خرج من غرفته وهو في كامل أناقته ومتعطراً بالعطرة الذي يحبه، كان هذا اليوم سعيداً مبتسماً كعادته، بعد أن سمع صوت أُمه تناديه، دخل عليها لتقوم بعادتها المحببة، وهي قرأت بعض الآيات والأدعية، وهي تمسح على رأسه وصدره لتحصنه من كل ما تعلم وما لا تعلم، فداعبها قائلاً: (ليه بتمسحي لي في رأسي حيضربوني في رأسي يعني ؟) لكنها لم ترد عليه، لأنها لم تفرغ بعد من واجبها القلبي ،أكملت ما بدأت وردت عليه بصوت الأم المليء بالأحاسيس المختنقة خلف الجهل بعوالم الغيب، لكنها على اتصال دائم بهذه العوالم، طالما أنها أم: (انت الليلة أصلك ماشي وين متريح قدر ده؟) أجابها بضحكة عالية وصوت دافئ (ماشي أعرس)، ردت علية بسرعة: (امشي ياخ الليلة ما قدرتا أحصنك كويس امشي الله يحفظك)، حدثًت سوزان نفسها: (مالي الليلة سور المعوذتين والإخلاص ديل ابن يتقرن لي) فداخلها شيء يقبض قلبها، لكنها لا تدري مصدرة، وتحاول أن تطرد عنها هذا الأحساس، إنها آخر لحظات الفراق تلك المشاعر التي لا تستطيع أحرفنا العمياء أن توصيفها، فهي لا ترى بالعين المجردة إنما بعين البصيرة، قطعت الابنة أفكار أمها قائلة: (محمد نسي تلفونه الصغير، اضربي ليهو يجي راجع) وبالفعل اتصلوا علية لكنه رد بقوله: (أنا مشيت خلاص تاني ما راجع). نعم خرج ...خرج إلى اصحاب المشاوير البعيدة، إلى رفقاء المحنة، إلى أصدقاء التروس والمواكب، خرج إلى ما تعلم أمه وإلى ما لا تعلم. انقضى يوم (سوزان) كحال كل أمهاتنا في التنقل بين القنوات لمعرفة الأخبار خاصتها" وأن الاتصالات والانترنت مقطوعة، والقلق والتوتر يكاد يضعف قواها، والليل بدأ بإسدال سواده على المعالم، حتى الساعة الثامنة، بعد أن بدأت العودة التدريجية للاتصالات، بدأ أهل (محمد) يبحثون عنه متنقلين بين هواتف أصدقائه وأخيه، ولكن لا جدوى، فالبعض لا يجيب والآخر مغلق والثالث أجاب لكنه لم ير ابنهم، جاء صوت دق على الباب، وهرعت كل الأسرة لفتحه لعله (محمد)، لكنها لحظة أن خاب الأمل فها هم أهلهم أهل (محمد) جاءوا من حي (البوستة) ليبلغوا أمه بأن فلذة كبدها لن يعود أبداً، هذه ليست رواية ولا مسرحية تراجيدية، إنما هي تفاصيل ما حدث في آخر يوم للشهيد (محمد المصطفى ماجد محمد علي زروق) الشهير ب (بيبو)، نقصها على لسان أمه المرأة القوية (سوزان) كانت تحكي وهي قوية الظاهر متكسرة الداخل، لكنها مؤمنة بما يؤمن به (بيبو) بأن على هذه الأرض ما يستحق الصبر، كلماتها كانت تخرج مغلفة بالحنين والشوق الممزوج بالحزن والألم (بيبو بحب الكورة شديد طبعاً جدو من مؤسسي نادي الهلال، وأبوه من مؤسسي مدرسة البراعم للنادي، وهو بلعب فيها، كان بلعب جيتار بحب المزيكا جداً، والرسم عشان كده قدّم دبلوم جامعة السودان فنون، ما عندو طلبات كثيرة في الأكل لكن بحب الرجلة) إيمانها بما كان يحمله ابنها هو ما كان يدفعها لتركه بالخروج للدروب التي قد لا يعود إليها منها، شهيدنا صاحب ال 18 عاماً لم يرجع إلى أمه، وخرج في كامل أناقته متعطراً بما يحب، ليستقبل رصاصة الغدر في الرأس، دخلت من اعلى الأذن اليسرى وخرجت محطمة جمجمته، وحطمت معه قلوب أهله وأصدقائه والوطن.