الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    لم تتحمل قحط البقاء كثيرا بعيدا من حضن العساكر    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    الأحمر يعود للتدريبات    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في أزمة وطن مزمنة..قضية- السودان....إلى أين المصير ؟ (9)
الضلع الأول (3)
نشر في الرأي العام يوم 23 - 01 - 2010

حكومة الوحدة الوطنية والخدمة العامة (ه) مشاركة الجنوب في الحكومة الوطنية على رأس مستحقات السلام مشاركة الحركة الشعبية في الحكومة القومية بنسبة مقدرة (27%) على أن تتضمن تلك النسبة 7% لشماليي الحركة. من جهة أخرى، قررت الإتفاقية ونص الدستور على تمثيل أبناء وبنات جنوب السودان في الخدمة المدنية القومية تمثيلاً حددت الوثيقتان قوامه، كما وكيفاً. تلك المشاركة، من ناحية الشكل، تمت بوجه كامل في المستوى القومي (الأجهزة التنفيذية والتشريعية) بعد نزاع ومغالبة حول وزارة الطاقة. كانت الحركة تصر على الإستحواذ على تلك الوزارة لإعتبارين موضوعيين: الأول هو أن الجزء الأكبر من الإنتاج النفطي الحالي يجئ من أبار في الجنوب، والثاني هو إتفاق الطرفين على «إقتسام المناصب والحقائب الوزارية، بما في ذلك الوزارات القومية السيادية، على أساس العدالة والنوعية، ويتفق الطرفان على وضع الوزارات القومية في مجموعات بموجب إتفاق وسائل التنفيذ» (الفقرة 2-5-3) من بروتوكول إقتسام السلطة). بموجب ذلك الإتفاق إقترحت الحركة إقتسام الوزارتين الأهم في القطاع الإقتصادي بحيث تترك الحركة وزارة المالية للمؤتمر الوطني على أن تؤول إليها وزارة الطاقة. ذلك موقف ثبتت عنده قيادات الحركة إلا أن رئيسها، سلفا كير، قرر تجاوز المطلب رغم إصرار قيادات الحزب عليه أن لا يتنازل عن وزارة الطاقة الا مقابل وزارة المالية. وفي تبريره لتنازله قال سلفا لرفاقه إن الذي يحمله على التنازل سببان: الاول هو التعجيل بقيام الحكومة حتى تبدأ في أداء مهامها، فالبدء في إنفاذ الإتفاقية أهم، في رأيه، من الصراع على منصب وزاري. الثاني هو الإستجابة لطلب من الرئيس البشير بأن من مصلحة قطاع النفط أن يستمر في إدارته الرجل العليم بأسراره منذ الإنطلاقة الاولى للقطاع: الدكتور عوض أحمد الجاز. ولا شك في أن تنازل رئيس الحركة للأسباب التي أبداها يعكس رغبته في تغليب الأساسي (إنفاذ الإتفاقية)، على الهامشي (إقتسام المواقع)، كما أن إستجابته لطلب الرئيس، رغم معارضة كثر من رفاقه، كان مؤشراً على حسن نواياه وتغليبه لتنفيذ الإتفاقية على أي شئ آخر، ثم كمال إستعداده للتعاون مع قيادة المؤتمر. ومما يستغرب له أنه لما يَمضِ عامان من قرار رئيس الحركة الشعبية بالتنازل للمؤتمر عن وزارة الطاقة حتى إنتقل «الجاز الجاب الجاز»، كما كان يتردد في الهتافات، من الوزارة التي هو »عليم بأسرارها« إلى وزارة أخرى لا يعلم خباياها، وما أكثر خبايا وزارات المال. وهكذا إنتهى الأمر بإستئثار المؤتمر الوطني بالوزارتين في تعديل وزاري عادي. يقول أهلنا: «الطمع وَدَر ما جمع»، إلا أن تجارب السياسة السودانية أثبتت بآخرة أن الطمع قد يجمع، ويجمع كثيراً. مع تلك السلاسة التي تم بها إنفاذ الإتفاقية على مستوى حكومة الوحدة الوطنية وقعت أحداث مقلقة تكشف إما عن الجهل بنصوص الإتفاقية، أو تجاهلها، أو على