تعتبر ودمدني المدينة الثانية في السودان من حيث الكثافة السكانية والأهمية الاقتصادية وقد استمدت اسمها من العارف بالله الشيخ محمد مدنى السني ولقب بالسني لانه كان متمسكا بالسنة المحمدية قولا وفعلا . والده مدفون ب (الداخلة) في صعيد مصر وهو من العقليين وامه ( الجاز بت الهميم ود عبد الصادق الركابي) وقد ولد بمنطقة ( المندره ) جهة المفازة. استقر الشيخ مدني السني في المنطقة التي عرفت باسمة فيما بعد فالتف حوله المريدون والمحبون ينهلون منه العلوم الشرعية والأحكام الفقهية حتى تطورت المنطقة وأصبحت بشكلها الحالي يتوسطها مرقده الكريم. عندما تخرجت من الجامعة تقدمت بطلب لوزارة التربية والتعليم لاستيعابي بالمدارس الثانوية وكانت آنذاك تدار مركزيا من الرئاسة في الخرطوم. قابلت المسؤول عن التعليم الثانوي وحولني لقسم التعيينات. اقترحوا علي في البداية أن أذهب للنهود ولكنني رفضت الفكرة برغم إغراء الغرب بطبيعته الخلابة لظروف أسرية قاهرة فاقترحوا علي مدرسة ( النيل الأزرق الثانوية ) بود مدني فوافقت على الفور لقربها من موطني العيلفون ولوجود كثير من اهلي هناك. تزودت بالارشادات وبخطاب التعيين ثم توجهت فورا لمقر عملي متوكلا على الله راجيا منه أن يوفقني في عملي الجديد. وجدت كوكبة نيرة من الأساتذة المشرفين على الداخليات فقد كانت المدرسة تستوعب اعدادا كبيرة من أبناء قرى الجزيرة المتاخمة لود مدني. وجدتهم قد هيأوا لي غرفة جميلة بها كل وسائل الراحة فآويت لفراشي مبكرا استعدادا لاستهلال عملي الجديد بنشاط وهمة. في الصباح توجهت لمكتب المدير( الأستاذ الجيلي احمد المكي ) وكان رجلا فاضلا كريما من أسر مدني العريقة . رحب بي ترحيبا حارا خصوصا بعد أن عرف اهلي واصلي وفصلي. بدأت أول حصة لي بأن عرفت الطلاب بأسمي وطلبت منهم تعريف أنفسهم واحدا واحدا. جاء الدور على طالب قدم نفسه باسم منطقة تقع بالقرب من العيلفون فعلقت على ذلك فورا ( يعني انت عربي ) فانفجر الفصل بالضحك والسخرية من ( العربي ) الذي انحشر وسطهم وهم أبناء المدينة والحضر. علت وجه الطالب مسحة غضب لم يستطع أن يخفيها وقد ظل على هذه الحالة حتى نهاية الحصة. قمت باستدعاء هذا الطالب واصطحبته للمكتب وهنالك فاجأته قائلا( ياخي ما تزعل انا عربي زيك من العيلفون ) فانفرجت اساريره واعتبر كلامي في الفصل مزاحا وأصبح صديقي يحكي لي همومه ومشاكله الخاصة. كان هذا أول مطب اجتزته بنجاح ولكن سرعان ما توالت المطبات واحدا بعد الآخر كل واحد اصعب من سابقه. كنت اقضي الويك اند في العيلفون أو في منزل إحدى الخالات قرب نادي الرابطة بمدينة وكانت سيدة فاضلة طيب الله ثراها. في إحدى الجمع وصلت المدرسة منتشيا بعد أن استمتعت بعطلة نهاية الأسبوع لاجد رئيس الداخلية في انتظاري وقد علت وجهه علامات الاضطراب والجدية. اخبرني في كلمات مقتضبة أن طالبا ذهب للشرطة واشتكى زميلا له بحجة أنه سرق منه( ربع جنيه) وقد كان مبلغا محترما آنذاك يمكن أن تشتري به قميصا أو حذاء. يممت وجهي شطر مركز شرطة الأوسط في وسط البلد وبدأت اجراءات الضمانة وفجأة دخلت المركز مجموعة من النسوة وقد احكمن قبضتهن على شاب نحيف صغير السن.