لم تكن تلك المكاملة، بين المسؤول الحكومي الرفيع ود.عبد الله حمدوك إلا فاصلا قصيرا لقصة الرجل الذي ملأ خبر تعيينه وزيراً للمالية والتخطيط الاقتصادي دنيا الإعلام قبل أن يعصف بها مجدداً باعتذاره عن قبول المنصب، فاتحاً بذلك جدلا كثيفا في أوساط السودانيين، لا سيما المعارضين للحكومة لينقسموا ما بين مؤيد لخطوة اعتذاره عن المشاركة في السلطة ومنتقد له بشدة لعدم تلبيته نداء الواجب الوطني في ظل ما يشهده الاقتصاد من ركود وتدهور كاد أن يأخذ بتلابيب أهله في السودان. رواية واحدة مصادر موثوقة أكدت ل(السوداني) أمس، أن د.عبد الله حمدوك عقب اعتذاره أبدى استعداده للمكوث في البلاد شهرين إلى ثلاثة أشهر لوضع خطة رئيسية للحكومة لإصلاح الاقتصاد وإدارته. وأكدت ذات المصادر أن د.حمدوك ظل خلال زيارته للبلاد يقدم النصح والمشورة، وكان يزور كثيراً وزارة المالية، والتقى رئيس مجلس الوزراء السابق الفريق أول ركن بكري حسن صالح عدة مرات. لم يَشْفِ حمدوك ظمأ الباحثين عن أسباب اعتذاره، متدثراً بغطاء ضوابط وظيفته الرفيعة التي تمنعه من التعليق لوسائل الإعلام في الشؤون السياسية، حسبما أكد مقربون منه ونقلتها عنهم تقارير إعلامية. صمْتُ الرجل فتح الباب أمام روايات عدّة حول قصة وزير حبس أنفاس الخرطوم لساعات طوال، قبل أن يؤكد غيابه عن أداء القسم اعتذاره عن شغل حقيبة المالية. غير أن رواية واحدة حظيت بتطابق مصادر (السوداني) أمس، وتتلخص في أن رئيسة مفوضية الشؤون الاجتماعية بالاتحاد الإفريقي د.أميرة الفاضل بادرت بالتحدث إليه حول أهمية إسهامه وتقديم خدماته لبلاده حتى تتجاوز الأزمة الاقتصادية الماثلة بمثلما أسهمت أفكاره وخططه في انتشال العديد من البلدان الإفريقية من أزماتها الاقتصادية. وتفيد المصادر أن الرجل أبدى عدم ممانعة في ذلك، وأضافت المصادر: لكن أميرة قليلة الخبرة في المسائل التفاوضية الحاسمة، نقلت إلى الخرطوم الرسمية ما يشير إلى موافقة الرجل. نكران جميل ذات مساء تلقّى وزير الخارجية السابق د.إبراهيم غندور برقية مستعجلة، من سفارة السودان في أديس أبابا، تقول إن سودانياً سيخوض جولة انتخابية مع منافسين بارزين في الفضاء الدولي والإقليمي لتسنم موقع الأمانة التنفيذية للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية بإفريقيا. صباح اليوم الثاني دعا غندور كبار السفراء بديوان الوزارة للتفاكر حول الأمر، وانتهى الاجتماع بقرار دعم الرجل رسمياً، لتقلُّد هذا المنصب كونه من أبرز الشخصيات السودانية العاملة بالخارج. منتقدو خطوة اعتذار حمدوك التقطوا ذلك القرار كمدخل لانتقاده في رفضه لشغل حقيبة المالية، وأشاروا لاستحالة صدور قرار تعيينه دون موافقته؛ مع إقرارهم بأن بعض التعيينات تتم دون مشاورة المختار، إلا أنهم يؤكدون أنها حالات محدودة كثيراً ما تقع للمنتمين إلى المؤتمر الوطني الذي تختلف طريقة تعامله مع آخرين لا ينتمون إليه أو يبدون قدرا من الاستعداد لقبول قراراته. فيما يرى آخرون أن حمدوك تنكر للوطن في أحلك ظروفه الراهنة، وكان عليه الاستجابة لمساعدة أهله عرفاناً لهم ولوطن قدم له الكثير. بيد أن مصادر مطلعة –رفضت ذكر اسمها - أكدت ل(السوداني) أمس، أن الخارجية السودانية عرفت مؤخراً بترشُّح د.