للأسف الشديد مؤتمر (قحت) الصحفي الأخير، أظهر كمية التناقض والتنافر بين تلك القوى، فضلاً عن النفاق والخداع والكذب والتذاكي السياسي الذي يشكل رصيد هذه القوى الانتهازية، التي تظن أنها أذكى من الشارع. للأسف الشديد خالد عمر لا يقول الحقيقة، حين يقول إن قحت ليست في حوار مع حمدوك الآن، وتقول بأنه معزول سياسياً.. على الرغم من أن اجتماعاً كبيراً في حزبه حول المشاركة في تشكيل حاضنة سياسية جديدة تسبب في خلاف بين القادة الشيوخ والشباب في ما يشبه الانشقاق في المواقف بين مؤيد ومعارض للالتفاف حول حمدوك والتوقيع على بيان سياسي (تم تسريبه) وتقديمه لحمدوك، واشترك في صياغته المؤيدون من حزبه وأحزاب أخرى.. ووصل صدى ذلك الخلاف للقاصي والداني، إضافة لاشتراكها في صياغة مسودة لرؤيتها للوضع وتفسير طبيعته تم تسريبها ايضاً، وشكّلت محاور ندوة ميدان الرابطة في شمبات. بالمناسبة ما هو معروف أن من يعترف بالخطأ في عالم السياسة ويقدم اعتذاره فإنه يختفي من الواجهة – كإثبات على مصداقية الاعتذار لحفظ ماء الوجه والتذهر من دنس الكذب والنفاق السياسي الرخيص – ويكون الاختفاء لأعوام ليكون المجال متاحاً للغير، فلماذا يصر قادة قحت على تصدر المشهد رغم الاعتراف في ندوة بحري بما ارتكب من أخطاء أدت لما نحن فيه من وضع راهن عسير منذ أشهر طويلة؟! للأسف الشديد يصر ياسر عرمان إصراراً شديداً على "التطبيع" مع نظام الحركة الإسلامية.. وموقفه معلوم من الترابي وزمرته الذين مازالوا يُحاكمون بتهمة انقلاب 89. يتجرأ عرمان في هذا المنعطف الخطير من عمر البلاد على استفزاز الشارع حين يثني على، علي الحاج ويطلب منه ومن المؤتمر الشعبي (الذي خطط قادته لانقلاب 89 وشاركوا في تنفيذه) يطلب منهم إدانة الانقلاب الأخير.. في أولى محطات المغازلة الصريحة وعلى الهواء مباشرة بعد أن كان ذلك سراً، وقد جرب مع رفاقه تمرير ذلك في خطابات حمدوك الأخيرة حين زرعوا في خطابين سابقين كلمات (المصالحة السياسية الشاملة، التسوية الشاملة) في أعلى مرحلة من مراحل التلميح والرسائل غير المباشرة التي يقصد بها جس نبض الشارع، ظناً منه أن الشارع "ساذج" لدرجة أن لا يفهم هذا الأسلوب الرخيص في البحث عن قواعد انتخابية، وقد كانت تلك المحاولات لتمرير الرسائل حينها احد مسببات فشل مبادرة حمدوك (الطريق للأمام)، إذ أنها لم تنتج إلا تراجعاً في علاقة حمدوك للوراء في علاقته مع الشارع والظهور بمظهر المُخادِع. بكل أسف، تُحاول قحت منذ الوثيقة الأولى التمهيد لإيجاد معبر للكيزان عبر التلاعب بما وضعوه من صياغات جبانة، وأثبتت ذلك في عدة محطات سراً وعلانيةً، أثبتت أنها لا تمانع التطبيع والتجسير للحركة الإسلامية لتُلاعبها سياسة على دماء الشهداء الذين قتلتهم الحركة الإسلامية، تفعل قحت ذلك في أحلك ظروف البلد (والواضح من إصرار عرمان ورفاقه أن لا معنى لأن يكونوا سياسيين إلا إذا لعبوا لعبة السياسة القذرة مع مَن ساموا السودانيين سُوء العذاب، ونكلوا بهم أبشع تنكيل)!! وما ذلك إلا مراهقة سياسية متأخرة، وانسلاخ كامل من الإنسانية، ودرجة مقيتة من الميكيافيلية السياسية التي هي أبشع أنواع السياسة، وهي أن تضغط على جراح شعب بأكمله لم ولن تندمل من أجل أغراض سياسية رخيصة. للأسف بعد متابعة المؤتمر الصحفي الأخير لقحت الذي كنا نأمل أن تنتهزه قحت لتقطع على نفسها العهود بأنها ستتخلى عن ممارسة السياسة في ما تبقى من الفترة الانتقالية لتقترب بوطنية من الشارع، وتحجز لها موقعاً متقدماً في مضمار الانتخابات بصدق أفعال لا اقوال، اتّضح بكل أسف وبما لا يدع مجالاً للشك أن هذا التحالف المُهترئ أصلاً مازالت قواه ومازال مُنظِّروه يَنْظُرون للشارع من برج يظنون أنه من العاج، لكنه بهذا التعالي والتكبر فهو من القش اليابس، الذي إما أن ينهار بمن يعتليه أو يحترق بأبسط عوامل الاحتراق