روين في صوت واحد للشرطي أن هذا ( الولد ) قد احتال عليهن في مبلغ من المال. دون الشرطي البلاغ ثم طلب من الشاب الصغير الذي كان يرتعد من الخوف أن يتصل بأحد أقربائه ليضمنه حيث انه من الخطورة بمكان أن يودعه الحراسة مع المجرمين والنصابين و اللصوص. التفت الشاب وقال بصوت خفيض ( يضمني الأستاذ هشام ) . تفاجأت تماما ولم استطع التعليق فواصل قائلا( يا استاذ انا أحد طلبتك وأقيم معك بالداخلية) ضحكت لهذه المفارقة الغريبة وقمت بإجراءات الضمان ثم خرجت من المركز وانا اجرجر خلفي اثنين من المحتالين الصغار الذين رمت بهما الاقدار في هذا الموقف السخيف. في الطريق ألقيت عليهما محاضرة في الاخلاق والسلوك القويم وقد اكتفيا بالاستماع دون التعليق وهكذا كان هذا هو المطب الثاني في سكة الدقداق التي يبدو انها ستكون طويلة ومرهقة.كان لي صديق من أبناء رفاعة هو الاخ ابوعبيدة الصاوي الدرديري وقد كان قريبا إلى نفسي وصديقا صدوقا. دعاني ابوعبيدة لزواج شقيقه في رفاعة فرأيت انها فرصة لقضاء ليلة مبهجة استمتع فيها بالطرب والغناء و مشاهدة حسناوات رفاعة وهن يستعرضن مهاراتهن في الرقص وقد كانت فعلا ( ليله ما منظور مثيلا ). في الصباح الباكر يممت وجهي شطر مدني ومدرسة النيل الأزرق الثانوية فوصلتها منتصف الحصة الأولى. ما أن استقريت في المكتب الا وقد جاءني فراش الناظر يحمل استجوابا مطبوعا عن أسباب تأخري عن الحضور للمدرسة في الميعاد. استعذت بالله من الشيطان الرجيم وكتبت ردا مقنعا حملته وذهبت لمكتب الناظر بعد أن دخلت المكتب برجلي اليمني حسب وصية الوالدة حفظها الله. قرأ الناظر الورقة بعناية ثم مزقها ولم يتفوه بكلمة واحدة بل حدجني بنظرة عميقة فيها تحذير شديد اللهجة. شكرته ثم أسرعت خارجا وانا احمد الله على السلامة واتلفت خلفي خوفا من أن يغير رأيه فيستدعيني مرة اخرة. عندما كنت اقضي الويك اند في منزل خالتي بمدني كنت اسهر واسمر مع ابنها الأكبر وقد كان رجلا طريفا ظريفا لطيفا لا تمله برغم أن به ( ربطة ) في الكلام تعطل استرساله وسلاسته في الحكاوي. كان هذا الصديق محبا للغناء والطرب وقد كان يحلي الجلسة بركوردر يصدح لنا بالاغاني العذبة والألحان الشجية. كان يعجب على وجه الخصوص بفنان كنت اسمعه لاول مرة وكان بالفعل صوتا شجيا ورخيما. سألته عن اسمه فقال لي انه الفنان ( ود العبدليبه ) وبرغم تبحري في عالم الغناء والطرب فانني لم أسمع بفنان اسمه ( ود العبدليبة ) من قبل ولا من بعد .دخلنا في مغالطات ومناقشات طويلة ولكنه كان مصرا على رأيه وبرغم انني سألت كل من اعرفه عن الفنان ( ود العبدليبة ) فانني لم أجد من يدلني عليه والآن اكرر النداء لمن يعرف هذا الفنان أن يدلني على مكانه. مالو أعياه النضال بدني وروحي ليه مشتهيه ود مدني ليت حظي يسمح ويسعدني طوفه فد يوم في ربوع مدني كلما استمع لهذه الأغنية الشجية بصوت الفنان العذب محمد الامين تحلق بي الأحاسيس والمشاعر وتحملني بعيدا لايام حلوة قضيتها في بلد كريمة وأهل كرام فأتمنى لو عدنا وعادت الأيام. وسلامتكم