تدور عقارب الزمن دورتها كل يوم لكن دورانها المعاصر في أيامنا هذه له دموع متجمدة في المآقي ونفوس حائرة مزقتها المعاناة في كل شئ هذه النفوس وهي تستقبل ذكرى قادمة من عمق الماضي الذهبي ابداً هذه الذكري ما سقطت في عتمة النسيان انها الذكري 56م، لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر عام 1955م، وكان ذلك يوم الاثنين واليوم كذلك يصادف يوم الاثنين هو التاسع عشر من ديسمبر عام 2011م، مضت بنا الأعوام سريعاً لنجد أنفسنا نقف عند محطة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان كان ذلك اليوم التاريخي هو أطول يوم سياسي في تاريخ البلاد حينما كانت البطولة تمر بمخاضها المبدع لتهدي لأرضنا العطشي وهي حبلى بالبشارة بشارة الاستقلال لرجال الاستقلال حينما كان عنوانهم السياسي الصدق والتجلي وقبل ذلك الوطنية التى كانت تغلي في صدورهم, ما سعوا إلى مناصب وزارية ليتربعوا على مقاعدها الوثيرة إنما كانت مقاعدهم في الشارع وبين الشعب فأضاءوا وجه التاريخ بمداد من نور التواضع الجم وبمداد دبلوماسية كانت في قمة توجهها بين دول العالم فتربع على عرشها المحجوب وزروق حتى وفاتهما بل وتربعا كذلك على عرش السياسة بتفوق باهر.. وأقف اليوم بالقلم عند الملتقي السياسي وهو البرلمان الذي أعلن من داخله الزعيم إسماعيل الأزهري إعلان الاستقلال من داخله في الجلسة رقم "43" التاريخية في 19ديسمبر عام 1955م، ولن أبحر فيما جرى من مداولات ومناقشات بين نواب البرلمان حتى خرجوا في نهاية الجلسة بقرارهم التاريخي وكلهم على قلب رجل واحد ليصوتوا بالاجماع الحقيقي لصالح إعلان الاستقلال في غياب الحاكم العام البريطاني الذي كان في إجازته السنوية لبريطانيا.. وكما ذكرت لن أكتب عن ما جرى في هذه الجلسة إنما فقط أود أن اقتطف من هذه الجلسة التاريخية زهرة من بستان الزعيم محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة وقف سيادته وقال:لقد صدقنا الله وعده وعاهدنا شعبنا على أن نقف سداً منيعاً ضد كل من يحاول عرقلة استقلال السودان فإصطرعنا مع دولة النقراشي باشا في مجالس الأمن يوم كان يطالب بوحدة وادي النيل وحرمان السودان من حق تقرير المصير لكن مجلس الأمن رد الحق إلى أهله وأجمع أعضاؤه على أن السودان يحق له أن يقرر مصيره, وقد طالبنا دولتي الحكم الثنائي الإعتراف الفوري باستقلال السودان.. واستطرد المحجوب قائلاً إنني اليوم عندما أخاطب هذا المجلس لا اتحدث باسم الجانب الذي أقف فيه أي المعارضة إنما اتحدث أيضاً بلسان الجانب الآخر من المجلس وليس الاستقلال التام الذي نعلنه اليوم من عمل الحكومة أو المعارضة ولا من عمل حزب من الأحزاب أو زعيم من الزعماء إنما هو من صنع الشعب السوداني كله رجال ونساء ولهذا فعندما يقف بعد قليل صديقي السيد مبارك زروق فإنه لن يتحدث بلسان الجانب الذي يقف فيه وإنما سيتحدث بلسان هذا الجانب أيضاً ولو كانت مقاعد مجلس النواب موضوعة على الشكل الذي يسمح لها أن نجلس اليوم في صف واحد حتى تختفي الحدود والتقاسيم الحزبية لما ترددنا في ذلك لحظة واحدة. هذه الباقة الدبلوماسية اقتطفتها من عملاق الدبلوماسية السودانية الزعيم محمد أحمد محجوب زعيم المعارضد وهو يلقي بهذه الدرر النفيسة على مسامع نواب البرلمان بالخرطوم إنه تاريخ زعامات سياسية بحق وحقيقة وهو تاريخ حساس للشعوب وكتابته تتطلب أمانة فائقة وإستقامة في الإتجاه الوطني وإستنارة في الفكر والمنهج السياسي وفهماً لحركة التاريخ وقوانينه فالزعيم المحجوب أفاض في حديثه الرائع الذي قوبل بعاصفة من التصفيق وهو زعيم للمعارضة يتحدث عن وحدة الصف ووحدة الكلمة وأن تختفي الحدود والتقاسيم الحزبية لله درك يا إبن الهاشماب وإبن السودان البار.. ثم بعد إلقاء خطابه تقدم خطيب المنابر المفوه زعيم مجلس النواب وفتى السياسة الأستاذ مبارك زروق ليلقي كلمته فإقتطفت من حديقته الزاهرة وردة رائعة بروعة كلماته وعطر أنفاسه فقال زعيم مجلس النواب "لا أخالني يا سيدي الرئيس إلا متكلماً باسم جانبي المجلس حين اؤيد هذا الإقتراح فالجانبان اليوم وأمامهم هذا الإقتراح بمجلس واحد وما أسرع تتابع الأحداث في هذه الأيام المليئة الحافلة وما أقوى وأصدق إرادة الشعوب القاهرة والآن نقف وليس بيننا وبين إبتداء عهد الحكم الوطني الأول إلا أقل من دورتي فلك لننظر ما حققته عزيمة الشعب الظافرة حتى تنبهر أنفاسنا