النمو وسعر الصرف والتضخم.. مؤشرات واتجاهات المؤشرات الأولية تظهر أن موازنة العام 2018 فشلت على الأقل حتى الآن في تحقيق النتائج المرجوة سواء عبر خفض التضخم ليصل إلى 19.5% بنهاية العام الحالي من 34.1% في نهاية 2017، وتحقيق معدل نمو بواقع 4% مقابل 4.4% قبل عام. وتراجع الإنتاج على عكس ما هو مخطط، فعلى سبيل المثال كشف الزراعة عن تدنٍ مريع في إنتاج القمح فى الموسم الشتوي (2017- 2018)، بسبب المتغيرات الاقتصادية المتسارعة خاصة أسعار مدخلات الإنتاج، والتي أفرزت بعض السلبيات وبلغت المساحة المزروعة نحو (479) ألف فدان بنسبة نقصان بلغت (27%). وليس بعيداً عما سبق ضربت موجة من الحرائق محالج الأقطان مسببة خسائر بملايين الجنيهات. أما فيما يتعلق بخطط الحكومة لرفع الإنتاج النفطي فلم تظهر نتاج ملموسة لا سيما مع تنامي أزمة توفر الوقود التي تزامنت مع صيانة المصفاة. وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في السودان أن التضخم ارتفع إلى 57.65% على أساس سنوي في إبريل من 55.60% في الشهر السابق، وسط زيادات في أسعار الغذاء واستمرار نقص في الوقود. واصلت الأسعار الصعود مع هبوط قيمة الجنيه السوداني مجدداً في السوق السوداء، رغم إجراءات الحكومة للسيطرة على الإنفاق وتقييد السيولة. المشهد .. قراءة وتقييم المحلل السياسي د. الحاج حمد ينحو إلى أن سوء إدارة أجهزة الدولة للموارد المالية يعد من العوامل الرئيسية المؤثرة في التدهور الاقتصادي مما أدى بدوره لغياب الدينمايكية في إدارة العملية السياسية وخلق رتابة مما عزز التكلس والركود، مضيفاً:"باتت الأولوية بالنسبة للنظام الصرف على الجوانب الإدارية والأمنية"، فيما تم وضع كل البيض في سلة المساعدات الخارجية بعد رفع العقوبات الأمريكية. ويرى حمد أن المشكلة لا ترتبط بوضع الخطط والموازنات بقدر ما ترتبط بالسياسات العامة لافتاً إلى أن الحكومة جعلت أولوية الصرف لقطاعات غير منتجة – قطاعات إدارية وأمنية - مما خلق جهازاً إدارياً وأمنياً متضخماً يلتهم النسبة الأكبر من الموازنة لاعتبارات تتعلق بضمان استمرارية النظام عبر التسويات السياسية والترتيبات الأمنية. ويدلل حمد على حديثه بالإشارة لنقطتين الأولى تتعلق بتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني والتركيز على مسألة توظيف ومكافأة المشاركين أكثر من الالتفات لتوسيع الفضاء المدني عبر تعزيز الحريات وتعديل القوانين المتعارضة مع الدستور، وثانيها تتعلق بالموازنة المتخمة بهيكل إداري مترهل. ويقول حمد:"اعتمدت الموازنة على التوسع في الجبايات وهو ما خفض الإنتاج ونفر المستثمرين وأدى لعزل الحكومة لضعف الخدمات". من جهته يرى الخبير الاستراتيجي د. عصام بطران أن المشكلة ليس في فحوى الخطة إنما في التقديرات التي بنيت عليها الخطة خاصة فيما يخص التقديرات الإيجابية المتوقع إحرازها في البيئة الخارجية لما بعد مرحلة رفع الحصار. ويضيف بطران أن التوقعات التي بنيت عليها الموازنة كانت تتطلع للاستفادة من الفرص التي يتيحها رفع العقوبات الأمريكية مثل انسياب الواردات وتحفيز الصادرات وانفتاح منافذ التمويل العالمية وهو ما لم يحدث مضيفاً أن :"العصا لا تزال مرفوعة ولم تظهر الجزرة". ويشير بطران إلى أن الخطط البديلة التي طرحتها الحكومة خففت من مترتبات الهزة الارتدادية نتيجة عدم