إنها ليست المرة الأولى، وبالطبع لن تكون الأخيرة، التي يوجه فيها الرئيس أسياس أفورقي رئيس دولة أرتريا الشقيقة نصائح أخوية، ورسائل أرترية في بريد الشعب السوداني، منطلقاً من اعتزازه وفخره بأنه سوداني الهوى بالنشأة، والثقافة، والمعايشة، والجيرة، لقد نشرت صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية في أعدادها السابقة حواراً بثه التلفزيون الأرتري مع الرئيس أسياس أفورقي، تناول فيه الأوضاع المتفجرة بالسودان، قائلاً: "لا يوجد مُبرر للصراع الدائر الآن بين المُكوِّن العسكري والمدني، وأنّ التدخُلات الخارجية تسبّبت في زعزعةِ الأوضاع في السودان، ومن المُحزن أن يصل السودان لهذا المستوى، ووصف الصراعات بين المُكونات بأنها صراعات (طفولية) لا تتناسب مع الإرث السياسي للسودان، مبدياً أسفه على تدهور الأوضاع بالسودان". وقد تطاير حديث الرئيس أسياس أفورقي وملء الأسافير واستحوذ على اهتمام الغالبية من السودانيين، وحظي بتفاعل أبناء الشعب السوداني في مواقع التواصل الاجتماعي لدرجة أن الآراء انقسمت حوله فيما بين مؤيد له ومعارض. ومن يعرف الرئيس أسياس أفورقي عن قرب لا يملك، إلا أن يقر بأن حديثه كان محض نصيحة أخوية صادقة نابعة عن قناعة تعكس عمق أواصر الأخوة بين السودان وأرتريا، وبين الشعبين الشقيقين، ومعظم القيادات السياسية السودانية بحكم إقامتها الطويلة بأسمرا إبان سنوات المعارضة لنظام الإنقاذ، حيث كانت أسمرا مقراً ومركزاً رئيسياً للمعارضة السودانية، لا شك أنها قد وقفت على المزايا التي تتصف بها شخصية الرئيس أسياس أفورقي والمنطلقات التي تصدر عنها مواقفه تجاه مختلف القضايا الداخلية والخارجية، وقد كان حليفاً وصديقاً للسودان، وداعماً لنضال الشعب السوداني ضد الإنقاذ، وكان يصنف نفسه بأنه مواطن سوداني، ويتحدث عن الشأن السوداني حديث الخبير المعايش العارف للأوضاع بالسودان، ولا غرو في ذلك، حيث قضى كل فترة شبابه في السودان، مناضلاً من أجل تحرير بلاده من الاستعمار الإثيوبي. وظل ناصحاً أميناً وقوياً للشعب السوداني، وما أكثر الأدوار التي قام بها من أجل مناصرة قضية الشعب السوداني في المحافل الإقليمية والدولية. وأذكر جيداً أنه في إحدى زياراته المتعددة لجمهورية مصر العربية، قال للرئيس حسني مبارك كلاماً إيجابياً حول التجمع الوطني الديمقراطي، وبعد انتهاء الزيارة ومغادرته لمصر، جاء أحد المسؤولين المصريين لمقابلة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني الديمقراطي، وزعيم المعارضة السودانية، وقال له بدهشة:" اليوم ظهر لكم يا مولانا محامٍ قوي مدافع عن التجمع الوطني الديمقراطي، قال للرئيس مبارك لا حل لمشكلة السودان بعيداً عن هذا التجمع، وطلب منه اقتراب مصر بصورة أكبر، وأوضح مع هذا التحالف السوداني العريض باعتباره الممثل الشرعي لأهل السودان.(انتهى). وفي موقف مشابه لحديثه الأخير يذكر التاريخ أن الرئيس أسياس أفورقي أبدى ذات مرة لمولانا السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع رغبته في اللقاء مع أعضاء هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، وبالفعل تم اللقاء وكان سبب تلك الرغبة الرئاسية أن هناك حديثاً رشح متسرباً ونشر في الإعلام حول نية التجمع الطلب من مجلس الأمن التدخل بإرسال قوة عسكرية أممية لحفظ الأمن في دارفور، وبما أن الرئيس أسياس لديه تجربة مريرة مع مثل هذه البعثات الأممية، لذلك حرص هذه المرة على مقابلة قيادة التجمع، مؤكداً أنه ظل بعيداً عن اجتماعات المعارضة السودانية حتى لا يتهم بالتأثير على مداولاتها أو قراراتها أو التدخل في شؤونها، وهو يحترم قيادات التجمع، ويؤمن إيماناً قاطعاً بأنهم أصحاب تجربة