يقول رئيس كمبوديا الأسبق نوردوم سيهانوك إنه تعلم درسا من الأزمات التي واجهته "لا تعط ثقتك لغبي.. ولا تعط ثقتك لضعيف. تتصور أنك سوف تمسك به دائما.. ولكن الحقيقة أن غيرك أيضا سوف يمسك به ويأخذه منك". مشكلة الدولة في السودان منذ أول تمرد عام 1955م هي الثقة، وهي التي تظل تشوه كل الحال السياسي رغم الاستقرار الهش في بعض الفترات مرورا بالتناسل الكارثي لتمردات الجنوب قبل الانفصال، ثم تمردات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. تلك الثقة ذهبت مع الريح في السلطات العسكرية والديموقراطية، ومعها تشوهت الدولة وفقدت هيبتها التي وصلت في مرحلتها الانتقالية الحالية إلى أسوأ حالاتها، وذلك وضع تضيع فيه أيضا الهيبة ويغيب حضور السلطة والقانون والنظام. إذا عاقبت السلطة العسكرية المواطنين الذين يرغبون بشدة في الدولة المدنية لأنهم يصيحون بالمدنية، فذلك يعني ألا هيبة للدولة أو العسكرية العتيدة بكل نظامها والتزامها، وحينها يتم ارتكاب أسوأ رذائل ممارسة السلطة بالانتقام من المواطنين المدنيين. لا يمنح السلطة هيبتها إلا الثقة فيها والتزامها بالقانون وعدم تجزئة القيمة فيه، أي توفر العدالة التي يدعمها القانون، عسكري أو مدني، يحاسب ويحاكم ويحفظ الحقوق، أما أن يمارس العسكر الانتقام والتشفّي والضغط على المدنيين في حياتهم، معاشا وأمنا فذلك يتنزل بالهيبة العسكرية إلى مستوى الإجرام والخيانة. تلك الحالة التي لا يأمن فيها الناس على أنفسهم نتيجة لفراغ متعمد للأجهزة الأمنية من جهة، وعدم كفاءة من جهة أخرى، وفي الحالين تخسر الدولة السودانية لأن التضييع لا يمكن أن يكون وسيلة أو أسلوبا صحيحا لبناء منظومة تقود الدولة بعيدا عن طموحات وأشواق السودانيين.ينفجر الوضع الأمني على الصعد القبلية والمجتمعية وحتى الفردية حيث تمارس عصابات وأفراد خارج القانون انتهاكات جسيمة بالحق الأمني للمواطنين لأن الدولة القائمة غير مسؤولة وليس لديها التزامات أخلاقية أو وطنية تجاه الوطن مواطنيه. ما يحدث من تفلتات أمنية في كثير من بقاع السودان ليس جريمة المتفلتين وحدهم، وإنما بالضرورة جريمة الدولة التي يقودها غير مؤتمنين أو ليس لديهم التزام حقيقي تجاه الناس، فالحكم مسؤولية وليس ميزة أو وسيلة لتصفية حسابات. الجماعة الحاكمة، مدنية أو عسكرية، ينبغي أن تتوقف عن الاستهتار والسذاجة في الضغط على المواطنين للقبول بمن لديهم التزامات لا تخص الوطن والمواطنين، وأمام نظر هذه الحكومة تضعف قدرات الناس الشرائية ولا يقوون على العيش حيث يزداد التضخم وتنهار العملة الوطنية والاقتصاد وهم يحكمون. الحكم في مثل هذه الظروف جريمة في السياق الأخلاقي والوطني والسياسي، ومن لم يستطع أن يتخلص من مخاوفه ويتنزه عن سوءاته وقلة حيلته فليس بالضرورة أن يتحول إلى غبي أو ضعيف تذهب الثقة فيه إلى بئر سحيق. تزداد الانهيارات الأمنية وتصبح الدولة مأساة والسلطة كارثة وعبئا ثقيلا على المدنيين، ليس لضيق الخيارات الشعبية، وإنما ضيق الأفق الحاكم الذي لا يستطيع أو لا يرغب في السيطرة على الأوضاع، والسلام الحقيقي ليس مع متمردين يمكن أن ينشأوا كالفطريات في كل أنحاء السودان وإنما في أمان الناس أولا، فلا قيمة لسلام مع تجار حروب فيما لا يجد الأمان من لم تحدثهم أنفسهم بالخروج على الدولة وحمل السلاح طلبا للمصالح. فقدان الثقة وهيبة الدولة يعني مشاركة جماعية لكل الجماعة الحاكمة في ممارسة السوء بكل قبحه، وذلك حتما يزيد متاعب البلاد والعباد ويعيد إنتاج الأزمات فيما تتدهور الأوضاع الاقتصادية وتحدث مزيد من الافتراقات السياسية ليظل التاريخ يعيد نفسه كلما واصل الحاكمون الاجتهاد الساذج في التعاطي مع الأزمات وتضخيمها بدلا من تصغيرها واحتوائها أو السيطرة عليها. أسلوب الضغط الأمني والاقتصادي الحالي لن يقود إلا إلى مزيد من التدهور وينبغي التوقف عنه، لأنه عقيم بحيث يجعل الأمور تخرج عن السيطرة في ظل عدم القراءة الكافية لتحولات وتبدلات المشهد السياسي والاقتصادي على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، ومن كان بلا خطيئة من الحاكمين فليرمي كل عديم كفاءة بحجر حتى يعيد الثقة والهيبة لدولة لا يبدو أن لديها الكثير من ذلك.