صدقية توقعات خطة موازنة العام 2018م لافتاً إلى أن سعر الصرف للجنيه أمام العملات الأخرى كان مرشحاً ليصل لحدود 200 جنيه ما لم تكن الحكومة قد أخذت في حسبانها توقعات عدم وفاء المجتمع الدولي بتعهداته بعد فصل جنوب السودان ومرحلة ما بعد الحوار الوطني ومجهودات الحكومة الإيجابية في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. بطران يعتبر أن الاقتصاد يمثل عاملاً أساسياً في التفاف الناس حول الحكومة لاعتبارات اجتماعية واستراتيجية وسياسية وإحراز تقدم في مجال الاقتصاد يصحبه مزيد من السند والتأييد لسياسات الدولة. ظل التحدي الرئيسي الذي يواجه الاقتصاد السوداني يتعلق بسعر الصرف، حيث لم تظهر آثار رفع العقوبات الأمريكية على الاقتصاد السوداني حتى الآن، بسبب أن البنوك العالمية ما زالت تتحفظ في التعامل مع المصارف السودانية. وظلت المصارف الأمريكية والعالمية مترددة إزاء تمويل عمليات استثمارية في بلد ما يزال في لائحة الدول الراعية للإرهاب، صحيح أنه لا يوجد عائق قانوني يوقف تعاملات المصارف الأمريكية مع السودان ولكن لائحة الدول الراعية للإرهاب تجعلهم مترددين. وفي الأشهر القليلة الماضية، أظهر الجنيه علامات على التعافي بعد خفض قيمته مرتين بشكل حاد في يناير، وهو ما أضعف سعر الصرف الرسمي للعملة إلى حوالي 31.5 جنيه مقابل الدولار، من 6.7 جنيه في ديسمبر كانون الأول الماضي. ورغم ذلك، فإنه مع سعي الحكومة إلى تعزيز سعر الصرف، وتضييق تدريجي لنطاق تداول العملة في البنوك، فإن التجار في السوق السوداء دفعوا قيمة الجنيه إلى مزيد من الانخفاض. ويجري تداول العملة الآن عند 29.27 جنيه في المتوسط مقابل الدولار في البنوك، لكن تجاراً يقولون إنهم باعوا الدولار بحوالي 37 جنيهاً. بشكل عام تبدو الإجراءات الحكومية بمثابة مسكنات، وقد وجدت الإجراءات الأخيرة انتقادات حتى من داخل قبة البرلمان باعتبار أن محاربة السوق الموازي تستلزم وجود احتياطيات مقدرة من النقد الأجنبي تدعم تدخل الحكومة في السوق، وقد أثبتت التجربة العملية نهاية ديسمبر من العام 2015 أن مثل هذه الإجراءات تقود لنتائج عكسية بما في ذلك ارتفاع نسبة التضخم -كان معدل التضخم 12.6% ثم وصل إلى 57.65%- والآن الحكومة أمام ذات الأزمة ولديها مساران الأول أن تحارب التضخم عبر تقليص الإنفاق العام أو رفع الأسعار وتحميل المواطن الزيادة السعرية ويبدو أن المالية أرادت أن تجرب المجرب هذه المرة أيضاً متوقعة أن تصل لنتيجة مختلفة. رفع العقوبات الأمريكية..حبر على الورق تشير تقديرات المراقبين إلى أن آثار الحصار الأمريكي الذي تم رفعه في أكتوبر الماضي لن تزول إلا بعد وقت طويل وعمل مدروس على المدى القصير والمتوسط والبعيد، وتظهر التحليلات أن هناك عدم تفاعل من المصارف العالمية مع قرار رفع الحظر، ويعود ذلك لسيناريوهين:" أولهما أن يكون هناك قصور من جانب وزارة المالية وبنك السودان في التحرك دولياً نحو تلك المصارف لمناقشة هذا الأمر خاصة أن السودان بحسب وزير المالية يملك خطاباً من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بوزارة الخزانة الأمريكية (أوفاك) يفيد بأن السودان متاح له التعامل مع كل المصارف العالمية، أو أن يكون رفع الحصار الأمريكي مجرد شعار فقط وأن البنوك العالمية ما تزال تترقب خطوات أخرى من الإدارة الأمريكية". في