في ملاحقة الأحداث وتتوه أبصارنا في زحمة المشاهد ثم تطفئ هذه وتلك على بعضها وتتداخل المواقف والصور فيها لما يصيبنا من رهبة وأحاسيس وإنفعالات وتتعثر الكلمات فوق شفاهنا ثم لا نجد إننا شفينا غليلنا في تصوير ما في نفوسنا من أحاسيس وإنفعالات وان هذا اليوم يسجل إنتصاراً ضخماً من انتصارات الشعب على أعداء الحرية وعلى الشقاق والخوف وأن الاستقلال من داخل البرلمان سيظل ذكرى حية لمدى ما يمكن أن يحفظه الشعب الموحد الكلمة المؤمن بحقه وان هذا الشعب واع ومهيأ للديمقراطية وأنه سيظل دائماً يفرض إرادته على كل إرادة فعلينا ونحن ممثلوه ونوابه أن نكون في خدمته وأن نظل رهن إشارته لأن تمجيد الشعب وتقديره اسمى من الحكم والسلطان وقوته الدافقة لا يستطيع أن يقف في وجهها إنسان وأن عملنا يجب أن يكون لمصلحة الشعب أولاً وأخيراً وأن نهيئ له الظروف التى يتنفس بها بحرية ونفتح فيها أبواب الفرص أمامه وأن نعطيه الحريات التى يتمتع بها الأحرار في كل مكان.. هكذا تحدث فارس السياسة وخطيب المنابر السياسية بكل صراحة ووضوح وأبحر في حديثه عن الحريات واحترام الشعب وتحقيق إرادته وأنهم خدامه, لله درك يا فتى السياسة ويا عملاق مجلس النواب. تقول رأيك في حزم وفي ثقة كالحق أبلج لا إستحياء ولا خجلاً وقفت كالطود في عزم وفي شمم وعشت عفاً نظيفاً فارساً بطلاً. كانوا رجالاً حول الوطن وحول الاستقلال فحققوه وصدقوا ما عاهدوا الشعب والوطن عليه فكان الزعيم زروق فتى البلاد وفتى السياسة وفتى المبادئ من رواد الاستقلال في المبادئ ما غيرتها طمعاً ولا إعتنقت أباطيلاً ولا دجلا فتي البلاد الذي يسعى لعزتها فما تراخى ولا عن مجدها انشغلا كان هؤلاء هم فرسان الاستقلال أما اليوم كم من سياسيين تراخوا وسعوا لتحقيق مصالحهم وإنشغلوا بها وكم من ساسة باعوا المبادئ بأرخص الأثمان واعتنقوا وتوشحوا بوشاح المصالح الذاتية فإنقلبت الموازين رأساً على عقب وفار تنور المصالح والمكاسب واليوم تمر الذكري 56م، لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان ويومها كان للسياسة مذاقها الخاص وطعمها الخاص وعطرها الفواح وكان التمسك بالمبادئ من الأجندة الوطنية التى كان يعتنقها ساسة ذلك الزمان الجميل النبيل برجاله شيوخه وشبابه ونسائه وفتياته ولكن ماذا بقي للتاريخ من تلك الليلة التاريخية التي أعلن فيها الزعيم الأزهري إعلان الاستقلال من داخل البرلمان فدخل هو ومن معه من النواب دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه وخلدوا اسماءهم على صفحاته واحتفظوا بذلك بتاريخهم الوطني وبتاريخ أحزابهم الوطنية فالزعيم زروق كان حديثه كله منصباً على الحريات ومنحها للشعب السوداني وتحقيق مطالبه وأعظم عبارة في خطابه حينما قال (تمجيد الشعب وتقديره أسمي من الحكم والسلطان وقوته الدافقة لا يستطيع أن يقف في وجهها إنسان) كلمات وطنية تهز الوجدان تؤكد للشعب السوداني عظمة هؤلاء الأشاوس من رواد الاستقلال ما فرطوا في وحدة وتراب هذا الوطن ولا استكانوا للسلطات الاستعمارية حينما كان ظلام اليأس جاثما على الصدور وعلى الروح وكاد فرسان الاستقلال أن يفقدوا نور الأمل الذي يضئ لهم طريق الاستقلال نور الأمل الذي يحقق المستحيل كادوا يفقدوه لكن عناية الله شملتهم فحققوا الجلاء والاستقلال والسودنة وقدموا للشعب السوداني جهاز خدمة مدنية تضاهي كل أجهزة الخدمة المدنية في العالم العربي فكان جهاز الخدمة المدنية من أعظم الهدايا التي قدمتها أول حكومة وطنية في السودان تم تشكيلها في التاسع من يناير 1954م، برئاسة رئيس الوزراء السيد إسماعيل الأزهري كانت هدية حكومته الوطنية للشعب السوداني هو جهاز الخدمة المدنية خالياً من كل الشوائب لا وساطة ولا أنساب ولا اصهار ولا ذوي قربى إنما كفاءة وخبرة هي المعيار والبوابة للدخول إلى دهاليز الخدمة المدنية ولم تكن جلسة البرلمان التاريخية في 19ديسمبر 1955م، هي حكراً على حزب بل كانت هدية من نواب البرلمان نواب الأمة السودانية إلى الشعب السوداني صانع الاستقلال.. فالتحية إليه وإلى رواد الاستقلال وهم تحت أطباق الثري والأحياء منهم الذين مازالوا يحملون في نفوسهم وقائع وأحداث هذه الجلسة التاريخية أمد الله في أيامهم ومتعهم بالصحة والعافية فمن أراد أن يوثق للتاريخ ولأجيالنا فليوثق منهم أحداث الاستقلال وما قبل الاستقلال وبحوذتهم كنوز احداث سياسية تاريخية.