والفنجري في المخيلة الشعبية السودانية هو الرجل صاحب المروءة والشهامة والكرم الخدوم وفي بحثي عن اصل الكلمة وجدت لها مترادفات في الروسية والفرنسية مما يدل على أن هنالك شخصيات مشابهة عند امم اخرى. ومن أشهر من تسمى بهذا الاسم الدكتور احمد شوقي الفنجري وهو طبيب مصري ومفكر اسلامي اشتهر بالتجديد في التراث الإسلامي كما ان هنالك أسرة سودانية في العاصمة تسمت أيضا بهذا الاسم. أول شخصية فنجرية هو صديق لي قصته طريفة وفيها موعظة ظريفة تنبه الا يتمادى الانسان في الفنجرة والا حدث مالا يحمد عقباه. تحزم هذا الشاب وتلزم ويمم وجهه شطر دول الخليج عندما تدفقت أموال البترول مدرارا وتزغللت العيون وكركبت البطون وذلك كما فعل الآلاف غيره من الشباب. بقي زمانا يجمع المال ويحزم الريال في حزم ورزم حتى جاءت الإجازة السنوية تسعى فهرول للسوق يشتري الملابس والاحذية والعطور للاهل والحبان وكل (أصحاب الحقوق المجاورة) ولم ينس أن يخطر أصحابه رفاق الغربة بمغادرته للوطن فزودوه بدورهم بما لذ وطاب للاهل والأصحاب هدايا وعطايا. غادر في حفظ الله ورعايته فاستقبلته الحسان بالزغاريد والاحضان وهلل الكبار وكبروا للعودة بالسلامة. قضى أياما لاتنسى والذبائح تنحر والعوازيم تأتي من كل حدب وصوب وبعد أن هدأ قليلا و(ذهب الظمأ وابتلت العروق) فتح الشنط وبدأ التوزيع للزوجة والأبناء أولا ثم لكل من يربطه به رحم أو صلة. في غمرة الهوشة واللوشة اختلط حقه مع حق غيره فوزع حق غيره لكل من لم ينل نصيبا في (الصرفة الأولى) ولم يفق ويستشعر فداحة ما فعل الا بعد أن أصبحت شنط أصدقائه ومرسولاتهم أثرا بعد عين فماذا يفعل الآن بعد أن (حدس ما حدس)؟ لم يجد ما يقوله للاصحاب في الغربة بعد أن رجع الا التعلل بأن الشنط قد ضاعت في الطيارة وذلك بعد أن سبك العبارة وطبخ الكذبة على نار هادئة. المهم انه التزم بالتعويض فقبل البعض ولكن الغالبية تعوضت الله في ما فقدت. جلس زمانا طويلا يعوض ما اهدره في الهوشة وما وزعه في اللوشة فكان ذلك درسا لن ينساه ابدا. الفنجري نمبر تو كان رجلا مكمل الطيبة وكل الصفات الحبيبة رجع بعد أن شبع أو هكذا تخيل فقرر أن يرتاح وأن يعهد لأخيه الاصغر إدارة ماله وينام ملء جفونه عن شواردها بعد التعب والإرهاق فى بلاد (الواق واق). وضع ماله في شنطة خبأها عن عيون البشر الا عيون أخيه الذي عهد اليه بتشغيل المال في الحلال ثم لزم السرير وتغطى بالحرير ونام نوم العوافي وعندما كان يصحو كان يمسك الريموت فيحوص ويلوص بين القنوات يتتبع الخبارات في القنوات الفضائية. كان الاخ ممن يحبون الحياة والهيصة و(الترم ترم) فكان يعمل قليلا ويبتهج كثيرا وكان مقاسه اليومي مساء دجاجة محمرة رائحتها تفوح من أمتار بعيدة وتوابعها من المبهجات والمشهيات والمقبلات. استمر الحال على هذا المنوال زمانا لم يطل ولم يفق صاحبنا الا بعد أن وجد الاخ الاصغر أن ما في الشنطة قد تبخر من العيون وبقيت الديون على الرقاب. هب صاحبنا مذعورا من نومه يبحث عن شقا العمر ولكن الوقت كان قد تأخر وأن المال قد تبخر ولم تبق الا الذكريات فجلس يلوم نفسه انه ترك العنان لأخيه يفعل ما