أحيان كثيرة يبدو من الخطأ جعل العقوبات الأمريكية شماعة يعلق عليها فشل سياسات الحكومة، فالأزمة الاقتصادية نتاج لعدد من الأسباب أولها عدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الكلي الناتج عن التوسع المستمر عبر الموازنة العامة للدولة في الإنفاق الحكومي التشغيلي غير الداعم للنمو، الذي زاد بأكثر من 100% منذ انفصال الجنوب إلى جانب الصرف خارج الموازنة على الجوانب العسكرية والأمنية. ومن الواضح أن الحكومة لم تتكيف مع انفصال الجنوب بالشكل المطلوب، حيث زاد الصرف على إجمالي الإيرادات والمنح بحوالي 19% (11 مليار جنيه) في العام المالي 2016م حسب موازنة العام المالي 2017م، و 18% (7 مليارات جنيه) في النصف الأول من العام المالي 2017م وفقاً للاحصائيات الرسمية. وهو ما يعني أن الحكومة تقترض لتمويل العجز التشغيلي والإنفاق على التنمية، ما يجعل من الأخيرة مجرد شعار سياسي. علاوة على ذلك فإن العامل الثاني للازمة يرتبط بالتراجع المتواصل لأداء القطاعات الحقيقية الرئيسية الزراعة والصناعة خلال الأعوام الثمانية الماضية، التي شهدت نمواً سلبياً بلغ متوسط معدله السنوي حوالي 3%. هذا أدى إلى ظهور اختناقات هائلة في الإنتاج المحلي زادت من الاعتماد على الاستيراد، خاصة الغذائي، وقلصت من حجم الصادرات، ما أدى إلى المزيد من الطلب على النقد الأجنبي، وهذا قاد بدوره إلى تنامي عجز الميزان التجاري الذي ارتفع من 300 مليون دولار في عام 2011م، إلى أكثر من أربعة مليار في عام 2016م. في الأثناء هناك عدة مخاطر سلبية تخيم على الآفاق الاقتصادية، لا سيما في حال عدم إحراز تحسن ملموس في خلق فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة وهو ما يهدد بتفاقم الاحتكاكات الاجتماعية والسياسية. الخبير الاستراتيجي د. عصام بطران يعتبر أن الاقتصاد يمثل عاملاً أساسياً في التفاف الناس حول الحكومة لاعتبارات اجتماعية واستراتيجية وسياسية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عدداً من التحليلات الغربية أشارت إلى أن إزالة العقوبات لن تفعل شيئاً يذكر لتحسين الاقتصاد أو تحسين حياة معظم السودانيين. ما لم تلتزم الحكومة السودانية بإصلاحات اقتصادية كبيرة، لا سيما مع إنفاقها الضخم على (الأمن والسلام) جنباً إلى جنب مع نقص الاستثمار في الرعاية الصحية والإسكان والتعليم والبنية التحتية. وقد ظهر ذلك جلياً في تصريحات منسوبة لسفير الاتحاد الأوروبي بالخرطوم، جان ميشيل دايموند نهاية إبريل الماضي بعد لقائه الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي. وقد عزا الاتحاد الأوروبي توقفه عن مساعدة السودان اقتصادياً لتعثر عملية الإصلاح السياسي وعدم تحقق الوفاق بين الأطراف السياسية، إلى جانب عدم توافق السياسات والقوانين الاقتصادية المحلية مع نظيرتها العالمية. وتوقع الدبلوماسي الأوروبي بأن "تزداد الأوضاع خطورة خلال الصيف القادم، استناداً على زيادة نسبة التضخم وارتفاع أسعار السلع الضرورية وشح المواد البترولية وخاصة بالولايات وبما هو أسوأ من العاصمة". وبرر سفير الاتحاد الأوروبي عدم تقديم المساعدة إلى عاملين، أولهما تعثر عملية الإصلاح السياسي وتحقيق الوفاق الوطني بين كافة الأطراف السياسية، وعدم توافق السياسات والقوانين الاقتصادية المحلية مع السياسات والقوانين العالمية.