أحسن الإعتبارات التهوين من أمرها. يشمل هذا تعيينات مرشحي الحركة لبعض المواقع الدستورية، وإنفاذ ما أمرت به الإتفاقية والدستور بشأن تعيين الجنوبيين في الخدمة العامة القومية. كنموذج للحالة الأولى، تكررت ممانعة بعض الولاة في تعيين وزراء سمتهم الحركة لشغل المناصب المخصصة لها في بعض الولايات حسبما جاء في الإتفاقية حول التعيينات لهذه الوظائف في فترة ما قبل الإنتخابات، أو في إعفاء آخرين دون مشاورة مع الحزب الذي سماهم. قد يقول البعض إن تلك الممانعة أو الإزاحة عن الوظيفة لم تكن نتيجة لموقف سياسي ، أو توجيه من سلطة سياسية عليا ، بل لأسباب أخرى تبدأ بعدم الإستلطاف وتنتهي بعدم التعاون. هذه حجة لا تقبل إلا إن كانت الدولة هي دولة رجال، لا دولة قانون. وبما أن القرارات في دولة القانون ، أو ما يفترض أنها دولة قانون، لا تصدر بناء على الأحكام التقديرية الشخصية حسمت الرئاسة الأمر بموجب قرار جمهوري (القرار 341 لسنة 2007م) ينهي هذه الصراعات الولائية جاء فيه: «يقر الطرفان بأن حق ترشيح الأشخاص لشغل المناصب الدستورية خلال فترة ما قبل الإنتخابات في الأجهزة التنفيذية والتشريعية في كل مستويات الحكم مكفول للطرفين». رغم ذلك القرار الرئاسي الملزم، وقع تنازع جديد لم تر فيه قيادة الحركة الا تحدياً لها، بل للقرار الرئاسي (341). عَظْمةُ النزاع ، هذه المرة، كانت هي الترشيحات التي قدمها رئيس الحركة لرئيس المجلس الوطني لإجلاء بعض الأعضاء المنسوبين للحركة عن مواقعهم في المجلس نتيجة لعزلهم عن الحزب بقرار معلن من المكتب السياسي للحركة، وإحلال آخرين مكانهم. وفيما هو ذائع تمنع رئيس المجلس عن تنفيذ توصية رئيس الحركة إذ كان له رأي في المرشحين. ذلك الرأي، أياً كانت وجاهته، رأي شخصي. ومن المفيد أن نذكر هنا أنه في حالتين: حالة نائب رئيس المجلس التشريعي لجنوب السودان، وحالة وزير التربية في تلك الحكومة، وكلاهما من منسوبي حزب المؤتمر، طلب ذلك الحزب من رئيس حكومة الجنوب إستبدال الرجلين بمرشحين آخرين. لم يبطئ رئيس الحركة في الإستجابة لطلب حزب المؤتمر بإعتبار أن ذلك هو حقه الدستوري. ذلك القرار إتخذه رئيس حكومة الجنوب، رئيس الحركة الشعبية، رغم أن الدافع لمطالبة حزب المؤتمر الوطني بعزل هذين المسئولين عن منصبيهما وإستبدالهما بشخصين آخرين هو إنسلاخهما عن المؤتمر وإنضمامهما للحركة الشعبية. لهذا بدت ممانعة رئيس المجلس الوطني في تعيين منسوبي الحركة في المجلس أمراً غريباً ومُستَفِزاً. (ز) الخدمة العامة القومية غير قليل من وزراء الحركة الشعبية في الحكومة القومية يقولون إنهم وجدوا أنفسهم غرباء في وزاراتهم لأن تلك الوزارات تدار، على المستوى التنفيذي، بكادر حزبي مصدر توجيهه السياسي، حتى في واجباته الإدارية، هو الحزب الذي ينتمي إليه لا الوزير الذي يترأس المؤسسة. في حين ينص الدستور على أن «الوزير القومي هو المسئول الأول في وزارته وتعلو قراراته فيها على أي قرارات أخرى ومع ذلك يجوز لمجلس الوزراء القومي مراجعة تلك القرارات » المادة 13 (1). ذلك وضع يقودنا إلى الحديث عن الخدمة القومية العامة. واجبات أي حكومة لا تقوم إلا بجناحين: الجناح السياسي الذي يرسم السياسات (الوزراء فرادى أو مجتمعين في مجلس)، والجناح الإداري التنفيذي (الخدمة العامة) الذي يَرفِد المسئول السياسي