لم تكن عطبرة مرتع العلم والحضارة والصناعة فقط، بل كَانت عُنواناً للفن والثقافة والجمال وهي من خرج منها عدد من الفنانين من بينهم الفنان الكبير الراحل العطبراوي، الذي تَغنّى لخُرُوج المُستعر واستقلال الوطن، فسطّر لنفسه تاريخاً مُشرفاً ناصع البياض في تاريخ الغناء السوداني، ولا ننسى شُعراءها الذين نهلوا من ذات المعين، لذلك لم يكن غريباً عليها أن تُعلن عن تسييرها لموكبٍ ضخمٍ عبر القطار لمُشاركة فرحة الانتصار ليظل الجميع مُترقِّباً ومُتلهِّفاً لذلك اللقاء العَظيم.. ومنذ أعلن القطار بصافرته وصوله إلى الخرطوم وتحديداً الشارع المُؤدِّي إلى القيادة العَامّة، حيث مَكان الاعتصام، تأهّب الجميع لاستقباله بالدُّفوف والأُغنيات والأناشيد الوطنية استقبال الفاتحين، في مشهدٍ وتلاحُمٍ وطني بديعٍ، وكانت الدموع سيدة الموقف في مشهدٍ مُؤثِّرٍ يحكي عن عظمة هذا الوطن وإنسانه. (2) بالمُقابل، كان الطرف الآخر أهل عطبرة أكثر حماساً ووطنيةً وهُم يحملون الأعلام، مُلوِّحين بها، ويفتحون قلوبهم قبل أذرعهم لاحتواء هذا الاحتفاء الذي يُعتبر دعماً للثورة، التي كانت بدايةً للتغيير ودُخُول البلاد مرحلةً جديدةً بعد إزالة النظام السّابق. (3) مشهد طلاب الجامعات والشيوخ وحيران الخلاوي وأطفال الشوارع وفاقدي السند والنساء والشيوخ، شَكّلَت لوحةً جميلةً من مُكوِّنات المجتمع السوداني مُختلف السُّحنات والعادات والتقاليد، جميعهم كانوا على قلب رجلٍ واحدٍ وهم يُوحِّدون هتافهم وهدفهم من أجل الحُرية والسّلام والعَدالة. (4) تلاقت الأرواح والأجساد وهُم يُهنئون بعضهم بالفَرح والانتصار الكبير، ولم ينسوا أن يترحّموا على أرواح شهداء الثورة المجيدة وهم يحملون صُورهم مُردِّدين (الدم قصاد الدم.. ما بنقبل الدية) وفاءً وعرفاناً لهم.. ولم تغب عزة (الكَندّاكة) عن المشهد فهي تُعتبر وقود هذه الثّورة وكانت حَاضِرَةً ب(زغرودتها) وهي تلهب حَمَاس الثُّوّار وهتافها الثّوري القَوي ووقفتها وصُمُودها منذ اندلاع الثورة حتى سُقُوط النظام. (5) ارتفعت اللوحات والشعارات عالياً التي تُغازل عطبرة تلك المدينة الصامدة عاصمة (الحديد والنار)، شعارات تحكي عن عظمة المدينة ورجالها الأقوياء وحَرائرها الشرفاء الذين كوّنوا حَبّات عقد منظوم على جِيد الثورة فزيّنتها، كذلك كانت أُغنيات العطبراوي حَاضرَةً (أنا سُوداني أنا) وأغنية (قطار الشوق) التي صَاغَ كلماتها الشاعر علي محجوب عبد الرحيم وَتَغَنّت بها البلال، وأغنية (عطبرة) التي ظَلّ الثُّوّار يُردِّدون بعض أبياتها بصوتٍ قوي وجهورٍ يُدغدغ الدّواخل (لمّا القطار صفّر وقف.. بهرتني صُورة عطبرة.. دي محطة الوطن الكبير كانت تضج مُتحضِّرةً).