بدون تدخل بشري حتى كأن يحترق بأشعة الشمس. خلاصة الأمر.. إن قحت تُحاول بانتهازيتها المعهودة اختطاف كل ما يمكنها أختطافه، ما قامت به في مؤتمرها الصحفي الذي طلبت له مهلة قبل أيام بغرض الاتحاد وتشكيل "جبهة عريضة" لم تكن إلا محاولة يائسة للقفز للأمام وحرف الأنظار عن ما أحدثته من أضرار أدت لما وصل إليه الحال اليوم، لكن منظرها كان مُؤسفاً وهي تحاول لوم حمدوك على هذه نتائج فعائلها، وتحاول إعادة تسويق نفسها على طريقة التجار الذين يسترخصون كل شيء ويعيدون بيع بضائعهم التالفة فيضعون ملصقات جديدة عليها، وهذا ما تفعله قحت اليوم.. وهي بذلك لم تذهب بعيداً، لم ولم تفكر خارج الصندوق حتى كما يفكر التجار الجشعون فيلجأون لحيلة الملصقات ذات التواريخ الحديثة.. تتناسى قحت أو نسيت تماماُ أن الشعب السوداني "دخل الفيلم ده قبل كدا" في نفس هذه الفترة من العام 2018، استغلوا الشارع النقي في الوصول لبوابات السُّلطة، ثم التفتوا إليه ولم يشكروه وأقفلوا الباب في وجهه.. وعملوا على تحجيم دوره وإقصائه وحالوا بينه وبين حمدوك حتى تسبّبوا في أن يُهان الشارع للمرة الأولى بعد الثورة أمام مجلس الوزراء، وكانت تلك أول صدمة للشارع في حقيقة هؤلاء الانتهازيين، ثم توالت الصَّدمات حين فُوجئوا في اشتراكهم وإجماعهم على إضعاف الإعلام الذي يفترض أن يؤدي الدور الرقابي في ظل غياب المجلس التشريعي، وتوظيف إعلام الخدمة العامة لخدمة أغراض سياسية ضيِّقة. قادة قحت يعلمون جيداً أن لا مكان لهم في قلوب وعقول الشارع، لذلك فهم متمسكون بوهم احتكار القيادة والصَّدارة، وركّزوا في مؤتمرهم على مسألة أن الشارع ولجان المقاومة (ما عندها قيادة مركزية)، وقد أسهموا برعونتهم وقصر نظرهم في تعطل هذا المشروع (البناء القاعدي) الذي مازال طور التشكل.. استشعارًا منهم بحقيقة المشروع وجديته، وما هذا( الشو) الأخير إلا محاولة مباشرة للتسلل في اللحظات الأخيرة لاستكمال ما بدأوه في ميدان الرابطة بهدف اختطاف المشهد والأضواء، أملاً في استمرار امتيازاتهم ومخصصاتهم في المشهد الجديد والتي يرون أنهم أحق بها.. وما مسرحية اتفاق جوبا الكارثية إلا أكبر دليل على ذلك.. وبعد ده كله يقول السيد عرمان إن هناك شيطنة للقوى السياسية!!! نعم لا ديمقراطية بدون أحزاب، لكن ذلك في الظروف الطبيعية وفي وجود حياة سياسية طبيعية، وليس في هذه الظروف التي تتطلّب تنازلات وطنية حقيقية لن يقدمها من يقدم مصالحه الشخصية والحزبية أولاً. فليعلم الجميع أنه حين يتطهّر السياسيون من دنس السياسة سيجدون كل الترحيب، وبما أن السياسيين لا يخجلون من ممارساتهم فإن المعاملة ستكون بالمثل، والحشاش يملا شبكته والكلمة الأخيرة للشارع، ولا يوجد ما هو شخصي في هذا النقد القاسي الذي لا تريد قحت تطبيقه على تجربتها الفاشلة، بل هو رصدٌ لواقع مر مشوب بما ورد من أوصاف حادة في هذه الأسطر. رسالة أولى وأخيرة للسيد الموقر عبد الله حمدوك.. لم يكن متوقعاً من قحت أن تقدم أي جديد بعد كل ما ثبت منها فعلاً وقولاً.. ولم تكن قحت لتمنحك شرعية تحتاجها بشدة، فالشرعية عند الشارع.. ليس من الحكمة مغادرة المنصب في هذه الأيام، على الرغم من ما لحقه من تحجيم.. إذ أن ذلك يعني الفراغ الدستوري الكامل، والبلد فيها اللي مكفيها.. ولا بد من التحلي بروح المسؤولية التي عدت بموجبها للمشهد، وبما أن الخمسين في المئة المتبقية لم تكتمل، فلا بد من التسليم والتسلم مع السلطة المدنية المقبلة وهي سلطة المجلس التشريعي التي لا مناص من تشكيلها بواسطة قوى الشارع الحيّة، الاستقالة ليست إلا وجهاً من أوجه الهروب من المسؤولية، وبالمناسبة فإن الشارع مازال ينتظر موقفاً منك تجاه ما يحدث من تغول على أمن وسلامة نساء ورجال هذا البلد الأبي، فلتكمل ما يجب إكماله لأسابيع قليلة منعاً للفوضى وحقناً للدماء. حفظ الله البلاد والعباد.