أثناء بحثي – أنا المُحرِّر نزار عباس – عن أيِّ مركبة تقلني من الكلاكلة إلى الخرطوم حيث مقر الصحيفة، جاءت حافلةٌ صغيرةٌ ليهرول خلفها العشرات من المنتظرين – وأنا منهم – وبعد جهدٍ وجدت مقعداً، ليفاجأنا صاحب المركبة بزيادة التعرفة من خمسة جنيهات إلى سبعة جنيهات بنسبة زيادة تقارب ال (50%) ليتذمّر الركاب قبل أن يرد عليهم بعبارة حاسمة: (الما عاجبو ينزل).. حينها صَمَتَ الجميع وقبلوا بعرض الرجل (مُكرهين)!! هنا سألت إحدى الطالبات التي كانت تجلس بجانبي داخل المركبة وهي "إيمان مالك" عن رأيها في هذه الزيادة؟ فقالت إنّها غير مُقتنعة بالزيادة ولو لا الجهد الكبير الذي بذلته للحصول على هذا المقعد لنزلت على الفور!! لكن صاحب المركبة إبراهيم حامد قال لي: أنا مُجبرٌ على زيادة التعرفة، فكما تعلمون أنّنا نُعاني في الحصول على حصتنا من الجازولين ونقضي وننام ليلةً كاملةً في محطات الوقود من أجل الحصول على الجازولين وهذا الوقت يخصم من عملنا، ففي اليوم كان عملنا (13) "فردة" وبسبب وقوفنا في الصفوف تقلّص إلى (5) فقط، وبذلك أصبح دخلنا ضعيفاً مقارنةً بالسابق، فكان لا بُدّ من زيادة تعرفة الراكب لنغطي بها الزمن المُستقطع الذي نقضيها في الطلمبات. وتقول المُوظّفة نعمات عوض ل (السوداني)، إنّها ظلّت واقفةً لأكثر من أربع ساعات في انتظار المواصلات، لدرجة أنّها قرّرت أن تستقل أيِّ خط مواصلات حتى تصل إلى مكان عملها (بالقطاعي)، وأشارت إلى أنها مستعدة لدفع أيِّ مبلغ، لأنّ الحكومة إذا فشلت في حل مشكلة مواطنيها فعليهم أن يَحلُّوا مشاكلهم بأنفسهم، وأضَافَت أنّ أزمة الوقود انعكست عليهم بشكلٍ واضحٍ، وأنّ المُواطنين يُعانون مُعاناة لا يعلم بها إلا الله في سبيل الحصول على مقعد داخل أي حافلة كبيرة أو صغيرة..! الكباري تكشف الأزمة أزمة الوقود بولاية الخرطوم، تكشفها إضافةً إلى تمدُّد الصفوف في محطات الوقود؛ مُلاحظة أُخرى ظاهرة جداً للعيان وهي حركة سير المركبات في الطرق وخُصُوصَاً (الكباري)، فمثلاً كوبري المك نمر الذي يربط بحري بالخرطوم، تتراص السيارات عبره يومياً في أوقات الذروة صباحاً ومساءً، بدءاً من المحطة الوسطى بحري وتستمر في زحفها حتى تقاطع شارع المك نمر مع الإسبتالية بالخرطوم.. أمّا كوبري أمدرمان القديم فتتلاصق العربات قبل اقترابها من اتحاد الفنانين وتستمر هكذا حتى مدخل الخرطوم من الناحية الغربية، حيث حدائق 6 أبريل، وَقِسْ على ذلك بقية الكباري..! لكن يبدو أنّ أزمة الوقود وَصَلَت أمس الأحد حَدّهَا الأقصى بدليل أنّ حركة العربات كانت مُنسابة لا توقِّفها إلا (الإستوبات) وما أكثرها في الخرطوم..! السفر إلى الولايات ولم تتأثّر حركة المواصلات الداخلية فقط بأزمة الوقود التي ضربت العاصمة