بالمعلومات الموضوعية، وتتولى تنفيذ السياسات بامانة وقدارة. موضوع حيدة الخدمة العامة واحترافيتها في ظل نظام ديموقراطي تعددي لا يغبى، أو ينبغي أن لا يغبى، على أحد. فمنذ بدايات التفاوض في ماشاكوس كان مفاوضو الحركة يدركون جيداً أن الخدمة العامة في عهد الإنقاذ أضحت مؤسسة حزبية لإعتبارات مُعلنة لا خفاء فيها. من تلك الإعتبارات ما كان يسمى بالتمكين أي أن يجعل الحزب لنفسه سلطاناً على الحكم حتى ينفردَ به وحده. نتيجة لتلك السياسة أقصي عن الخدمة جمع غفير من الموظفين شمل حتى القضاة. ففي تقرير لصحفي سوداني محقق بلغ عدد الموظفين الذين أحيلوا إلى الإستيداع في الفترة ما بين يوليو 1989 وسبتمبر 1993 سبعة وستين الفاً وستمائة واربعين (67.640) موظفاً، في حين بلغ عدد المحالين للتقاعد منذ العام 1904 في عهد الإستعمار وإلى حين إستلام الإنقاذ للسلطة (نهاية يونيو 1989) إثنين وثلاثين الفاً وأربعمائة وتسعة عشر (32.419) موظفاً (السر سيد أحمد، الشرق الأوسط 19 مايو 2001م). بعبارة أخرى، بلغ عدد الموظفين الذين أحيلوا للتقاعد في سني التمكين الأولى أكثر من ضعف من احيلوا للتقاعد خلال خمس وثمانين عاماً ( الفترة بين عامي 1904 و 1989). أغلب هؤلاء كانوا ممن تركوا الخدمة بسبب المعاش الطبيعي أو الإختياري قبل بلوغ سن المعاش، وقلة منهم نتيجة الفصل الإداري بسبب السلوك غير المهني أو عدم الكفاءة، هذا بالإضافة إلى بضع عشرات من ضحايا «التطهير واجب وطني» في أكتوبر 1964 ومايو 1969م. ونعترف أن ذلك التطهير لم يكن تطهيراً ، ولا واجباً، ولا وطنياً. وعلى كل ذهب المتفاوضون مذهبين لمعالجة الموقف الذي ترتب على قرارات الإنقاذ: المذهب الأول هو توافق الطرفين على أن تكون الخدمة المدنية القومية خدمة محايدة، وأن تكون، في مستوياتها العليا والوسيطة ممثلة للشعب السوداني (المادتان 135/136 من الدستور). ولتحقيق ذلك الهدف إقر الدستور المبادئ التالية: معالجة المفارقات وعدم التكافؤ في التعيين أهمية الكفاءة وضرورة التدريب عدم ممارسة أي مستوى للحكم التمييز ضد أي سوداني مؤهل على أساس الدين او العرق او الإقليم أو النوع. التنافس النزيه على الوظائف إستخدام التمييز الإيجابي والتدريب الوظيفي لتحقيق أهداف الإستيعاب المنُصِفْ خلال مدى زمني محدد. توفير فرص تدريب إضافية للمتأثرين بالنزاع. يفترض المرء أن في هذه المبادئ ما يسُد باب الذرائع: فليس من بين أشراط التعيين للخدمة العامة الولاء لحزب معين لان أسس التعيين، بنص الدستور، هي الكفاءة والتنافس النزيه. وليس من شرائطه، في حالة المرشحين من مناطق النزاع، أن يكون المرشح على قدر عالٍ من الكفاءة إذ يستلزم الدستور تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي لتحقيق النصفة في التعيين وتوفير فرص إضافية لتدريب المعينين من أبناء وبنات المناطق المتأثرة بالنزاع بهدف الإرتقاء بكفاءاتهم المهنية. كما تتطلب تلك المبادئ ، بالضرورة، أن لا تبقى الخدمة العامة على الحالة التي كانت عليها في العهد الشمولي لأن هذا لا يعين على تحقيق ما دعا له الدستور:«معالجة المفارقات وعدم التكافؤ في التعيين». المذهب الثاني يتعلق بالجنوب حيث نص الإتفاق والدستور على «وضع سياسات تهدف إلى تخصيص نسبة تتراوح بين عشرين إلى ثلاثين بالمائة من وظائف الخدمة المدنية