"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ".. نعيد ونكرر لعل الذكرى تنفع المؤمنين، فالسودان كغيره من البلاد pays en voie de développement يعاني مشاكل عدة، لكن ما يميز السودان عن بقية بلدان العالم الثالث أنه يعاني من أمراض سرطانية متجذرة منها: العنصرية، إشكالية الهوية، وأخطرها "المتاجرة بالدين"، وفي جانب آخر المفاهيم الخاطئة الموروثة والخلط بين تعاليم الإسلام والموروث التقليدي. نتوقف عند الجانب الأهم وهو المتاجرة بالدين من أجل غرض في النفس والغرض مرض، وقد عانى السودان على مر السنين من أصحاب الرأي والفكر الضعيف؛ الذين لا يجدون قبولاً والتفافاً شعبياً فيلجأون للمتاجرة باسم الدين لتحقيق أهدافهم ومصالحهم الشخصية، وتارة أخرى لغسل أمخاخ الشباب بأفكار مضللة باسم الإسلام، والإسلام دين السلام والتسامح، بريء منها. وتاريخ السودان شهد العديد من القضايا التاريخية الإنسانية التي زهقت وأعدمت فيها أرواح شخصيات أصحاب فكر اختلفنا أو اتفقنا معهم، والله هو من بيده ميزان العدالة، وهو وحده من له أحقية محاسبة عباده، وليس كل من توهم أنه عالم دين أو شيخ أو إمام جامع بدل من أن يعملوا على تعليم الأجيال تعاليم الإسلام السمحة، ونشر السلام وثقافة التسامح والحوار وتقبل الآخر. يلقنونهم ترديد "القراي عدوالله" وهي بالتأكيد فئة محددة وليس الجميع؛ يعملون على بث روح الفتنة والكراهية والإرهاب تنفيذًا لأجندة مُغرضة، معتمدين خطاب مُضلل مُغرض لتهييج العواطف بالكذب والنفاق؛ وعندها نستعجب من خلايا تنمو لتكوين دولة داعش وتدعو لزهق الأرواح والنفوس، ورفع رايات الجهاد الهجومي وليس الدفاعي، فتصبح دعوة جهاد على كل من يحمل فكراً مختلفاً عنهم، أو عنده فلسفة ورؤية مختلفة للحياة عنهم، فقد سبق ورفعوا شعارات "أو ترق منهم دماء أو ترق منا دماء أو ترق كل الدماء". علماء السلطان الذين شاركوا في فساد الدولة في الوقت الذي عم فيه الفقر والجوع وتفشت فيه الأمراض وظلم فيه المواطن شر ظلم، وسُلب أقل حقوقه بينما هم كانوا يمارسون دق الطبول وحرق البخور للسلطان الظالم، واليوم عندما ضاقت بهم لقمة العيش، وخافوا أن تدور بهم الدوائر ويعيشون نفس المأساة التي عاشها الشعب سنين عددا رجعوا لتجارتهم الفاسدة المتاجرة باسم الدين. علماء السلطان هؤلاء هم بعيدون كل البعد عن العلم والمعرفة، "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ".. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير". قال معلم الناس الخير وليس معلم الناس الكره، والداعي لقتل النفس بغير حق، والداعي لبث ثقافة الكراهية، ونشر الفتن بين الناس، والدعوة للإرهاب وتفجير النفس في سوريا والعراق، وبناء دولة الإرهاب؛ وليس دولة الإسلام، فالإسلام برئ من هذا الإرهاب والمتاجرة السياسية الرخيصة باسم الدين. ما يفعله هؤلاء يسمى فرفرة مذبوح يخاف "الوسطية المعتدلة والإصلاح" ويسميها "حداثة غربية وفسوق"، يخاف "دولة القانون" وإحقاق الحق ويقول إنها "علمانية هدم الدين". علماء السلطان تجار السياسة باسم الدين أين هم من علماء الوسطية الصالحين؟، علماء الإسلام الإصلاحيون الوسطيون تبرأوا من أمثال هؤلاء وأسموهم علماء السلطان الذين لا يفرقون بين الدين والتين فقال المنفلوطي فيهم: (فقلت في نفسي: ليت الفقهاء الذين ينفقون أعمارهم في الحيض والاستحاضة، والمذي والودي، والحدث الأصغر والحدث الأكبر، يعرفون من سر الدين وحكمته والغرض الذي قام له، ما يعرف هؤلاء الذين لا يفهمون معنى الجنة والنار، ولا يميزون بين الدين والتين". مصطفى المنفلوطي أحد تلامذة الشيخ عبده، وهو أديب مصري عالمي، ومناضل فكري وطني وسياسي، التقى بالشيخ عبده في الأزهر الشريف وصار من تلاميذه المعجبين به، والمتأثرين بفكره وفلسفته، ثم انصرف عن تعاليم الأزهر الشريف وركز على دراسة تعاليم محمد عبده، وكان شديد الاهتمام والاطلاع على الأدب الأوربي والفرنسي بصورة خاصة، مما ساعده في تكوين ثقافة أوربية عالمية واسعة وأسلوب أدبي مختلف عن غيره، حتى أصبح أحد رواد النثر العربي الحديث. وفى نهاية روايته الشهيرة (مدينة السعادة) التي هي عبارة عن نقد اجتماعي وسياسي يصف تلك المدينة وسكانها قائلًا: (عجبت أن يكون مثل هذا الإيمان الخالص راسخاً في نفوس أهل هذه المدينة، ولم يرسل إليها رسول ولم ينزل عليها كتاب)، وأهلها لا يعرفون الجنة والنار ولكنهم بلغوا مرحلة الموحدين الصادقين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً. فبدل من أن يقضي علماء السلطان وقتهم في تكفير الآخرين ومراقبة فريق الكرة النسائية تارةً وتارةً أخرى مطاردة مدير المركز القومي للمناهج؛ لماذا لا يعملون على محاربة التطرف والإرهاب والعنف بنشر تعاليم التسامح والسلام؟، وهكذا يؤكدون لأمريكا والعالم من حولنا أن السودان لم يرفع فقط شكلياً من قائمة الدول الراعية للإرهاب بل هو بالفعل بلد التسامح والتعايش السلمي ويتبنى لغة الحوار مع الآخر المختلف ناهيك عن دكتور القراي ابن السودان. فنحن لا نسمعهم يتحدثون في منابرهم الدينية عن المواطن وتحسين عيشه، وعلاقاته الخارجية، وبناء جسر تواصل ما بين الشرق والغرب ولكن الحديث كله يدور حول المرأة عورة، والتكفير، والزندقة، والمتاجرة الرخيصة باسم الإسلام. لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن اللطف فيه.