يريد بحجة أن (ضهر ابوك ما بجيب عدو) ولكن الاخ وإن كان لم يكن عدوا بالمعنى الصحيح للكلمة ولكنه قد أتلف مال أخيه وجعله ملوما محسورا. وجد صديقنا الطيب ولكن بعد فوات الأوان أن الفنجرة لها حدود وانه كان من الواجب أن يعمل بحكمة الجدود التي تقول (حرص -بتشديد الراء -ولا تخون – بتشديد الواو). القصص عن من اتصف بهذه الصفة الحميدة لا تنتهي وقد افتخر شاعر الهمباتة الذي أسموه الفنجري على صفته قائلا ومفتخرا بقومه: نحن الريدنا راقد بالدميك ومشون ونحن ايدينا يا ام خداد حقيقه يسون ونحن الفي محكر الضيق وجوهنا يضون وديدان عركة اليوم الصقورا يخون نأتي لفنجري آخر(دقش) افريقيا خلافا للمعتاد ولكنه أصاب منها خيرا كثيرا ومالا وفيرا لا يحصى ولا يعد. جلس زمانا حتى اطمأن على سير العمل ورسوخ قدمه في السوق فقرر استقدام ابنه الأكبر حتى يقوم مقامه وينوب عنه تحسبا لنوائب الدهر. جاء الابن بلا خبرة ولا يحزنون وقد كان عاطلا من الموهبة فجلس يتعلم ولا يتكلم وقد كان الواجب أن يسأل ويستفسر حتى يلم بأسرار السوق ومنحنياته ولكنه لم يفعل لصغر السن وقلة التجربة. ما زاد الطين بلة أن الوالد انخدع بمظهر ابنه الهادئ وصمته الرزين فتخيل أن الابن قد تعلم الصنعة و(نقش) أسرارها فغادر إلى الديار يقابل الاصحاب ويستعيد الذكريات والحكايات في مراتع الصبا والشباب.عندما رجع كانت الطامة الكبرى والصدمة العظيمة أن الابن بقلة الخبرة والتجربة قد تبخر منه المال وفقد العقار وأصبح الحال لا يسر عدوا ولا صديقا. ولكن لا ينفع الندم فقد كان ما كان وعليه أن يبدأ من جديد. وهكذا فان شخصية الفنجري هنا التي طغت على الأب قد كانت نتيجتها سلبية وارجعته للمربع الأول. فنجري من الذين اصطلح على تسميتهم ب(الجلابة) وهم كل من يعمل في السمسرة سواء أكانت في العقار أو السيارات أو مواد البناء أو غير ذلك من أنواع التجارة. كان المال يجري من بين يديه ومن خلفه فكان ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر ولكن كانت عندة نقطة ضعف واحدة ولكنها كانت خطيرة أطاحت به من عليائه إذ أنه كان كلما سمع صوت الدلوكة و(قونة) تغني: يا ود الأصول يا تلب الحمول انا غنيت بقول وعزيت الرسول لي عريسنا الفنجري اقول ما أن يسمع صاحبنا هذا الصوت الرخيم حتى يسرع يكاد يطير وما أن يصل حتى يفرغ كل ما في جيوبه على رأس (القونة) وسط زغاريد الحسان واصوات الاستحسان فلا ينتبه الا وقد صارت جيوبه قاعا صفصفا خالية من كل سوء. فيرجع البيت وقد ندم أشد الندم على ضياع حصيلة اليوم في (الفارغة ومقدوده) في كل هذه الأحوال فان تجمع الأصحاب حول الفنجري ما يلبث أن يضمحل بمجرد إحساسهم بأن المال عنده قد نبض ولم يتبق له إلا الحسرة والندم فلذلك عليه أن يتمثل بقول الشاعر شفيق المصري الذي لقبوه ب (ابو نواس الجديد): ومن لم يكن لي والزمان شرم برم فلا خير فيه والزمان ترللي وهكذا عزيزي القارئ كن فنجرياً ولكن بتحفظ فان اهلاك المال في غير محله يورث الندامة فعليك بطريق السلامة وحسن التدبير وسلامتكم. ( المقال اهديه للاخ محمد الجيلي العاقب الذي نبهني لعادة النقطة التي استفحلت مؤخراً).