وخبرة ووطنية ونضال لا يوجد له مثيل في القارة الأفريقية بأسرها، ويكفي أن قيادة المعارضة السودانية في ذلك الوقت كانت بزعامة مولانا الميرغني، وتضم الصادق المهدي، والدكتور قرنق، والاستاذ أبوعيسي، و الأستاذ التجاني الطيب، والفريق عبد الرحمن سعيد، ومبارك الفاضل، وعبد العزيز خالد، والزعيم دريج، والدكتور منصور خالد، وباقان أموم، والبابا جيمس سرور، والنقابي هاشم محمد أحمد، وموسى محمد أحمد، وعبد الواحد محمد نور، ومني أركو مناوي وآخرين، لا يتسع المجال لذكرهم. وبالفعل طلب الرئيس الإرتري من رئيس التجمع السماح له بلقاء هيئة القيادة وشرف اللقاء وطرح علي الاجتماع تجربة أرتريا مع القوات الأممية لحفظ السلام بين أرتريا وأثيوبيا، وشرح للتجمع بمنتهى الصراحة والوضوح الأضرار التي ترتبت علي وجود هذه القوات الأممية علي الأراضي الأرترية، من مختلف الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بالتفصيل الدقيق المخيف، وختم حديثه موجها نصيحة لأشقائه قيادات المعارضة السودانية، قائلاً: "تعلمون أن أرتريا تحب الخير والاستقرار والسلام للسودان، حافظوا على وطنكم وحلوا مشاكلكم بأنفسكم، واحموا بلدكم من التدخلات الأجنبية الضارة، واستفيدوا من تجربتنا مع القوات الأممية، واحذروا من الوقوع في شرك البعثات الأممية، وابتعدوا عن فخ قوات حفظ السلام".(انتهى). الأزمة السودانية التي حركت الأممالمتحدة وأيقظت مجلس الأمن في مدينة نيويورك بالولايات المتحدةالامريكية البعيدة من السودان، ونصبت السيد فولكر بيرتيس (Volker Perthes) خبيراً أممياً، كان طبيعياً جداً ومن باب أولى أن تحرك الرئيس أسياس افورقي الذي لا يبعد عن السودان كثيراً، وتقوده للدخول في تناول الأزمة السودانية، والإدلاء برأيه فيها ليس من باب التطفل، بل من باب الشراكة، مستنداً على رصيد متراكم من المعرفة بطبيعة الأزمة ومسبباتها وجذورها التاريخية، فضلاً عن تمتعه بنظرة ثاقبة إلى محيط أرتريا وجوارها، تهتم بكل التطورات صغيرها وكبيرها بحثاً عن مصلحة منطقة القرن الأفريقي. لست في معرض الدفاع عن حديث الرئيس أسياس أفورقي، ولكني في موقع التوضيح لجملة من الحقائق، التي تبدو وكأنها غير معروفة وغائبة عن الكثيرين من أبناء السودان، بشأن العلاقات السودانية الأرترية، حيث يشكل البلدان عمقاً إستراتيجياً مهماً لبعضهما البعض، وتبقي ارتريا دوما عنصرا مهما في محيط السودان، والتاريخ يقول إن السودان وإرتريا بلد واحد، وشعب واحد، تربط بينهما علاقات مميزة ومصير مشترك، وينبغي أن يفهم حديث الرئيس أسياس في سياقه، فهو لم يأخذ موقفاً يعارض أو يساند طرفاً على حساب الآخر في الأزمة السياسية والصراع الدائر حاليا في السودان. وقد انتزع حديثه عن الأزمة السودانية من سياقه، وفهم بطريقة خاطئة تحقيقا لأغراض لا تخفى على فطنة أحد. والأمر كذلك، يبقى علينا نحن أهل السودان أن نفرق بين أمرين: بين التدخل الأجنبي الإيجابي النافع، والتدخل الأجنبي السلبي الضار. فهناك تدخل دولي مساعد على الاستقرار والتنمية والتحول الديمقراطي وفق قواعد الأممالمتحدة السياسية والاقتصادية المعروفة ، بما يضمن وحدة البلاد الوطنية وتماسك نسيجها المجتمعي. وبالمقابل هناك تدخلات أجنبية سلبية ضارة بالبلاد والعباد ومظاهرها موجودة بالفعل في السودان ومثل هذه التدخلات هي التي يجب أن نواجهها ونرفضها، أما الأنشطة التي تساعدنا على النهوض والتقدم والاستقرار وحفظ الأمن وتعزيز التحول الديمقراطي؛ فليس أمامنا إلا القبول والترحيب بها، واضعين في الاعتبار أن لا أحد من المجتمع الدولي يمد أيديه للمساعدة من أجل سواد عيون السودان، أو حباً في الشعب السوداني، بل هناك مقابل علينا الوفاء به لاحقاً.