أول الحاضرين في الموعد كان وفد حكومة جوبا بأبرز نجومه فكان وزير مجلس الوزراء رئيس الوفد مارتن ايليا يترجل من عربات رئاسة الجمهورية أمام قاعة التفاوض تتبعه عربات بقية الوفد، فكان مستشار الرئيس سلفاكير للشؤون الأمنية توت قلواك، ووزير الكهرباء د.ضيو ماطوك، والمتحدث باسم حكومة جوبا والوفد وزير الإعلام مايكل ماكوي. لم يمض على بقاء الوفد الحكومي طويلا حتى كان وفد المعارضة الجنوبية المسلحة بزعامة د.رياك مشار يصل إلى مقر المفاوضات بدوره، بيد أن الوساطة كانت لمشار بالمرصاد، فانزوت به في قاعات أُخرى بعيدة عن قاعات التفاوض حيث كان في انتظاره وزير الدفاع عوض بن عوف ومدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش، ليرشح أن ثمة اجتماع بين الثلاثة يحمل في طياته جديدا، غير أن المتابعين للملف أدركوا أن الاجتماع يعني أن ثمة تعديلا غير متفق عليه برز إلى الوجود من فعل المتفاوضين، ليكون السؤال: ما هو؟ البعثات الدبلوماسية شكلت بدورها حضورا منذ الصباح الباكر بل وقبل حضور الوفود بوقت كافٍ. ورصدت (السوداني) حضورا بارزا للبعثات الدبلوماسية العربية والأوروبية والقائم بالأعمال الأمريكي في ظل ندرة الحضور الإفريقي. مشهد آخر سطرته كواليس المفاوضات وترجمه التنسيق الواضح بين مؤسسات الدولة خلال امتحان مفاوضات فرقاء الجنوب، فكانت رئاسة الجمهورية ممثلة في نائب الأمين العام السفير جمال الشيخ ووزارة الخارجية عبر الوزير الدرديري محمد أحمد وسفيره في جنوب السودان عادل إبراهيم بالإضافة إلى مدير إدارة السودان ودول الجوار السفير عوض الكريم الريح، ووزارة الدفاع بوزيرها عوض بن عوف ورئيس هيئة الاستخبارات جمال عمر وجنرالاته من المؤسسة العسكرية بالإضافة إلى جهاز الأمن والمخابرات بمديره صلاح قوش، يتبادلون الأدوار رغم عدم وجود رصيد من خبرة لإدارة المفاوضات، لينجحوا أمس في تجاوز أخطر المطبات. مشار في قبضة قوش الوقت يمضي والموعد المضروب للتوقيع ينقضي، والإحباط يتسلل مرة أخرى والمخاوف تعلو.. والهمسات تأخذ في الارتفاع رويدا رويدا بأنها المرة الثالثة التي يمكن أن يؤجل فيها التوقيع. الزملاء يرحلون في خيالات الحرج أمام العالم الذي ينتظر ما ستخرج به الخرطوم. الأفكار والظنون ما تزال ترحل وتجيء، قطع الطريق عليها وبلا مقدمات ازدحام المسافة الممتدة ما بين قاعة التوقيع وقاعات التفاوض بأعضاء الوفود، الجميع ينظر إلى رياك مشار وهو في قبضة قوش الذي أمسك به من يده بإحكام يمشيان الهوينى والضحكات تجلجل كلما مال أحدهما على الآخر متحدثا ببضع كلمات، العدسات تسابقت في التقاط المشهد.. بيد أن المفاجأة كانت أن مشار يتجه نحو إحدى القاعات حيث قيادات حركته ووفده المفاوض ينتظرون منه اجتماعا تنويريا حول ما يدور، لترتفع حواجب الدهشة لدى دخول قوش ووزير الخارجية الدرديري محمد أحمد لحضور الاجتماع معه. رياك مشار كان مباشرا ولم يبحث عن الكلمات، وهو يلقي بما في جعبته أمام الرجلين لعضويته، ويكشف عن أن وفد حكومة جوبا طالب ب70% في حكومات الولايات مقابل 30% لكل المعارضة.. قاعة الاجتماع بحسب التسريبات ضجت بالاعتراض وارتفعت الأصوات، قبل أن يعمل الوزيران السودانيان على تهدئتها. مشار يلتقط المبادرة مرة أخرى ويوجه حديثه للوساطة بأنه طالما تراجعت جوبا عن الاتفاق بعدم مناقشة النسب فمن باب أولى رجوعنا لموقفنا التفاوضي الأول ويتمثل في 51% للحكومة في مقابل 49% لكل المعارضة. قوش لم يبحث عن المفردات لتجميل