الخرطوم مُجدّداً خلال اليومين المَاضيين، بل عانى من ويلاتها حتى المُسافرين إلى الولايات، حيث اضطر سكان ولايات دارفور الذين يسافرون من السوق الشعبي أمدرمان إلى المبيت لعدة أيام للظفر بتذكرة سفر، ويقول عثمان عيسى إنّه مسافر إلى أهله بالفاشر وظَلّ يبحث عن تَذكرة سفر بأيِّ ثمنٍ لكنه فشل في إيجادها، وقال ل (السوداني) إنّ منظر المُسافرين بموقف الشعبي يدعو للرثاء ويُؤكِّد أنّ أزمة البلد كبيرة.. والمسؤولون يُكابرون بأنّه لا توجد أزمة..! أما مُعاناة المُواطنين المُتوجِّهين إلى مُدن وقُرى شمال السودان فيُجسَّدها منظر المُسافرين بموقف شندي في الخرطوم بحري (شمبات)، فبينما يتزاحم الركاب أمام مكاتب التذاكر؛ تقف أعدادٌ مهولةٌ من البصات في صُفُوفٍ طويلةٍ بالطلمبات للتّزوُّد بالجازولين، فاضطر الركاب الى الاستنجاد بالحافلات الصغيرة والعربات الخاصة التي وجدت لها سُوقاً رائجةً في ظل نُدرة وجود البصات، وقال محمد حسن (كومسنجي) بالموقف إنّ المسافرين اضطروا لدفع (200) جنيه ثمناً لتذكرة عطبرة و(100) جنيه لشندي. مُعاناة أصحاب العربات ويقول محمد عبد الرازق سائق حافلة "رُوزَا" بخط المُصفاة بحري ل (السوداني): ظللنا نسمع للمسؤولين في التلفزيون ونقرأ تصريحاتهم يومياً في الصحف بأنه لا تُوجد أزمة في الوقود، بل هنالك من وصفها بأنّها (حاجة نفسية)، لكننا نرى بأعيننا صفوف العربات الخاصة والعامة تقف بالمئات أمام الطلمبات ابتداءً من مصفاة الجيلي حتى طلمبات حي الشعبية بشارع المعونة ببحري، وأشار إلى أنّ جميع الطلمبات تُوجد بها صُفُوف طويلة، والمصيبة الكبرى هي إذا جاء الوقود فإنه يخلص بسرعة هائلة، بمعنى أنّك تكون في الصف وعندما يأتي دورك يقال لك نفد الوقود ثم تنتظر بالساعات الطويلة مرةً أخرى!! وأكّد أنّ الأزمة تنعكس بسُرعة البرق على المواصلات ولا سيما أنّ السّيّارات تكون مُصطفة في الطلمبات كل ساعات النهار، وأضاف قائلاً: (أنا أول أمس وقفت في صفوف الوقود منذ صلاة الظهر وخرجت منه عند الساعة الثانية عشرة صباح اليوم التالي)، وطالب محمد، المسؤولين بوضع حَدٍّ لهذه الأزمة في أقرب وقتٍ مُمكنٍ، وأكّد أنّه يعرف صاحب مركبة خاصة اضطر أمس إلى شراء جالون الجازولين ب (300) جنيه من السوق الأسود، وقال عبد الرازق: إذا لم يتم حل هذه المشكلة خلال يومين أتوقّع أن يصل سعر الجالون إلى (500) جنيه. وأثناء جولتنا تحدّثنا مع عددٍ من المُواطنين الذين أكدوا تأثُّرهم الكبير من أزمة المواصلات خَاصّةً في الفترة المسائية التي ترتفع فيها (انتهازية) سَائقي المَركبات، حيث يَستغلون الوضع بزيادة التعرفة خَاصّةً أصحاب الحافلات الصغيرة ويرفعون قيمة التذكرة من 5 إلى 10 جنيهات!! أما عربات الأمجاد فترفع ثمن تذكرتها من (10) إلى (20) جنيهاً. جهات الاختصاص وبحسب إحصائية لوزير النفط والغاز عبد الرحمن عثمان، فإنَّ متوسط الإنتاج اليومي من الجازولين هذه الأيام يبلغ (8,800) طن/ اليوم والبنزين (3,650) طناً/ اليوم، وأنّ كفاءة خط الأنابيب (12) بوصة هي (3) آلاف طن/ اليوم جازولين والخط (8) بوصات (1900) طن/ اليوم من البنزين والفرق يتم ترحيله بالنقل البَرِّي. من ناحيته، قال رئيس شُعبة النفط مهندس إسحاق بشير ل (السوداني)، إنّ حل مُشكلة اختناقات الوقود الراهنة لن يتم إلا بتكثيف وزارة النفط لعملية استيراد المُشتقات بإدخال (3 - 4) بواخر دفعة واحدة ما بين الفينة والأخرى وتنشيط الدخول في الاتفاقيات النفطية مع الدول متوسطة الأجل لمدة تتراوح ما بين (3 - 4) أعوام لمنح المُشتقات النفطية والتي يُعتبر (90%) منها آجلة في السَّداد و(10%) يتم في السُّوق الفوري. وكان رئيس لجنة الطاقة بالبرلمان السماني الوسيلة قال ل (السوداني)، إنّه وحَسب المَعلومات الواردة من وزارة النفط، فإنّ هنالك عدداً من البواخر تنتظر حالياً إجراءات إصدار خطابات الضمان اللازمة لسداد المُشتقات المُستوردة، مُبيِّناً تسبُّب الإجراءات المالية الأخيرة في تأخير التخليص وانسياب المشتقات، وناشد رئيس لجنة الطاقة، وزارة المالية وبنك السودان بتوفير المَبالغ اللازمة بأَسرع ما يُمكن لا ستيراد المُشتقات وسَدّ الفجوة، وطالب الوسيلة، وزارة النفط بالسعي لتأمين كمياتٍ وافرةٍ إضافيةٍ من الوقود لمُقابلة فترة إغلاق مصفاة الخرطوم للصيانة ومُقابلة استهلاك فترة الصيف وموسم رمضان المقبل والموسم الزراعي والتي يكثر فيها الطلب على الطاقة والوقود، لافتاً للهلع الذي يُصيب المُواطنين من عدم توفر المحروقات والذي يزيد الطلب غير الحقيقي على المشتقات ويرفع أسعارها ويتسبّب في الندرة، مُشيراً إلى أنّ ذلك أجبر الوزارة على ضخ كمياتٍ إضافيةٍ بنسبة تتراوح ما بين (30 – 40%) من الكميّات المُعتادة، واصفاً الأزمة الراهنة في المُشتقات بالعَابرَة. أخيراً ومع وضوح معالم هذه الأزمة إلا أنّ وزير الدولة بالنفط د. سعد الدين البشرى يصرُّ على أنّ السبب الرئيس في أزمة الوقود ليس إطفاء المصفاة للصيانة، وإنّما لهلع المُواطنين من الندرة والذي يرفع من وتيرة شرائهم للوقود بكمياتٍ كبيرةٍ وتخزينه ممّا يخلق طلباً عالياً عليه وندرة فيه ويرفع معدّلات الشراء من السوق الأسود، لكن الرجل عاد ليُطالب بنك السودان المركزي بالتعاون مع الوزارة في سُرعة إصدار خطابات الضمان للاستيراد، لافتاً لاستمرار خُطة الوزارة في استيراد المُشتقات لحين انجلاء المُشكلة. من المُحررين كل أصحاب الطلمبات الذين حاولنا استنطاقهم رفضوا رفضاً باتاً الحديث لنا بحُجة أنّهم (ممنوعون) من الكلام نهائياً..!