حمدوك للمنصب، ولم يكن أمامها سوى دعم الخطوة خاصة وأن اسمه أتى محمولاً برافعة منظمات إقليمية ودولية، وبعض الدول التي كانت عضواً في اللجنة التي لم يكن من بينها ممثل للسودان. إشادة بالاعتذار الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي من المعارضين للحكومة، امتدحوا كثيراً قرار الرجل بالاعتذار. ووصف كثيرٌ منهم د.حمدوك بأحد ضحايا الفصل التعسفي والصالح العام لدوافع سياسية، أقدمت عليها الحكومة بداية عهدها، لكن د.محمد محجوب هارون الذي يعد من أبرز أصدقاء د.حمدوك أكد في تعليقه ل(السوداني) أمس، أن الرجل كان خارج البلاد منذ عام 87 وأن قرار فصله عن الخدمة لم يكن في عهد حكومة الإنقاذ، نافياً معرفته بأسباب فصله، وعما إذا تمت مشاورة حمدوك. وأضاف هارون - الذي التقى حمدوك في أديس أبابا قبل أيام - : "لم يكن واضحاً في أجندته أن يشغل وظيفة تنفيذية، لكنه ظل مهتماً بالأحوال العامة للسودان ومتابع لما يدور فيه ويتبادل الأفكار مع زملائه وأصدقائه، وكان يفكر أن يخدم البلد في مواقع دون أن يكون ذلك في مواقع تنفيذية". وعن قرار اعتذاره يرى د.محمد محجوب هارون، أن الراجح بنسبة 100% أنه لم تتم مشاورة حمدوك، وأضاف: "يبدو لي أن هناك استعجال في إعلان موافقته ربما بحسن نية أو سوء نية ولا أعتقد أن عبد الله يمكن أن يعطي موافقة ويتراجع عنها". وضع مريح البعض يرى في عدم قبول د.عبد الله حمدوك المنصب، يرتبط بما يتمتع به من مخصصات مالية كبيرة، حاله في ذلك حال كبار الموظفين الدوليين، وهو ما يجعل وضعه من الناحية المالية أقل بكثير نسبة للراتب الوظيفي المتواضع بالسودان في مقابل ما يحوزه الرجل من امتيازات ومخصصات. فيما يمضي آخرون لأبعد من ذلك معتقدين أن طريقة تعامل المؤتمر الوطني مع من هم خارج عضويته القيادية، لا تشجع أمثال حمدوك للعودة والعمل في ظل أجواء السودان السياسية المتقلبة. ويستمثل هؤلاء بتجربة وزير العدل السابق د.إدريس جميل الذي كان يعمل مستشاراً بالديوان الأميري القطري بمُخصَّصات تُقارب نصف مليار جنيه سوداني، حيث جرى إقناعه بعد مفاوضات استمرت 4 أيام قادها نائب رئيس الوطني السابق إبراهيم محمود للعمل بالبلاد؛ لكن جميل غادر موقعه قبل أن يكمل فترة العام. أما النموذج الثاني غير المشجع باعتقاد البعض هو نموذج السفير محمد عبد الله إدريس، الذي ترك الخارجية قبل سنوات والتحق بوظيفة ممثل الجامعة العربية في السودان، حيث تمت الاستعانة به وزيراً للدولة بالخارجية؛ لكنه غادر قبل ثلاثة أشهر تقريباً من قرار تعيينه.