العبارات، واقترح أن يتم تجاوز هذه النقطة والعمل على التوقيع على ما تم الاتفاق عليه.. عضوية حركة مشار ترفض بمنطق أن التوقيع من الأفضل والأسلم للاتفاق السياسي أن يكون شاملا. الدرديري وقوش ومشار يتشاورون أمام الجميع، لينفضّ الاجتماع ويخرج قوش ومن بعده الدرديري.. ليغادر قوش المبني بعد اجتماع استغرق 7 دقائق في قاعة منفصلة مع الدرديري وعوض بن عوف. وكشفت مصادر ل(السوداني) أن قوش ذاهب إلى رئاسة الجمهورية ليعرض على القيادة السياسية المعضلة، لتهاتف بدورها الرئيس سلفاكير ميارديت. سبب التأخير.. آخر المفاجآت بين مصدق ومكذب، انتشرت الشائعات وتناقلتها الأفواه وتبادلتها ال(واتسابات) عن انهيار محتوم ينتظر الإعلان في أي لحظة من قبل الوساطة.. عزز من تلك الشائعات إغلاق شاشة الحائط في قاعة التوقيع التي تحمل صورة البشير وموسيفيني وسلفاكير ومشار.. لتتأكد المخاوف بسحب سفراء البعثات إلى قاعة جانبية. وطبقا لمعلومات (السوداني) فإن السحب جاء بغرض الاعتذار عن التأخير الذي حدث، ليشرح لهم وزير الخارجية الدرديري وأعضاء طاقم الوساطة الأسباب، ليقطع بذلك الطريق على تقارير البعثات التي من شأنها التشويش على الموقف في الخرطوم بحسب تحليل أحد أعضاء طاقم الوساطة. ساعة أخرى تمضي وما أن بدأت زخات المطر في الهطول، حتى تسارعت المعلومات عن قبول جوبا التوقيع على البنود المتفق عليها وترحيل المختلف حولها لما بعد التوقيع. كثيرون تنفسوا الصعداء، ليكتمل المشهد باجتماع آخر بين مشار وعوض بن عوف والدرديري في قاعة أخرى بعيدة عن العيون، رشح بعدها موافقة مشار على التنوقيع بذات الأسلوب.. لتأتي الغصة سريعا تخنق الفرح ببيان صادم واعتبره كثيرون مفاجأة المفاوضات أصدرته مجموعة المعتقلين السابقين بقيادة دينق ألور تعلن عبره رفضهم التوقيع على الاتفاق السياسي، وكشف دينق ألور ل(السوداني) أن اعتراضهم ينصب في آلية الاستفتاء التي تنص عليها مسودة الاتفاق، مؤكدا أنها ضمن البنود المنصوص عليها، وأضاف: عندما تم تسمية ال32 ولاية هل تم ذلك باستفتاء، مشددا على رفض الخطوة بالإضافة إلى طريقة تكوين مفوضية ترسيم الحدود. وعلمت (السوداني) أنه قبيل إعلان مجموعة المعتقلين لموقفها هذا دخلت في اجتماع بقيادة دينق ألور مع قيادة التحالف بقيادة قبريال شامسون ود.لام أكول وحسين عبد الباقي وممثل توماس سيرليو، بالإضافة إلى ممثل بيتر قديت ليكون قرار المجموعتين عدم التوقيع باستثناء مجموعة بيتر قديت الحركة المتحدةلجنوب السودان الذي وافق على التوقيع. محاولات الوساطة لم تنقطع في ضم المجموعتين إلى زمرة الموقعين، ليتم عقد اجتماع علني على مرأى وليس على مسمع من الجميع في صالة مفتوحة أما قاعة التوقيع ضمت وزير الخارجية الدرديري محمد أحمد ووزير الدفاع عوض بن عوف ورئيس هيئة الاستخبارات جمال عمر مع قريال شامسون ود.لام أكول ودينق ألور، لينفض الاجتماع بلا نتيجة. وطبقاً لمعلومات (السوداني) فإن الوسطاء أكدوا احترامهم لرغبة الأطراف وملاحظاتهم، وشددوا على أنه ستتم مواصلة التفاوض معهم ليلحقوا بالتوقيع المبدئي ومن ثم النهائي في أغسطس القادم. التوقيع.. أخيراً في الخامسة والربع تم التوقيع على الاتفاق الذي سبقت أن نشرت (السوداني) كل تفاصيله. وشدد الدرديري في كلمة له لدى التوقيع على أن النقطة العالقة هي تقاسم السلطة في الولايات، مشيراً إلى أنه تم الاتفاق على مواصلة الحوار حول هذه النقطة بعد تضمين مواقف الأطراف حولها بما في ذلك مقترح الوساطة.