر ذلك على كل من يلدغ أي كانت قبيلته، وكذلك ازمة العطش التي بالتأكيد يعاني منها الجميع، وإلخ.. ما دعاني لكتابة المقدمة أعلاه، هو تداعي مجموعة من رجال القضارف لا تجمعهم قبيلة بقدر ما يجمعهم الهم العام، وذلك من أجل وضع رؤية مشتركة لمخاطبة القضايا المشتركة ليست بين مجتمعات القضارف فحسب، وإنما يمكن أن تكون لبنة صلبة لنموذج إجتماعي بشرق السودان ككل، لا سيما في ظل حالة الاستقطاب القبلي الحاد، والذي بكل تأكيد سيعقد الازمة وفي النهاية لن يخرج الاقليم من دائرة التخلف التي أدخل فيها عن عمد وبسبب التعامل الخاطئ منذ بداية تشكل الدولة الوطنية. نعم تداعى هؤلاء الرجال الذين لا تنقصهم الارادة لتحقيق مصلحة العامة، والعزيمة لكسر كافة الحواجز التي يضعها أصحاب الأغراض الضيقة، والهمم المتواضعة. الخطوة أطلق عليها مبادرة أهل ولاية القضارف للتعايش السلمي والتشاور في مسار الشرق وقضايا الحاضر في الشرق، فقد احتضن ديوان الحاج (مصطفى محمود عبد الله إدريس) بقرية أم شجرة مساء أمس، المئات من رجال القضارف بمثل ما أحتضنتهم محلياتها المختلفة دون تمييز، يمثلون رجال أعمال وأعيان وشيوخ طرق صوفية بمختلف تنظيماتهم. تركز النقاش حول عدة نقاط تمثل في اعتقادي قضايا الساعة، اولى تلك النقاط تمثلت في كيفية الخروج من الأزمات والخلافات في الولاية والشرق بشكل عام، بجانب بحث وضعية ولاية القضارف في حال الرجوع لنظام الأقاليم، تناول ايضا النقاش مسار الشرق في مفاوضات جوبا، ومن وقعوا عليه نيابة عن أهل الشرق ومن فوضهم بذلك، وغير ذلك من الموضوعات التي ستكون أساسا للمشاورات الواسعة التي ستنتظم مجتمع الولاية في مقبل الأيام. وأهم ما خرج عن الاجتماع الواسع هو التأمين على الوحدة والتكاتف، والخروج من إطار القبلية والحزبية الضيق إلى رحاب الوطن الواحد الذي يسع الجميع، كما اتفق المجتمعون على نبذ الخلافات ومن يسعى للفتن وللمصلحة الخاصة، والتصدي لكل من يحاول زعزعة أمن الولاية، وكخطوة عملية اتفق المجتمعون على تكوين مجلس شوري من 100شخص يسمى مجلس شوري أهل ولاية القضارف. اعتقد ان قيام مثل هذه المبادرات المجتمعية الواعية هي التي ستطفئ نيران الفتنة التي تسعى جهات داخلية وخارجية لتأجيجها باثارة النعرات القبلية وسط مجتمعات ظلت متعايشة ومتصاهرة لعقود، طمعا في موارد شرق السودان، والاحالة دون الاستفادة منها، ولا أظن أن مدخلا آخر غير الوحدة بين مكونات الاقليم المختلفة يمكن من خلاله الولوج إلى عمق الأزمة ومعالجة جذورها، فلا يستطيع مكون دون غيره فرض رؤية بمعزل عن الآخر كما لن يكون بمقدور تنظيم سياسي بعينه أن يدعي الاستفراد بالإقليم، واي محاولات من هذا القبيل ستشتت الافكار والامكانيات عن معالجة حقيقة الازمة وستقود الى إقتتال لن يجني منه الشرق غير الخراب، فلتختلف قبائلنا وأحزابنا، ولنتفق على العيش المشترك، والتصدي لازالة التخلف ومخاطبة وادارة قضايانا، فما يجمع بيننا أكبر مما يفرق. نواصل