كل ما يموت إنما يموت بإذن الله سبحانه وتعالى لانه عائد للحياة الأبدية. تعتبر البكائيات من صنع المرأة ولا تصدر إلا منها.. فيكفي أن تطلق صرخة داوية ممدودة، ورو.. رو.. رو.. رو.. روك حتى يفهم أن حادث وفاة قد حدث لانها الشعار المميز للبكائيات. تجتمع نساء القرية أو الحي للمشاركة في هذا الحدث الاليم، وهنا تبرز عظمة المرأة السودانية في ممارستها بتفهم لركن مهم من أركان الثقافة العالمية وهي المبادرة والمشاركة، فالجميع أتوا ليشاركوا أسرة الفقيد في مصابها الاليم وإن الفقد واحد والحادث الاليم هز الجميع. ينتشر الخبر في القرية أو الحي وتتجمع أعداد كبيرة من النساء في منزل الفقيد أو الفقيدة، فتقوم إحداهن بقيادة هذه المجموعة التي جاءت تودع الفقيد الوداع الأخير فتغني بصوت مؤلم.. حي ووب وتردد البقية حي ووب، على إيقاع حزين يقمن بإعداده بأنفسهن ليتماشى مع أغانيهن الحزينة وعويلهن.. يأتين بدعاء كبير يواصل النسوة مناحاتهن واغانيهن الحزينة في وصف الفقيد، فاذا كان رب أسرة ذا مكانة اجتماعية مرموقة.. دارت معاني المناحة "الأغنية" حول رحيله النهائي وهدم سعادة الأسرة ومن يحميها بعده مع ذكر لصفاته ومحاسنه ومكانته الاجتماعية. والبكائيات كما اسلفنا مصدرها القلب ودوافعها المأساة والالم فهي صادقة العاطفة وليس للتكلف أو التصنع نصيب فيها، وما يقال في الشيوخ لا يكون بالحرارة والعمق والقوة التي تصاحب بكائيات الرجال والشباب. والبكائيات بجميعها تصور الأسرة بجميع أركانها وضمن إطارها العام فهي مثل أغاني الأعراس من حيث الدوافع لا من حيث الموضوع وهي تصور الميت وعاداته وصفاته ولكن لا يذكر اسم الميت إطلاقاً. وجملة القول فيما تقدم إن البكائيات هي من صنع المرأة ولا تصدر إلا منها وربما كانت السبب المباشر لذلك هو بكاء نفسها فلو كان المتوفى زوجاً لها تحبس بالمنزل لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام دون مغادرة المنزل وتحرم نفسها من الملبس الأنيق والحلى والزينة والعطور حتى من سماع الراديو، ما عدا الأغاني الحزينة التي ترددها أسرتها ومعارفها مشاركة منهم لها في مصابها الاليم، كما تحرم من رؤية الرجال ما عدا المقربين لها مثل أخوانها، أخوالها، أعمامها، جدها، يملأ بالماء ويضعن على سطحه عدداً من القرع متعدد الأنواع في شكل نصف كروي وتتوسطه قرعة كبيرة وهي بمثابة الباص ذي الصوت الغليظ لبقية الأصوات الصادرة من القرع، فالجزء الأكبر مساحة يلامس سطح الماء ليبز الرأس فيضرب عليه بعصي صغيرة ليخرج صوت مكتوم حزين به أنين كالصوت الصادر من أعماق الإنسان وتتنوع الضربات في إيقاع ثنائي ورباعي حتى لا تكون على وتيرة واحدة، خاصة وقد يستمر البكاء والعويل لفترة طويلة، نجد من خلاله أن النسوة وقفن في شكل دائري حول الإيقاع وأخذن يرددن أغاني جماعية كورالية، وأحياناً فردية "صولو" مع المجموعة "كورال" بين صرخات عالية من وقت لآخر بعد حزم أوساطهن بالثياب وكشف رؤوسهن وذلك ليتمكن من المشاركة بحرية وتعبير وهنا تصدر أصوات كروماتيكية "ملونة" أي أنغام على أبعاد موسيقية متتالية بنصف درجة صوتية ترديدها في مناسبة أخرى غير البكائيات لان الحزن والألم هما مصدرها، وهذا التعبير الكروماتيامي "الملون" غير موجود في الفولكلور السوداني أصلاً ويعتبر هذا تعبيراً وقتياً خاصاً بالبكائيات. ولعل أشد اللحظات عند النسوة حسرة وإلماً هي تلك اللحظات التي يخرج فيها جسمان الفقيد أو الفقيدة للمقابر حيث يرتفع البكاء والعويل، وهي اللحظة التي تنصل الخيال عن الواقع فالميت لن يعود ولو ذر من عليه كل الدموع، تعتبر البكائيات لوناً من الوان الغناء الشعبي فهي تجعل من الواقع شيئاً مجسداً ومن الموت حدثاً مخيفاً بشعاً ومن الحياة مادة غنية للتعبير عن واقعها المؤلم بدرجة عالية من التجديد وحسن الأداء ما لم تبلغه أغاني المناسبات الأخرى وهي تقطع نياط القلوب ألماً وحزناً بامتداد لحسنها وما صاحبه من بكاء وعويل. والبكائيات انطبقت وتغلفت في نفوس نساء العالم العربي قبل ظهور الإسلام بالآلاف السنين وعند ظهور الإسلام ظهرت آيات قرآنية قررت أن كل شيء إنما يموت بإذن الله لانه سيعود للحياة الأبدية مرة أخرى ولا مناص من الامتثال لامر الله والصبر الذي أمرنا الله عز وجل أن نستعين به. وخلاصة القول إن البكائيات ومعتقداتها كلها تدور حول الروح الوثنية المعارضة لوجه نظر الدين الإسلامي، لكنها إبداعات الشعب تعكس العادات والتقاليد على الرغم من أنها غير مقبولة دينياً ومكروهة اجتماعياً.