القومية، بما فيها وظائف الوكلاء، بأشخاص مؤهلين من جنوب السودان في السنوات الثلاث الاولى من الفترة الإنتقالية (المادة 138 (ب) من الدستور). وحسب الإحصائيات التي قامت بها وزارة الخدمة العامة تضم تلك الخدمة المدنية القومية المائة الف من الموظفين (ثمانية وتسعين ألفاً على وجه التحديد). ذلك العدد لا يشمل وظائف الخدمة العامة خارج السلك الإداري (المؤسسات والشركات العامة). وبحساب دقيق ينبغي أن يكون عدد موظفي الخدمة العامة من الجنوبيين بنهاية العام 2007م قرابة العشرين ألفاً، إلا أن واقع الحال يقول إن قائمة المرشحين الجنوبيين التي إكتملت لشغل المواقع الدنيا المخصصة لهم بنص الدستور لم تتجاوز حتى اليوم الألف وتسعة وثلاثين موظفاً (1039) في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون فيه العدد بنهاية العام 2007 عشرين الفاً. ومن المؤسي أنه حتى هذا الألف ونيف موظفاً مازال تائهاً بين ديوان الخدمة العامة والوزارات التي ألحقوا بها. وفيما يتعلق بالوظائف العليا لم يتم تعيين وكيل أو مدير عام في أية وزارة مهمة في الخرطوم، إن إستبعدنا تعيين مسلم من أبناء جنوب السودان ذي إنتماء معروف للحركة الإسلامية وكيلاً لوزارة الشئون الدينية، وتعيين سفير سابق وكيلاً لوزارة الشئون الإنسانية بترشيح من وزيرها الجنوبي. ودون التقليل من أهمية الوزارتين الا أنهما لم تكونا بالقطع في خَلَد مفاوضي الحركة الشعبية عندما طالبوا بالمشاركة الفاعلة لمواطني الجنوب في الخدمة العامة القومية. الوزارة الوحيدة التي تحققت فيها مرامي المادة (138) من الدستور هي وزارة الخارجية على عهد الدكتور لام أكول. ولكن، رغم أهمية وزارة الخارجية، فهي ليست من الوزارات التي تؤثر على حياة الناس تأثيراً مباشراً. أنظار ساسة الجنوب الذين كانوا يجأرون بالشكوى من ضآلة تمثيل إقليمهم في الوظائف العليا والوسيطة بالوزارات القومية الكبرى كانت تتجه إلى وزارات مثل تلك التي تدير شئون المال، أو التعليم، أو الأجهزة العدلية، أو المؤسسات الإقتصادية القومية. وغني عن القول إن تعيين مواطنين من جنوب السودان في الوظائف العليا والوسيطة في مثل هذه الوزارات كان سيدعم، أكثر من أي شيء آخر، الظن بأن هناك تغييراً واضحاً في سياسات الخرطوم تجاه جنوب السودان. كما ينبغي أن نستذكر أن واحدة من القضايا التي أثارت ساسة الجنوب عند الإستقلال هي ضآلة تمثيل الجنوبيين في الخدمة العامة عند سودنة الوظائف. لذلك، فإن إفتطان الإتفاقية إلى هذا الأمر وإقرار مبدأ تعيين الجنوبيين في الخدمة العامة بقدر يتناسب مع حجمهم السكاني، والنص على إلتزام مبدأ التمييز الإيجابي،
وتوفير فرص أوسع لتدريبهم يكشف عن إدراك واعٍ للمشكل ومحاولة جادة لإيجاد حلول عملية لها. ثمة خطآن ، بل لعلها ثلاثة أخطاء، في إغفال ما نص عليه الدستور حول الخدمة المدنية. الخطأ الأول: هو تجاهل نصوص الإتفاقية والدستور حول حيدة الخدمة المدنية. والثاني هو عدم التملي في نتائج هذا التجاهل (بالنسبة للجنوب)، لا سيما فيما يتعلق بجعل الوحدة جاذبة بحق. والخطأ الثالث، وهو اشد الأخطاء شناعة، هو تنفير الكثيرين من أبناء وبنات السودان من ذوي المهارات في النظام. فما هي مصلحة أي نظام حكم في أن يَحرم المهندس القادر، أو القانوني الخبير، أو الزراعي الذي يستجيد مهنته، من أن يحتل الموقع الذي يؤهله له علمه ودُربته ودرايته، خاصة إن كان الواحد من هؤلاء يستفرغ كل جهده في هذه الحياة الدنيا في المهنة التي تمهر فيها؛ فلا هو بسياسي، ولا بطامع في الحكم. ما هي الرسالة التي يوجهها الحزب القابض على ناصية الحكم لكل هؤلاء عندما يشهدون حصر كل الوظائف العامة، خاصة في مراقيها العليا، على أنصاره ومن يوالونه كانت الوظيفة هي وظيفة وكيل وزارة، أو مديراً عاماً لمؤسسة إقتصادية أو لمشروع زراعي، أو لإدارة جامعة، أو حتى للأمانات العامة للمفوضيات القومية التي ما أريد من إنشائها إلا الرقابة على سير الاجهزة القومية العامة و تعميق المفاهيم الجديدة التي التي جاءت بها الإتفاقية في مناهج العمل العام. قد نقول، بوجه عام، أنه من المستحيل أن يجد المرء موظفاً عاماً لا ينتمي لحزب ولهذا لا ينص الدستور على أن يكون الموظف العام غير حزبي (non-partisan)، بل يتطلب منه الحيدة ( ( impartialityفي أداء مهام الخدمة المدنية بعيداً عن أي خيار أو إنحياز حزبي. قد يتذرع البعض بتباطؤ مفوضية الخدمة العامة في أداء واجبها حسبما نص الدستور. تلك ذريعة واهية لأن القضية في جوهرها قضية سياسية أوجبتها دواع سياسية، وإلتزمت بها أعلى المستويات السياسية في البلاد. ولئن كانت المفوضية، هي حقاً المسئول الاول عن الإشراف على تنفيذ ما جاءت به الإتفاقية حول حيدة الخدمة العامة وتمكين الجنوبيين من الإلتحاق بها، فهي ليست بالمسئول الأخير. المسئول الأخير هو الحكومة التي تدرك أن الدستور الذي تحكم به البلاد قد أرسى قيماً معيارية تضبط عمل الخدمة العامة، كما حدد مواعيد معلومة في الإتفاقية والدستور للوفاء بإستحقاقات معينة قد تترتب على عدم تحقيقها، أو الإبطاء في ذلك خاصة مثل إكمال تعيين الجنوبيين في الخدمة المدنية القومية نتائج سياسية خطيرة. السودان، كما قلنا من قبل، ليس هو «فريد عصره». كان من الممكن، مثلاً، أن تكون لنا أسوة بالهند لأسباب منها تنوعها الإثني والثقافي، وبالمظالم التي حاقت بطوائف من المهمشين من بين أهلها، وهي أكثر بكثير من تلك التي عانى منها السودان. فمنذ إعلان إستقلالها أرست الهند في دستورها مبدأ التمييز الإيجابيAffirmative Action لاتاحة الفرصة لأبناء الطوائف المهمشة تاريخياً من الإلتحاق بالخدمة المدنية، ولتلقي التعليم الجامعي. بيد أن الهند لم تكتف بإرساء ذلك المبدأ في الدستور بل ظلت تتابع تطبيقه بصورة دورية. آخر تلك المتابعات كانت بعد مرور ثلاثة عقود من إقرار دستور الهند عندما إكتشف رئيس الوزراء مرا فجي ديساي أن التوازن المطلوب في الخدمة العامة لم يتحقق بعد. لهذا أنشأ ديساي لجنة أطلق عليها اسم «لجنة التمييز الإيجابي» تحت رئاسة البرلماني الهندي برا ساد ماندال. وقد تضمنت إقتراحات لجنة ماندال التي قبلتها الحكومة أن تكون وظائف بعينها في دور الحكومة، ومواقع محددة في الجامعات العامة، مقفولة حصرياً على المواطنين الهنود الذين حرموا تاريخياً من تلك الوظائف والمواقع. وعندما فعل ديساي ما فعل لم تكن في الهند ولاية واحدة تهدد بالإنفصال، كما لم يكن يترجاه إستفتاء على تقرير مصير ولاية. السبب الوحيد الذي حدا به لتلك المراجعة الجذرية هو الحرص على تطبيق الدستور والإلتزام بالقيم المعيارية التي وضعها.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.