في مرتين اتصل عليَّ الأخ العزيز الطاهر المرضي بقناة الجزيرة لطلب إفادة حول المفاوضات بين دولتي السودان، وكنت أعتذر لوجودي في الخارج ، وأرد عليه ممازحاً : (بإمكانك يا الطاهر الاستعانة بأي إفادة إرشيفية سجلتها لكم في جولة سابقة، فلن يلاحظ أحد بأنني أتكلم عن الماضي، لأن الأزمات ذات الأزمات، والأسئلة هي الأسئلة، لذا فالإجابات لن تكون غير الإجابات المعروفة والمحفوظة والمتكررة). وبقراءتي اليوم للبيان الصادر عن الوسطاء حول الجولة الأخيرة بين الرئيسين (البشير وسلفا كير) ، كنت أبحث عن ما هو جديد ولم يكن حاضراً في اتفاق سبتمبر الماضي الذي كنا ضمن شهوده في شيراتون أديس أبابا، كما هو متوقع لا يوجد جديد سوى التأكيد على ما تم الاتفاق عليه سابقاً. قناعتي الراسخة أن المشكلة الأساسية لا توجد داخل غرف التفاوض ولا بين الرئيسين (البشير وسلفاكير) بل هي موجودة في الواقع الميداني المعني بتنفيذ ما هو متفق عليه. في السابق كانت الحكومة في الخرطوم تتردد كثيراً في الاتفاقيات مع جوبا، لوقوعها تحت ضغط وابتزاز بعض الجهات المتطرفة ولكنها تبدو الآن بعد دخول الرئيس البشير لغرف التفاوض أقل تأثراً بآراء تلك الجهات والتي أصبحت هي كذلك أكثر لطفاً في توجيه الانتقادات! ولكن المشكلة الآن في سلفا كير في الجنوب، فهو لا يملك الإرادة النافذة والقوة الناجزة التي تمكنه من تنفيذ ما اتفق عليه قبل أن يضمن رضاء كل جنرالاته! الرجل لا يملك كاريزما قرنق ولا قوة شخصيته وشدة قبضته التي كانت تجعله قادراً دوماً على بلوغ مراده دون أن يُكثر الالتفات إلى الوراء. سلفا يعالج الأزمات على طريقة السلاطين، بالرهان على الزمن وبهدوء حذر كأنه يدخل يده وسط أوانٍ زجاجية، كل شيء فيها قابل للكسر، فهو يتجنب حدوث توترات وانشقاقات خاصة في الجيش الشعبي الذي من الواضح أن بعض جنرالاته لهم تحفظ على اتفاق (أديس سبتمبر). فأبناء دينكا أنقوك لن يتسامحوا مع فكرة إنجاز ملف التسوية الشاملة بين الخرطوموجوبا وإرجاء الحل النهائي لأبيي إلى ما بعد التسوية، لأن قناعتهم الراسخة أن تأجيل أو تأخير قضيتهم سيضعها في مهب الريح التي ستبعثر أوراقهم في الهواء وتنثر دقيقهم على الشوك. كما أن بعض جنرالات دينكا ملوال لهم موقف سلبي من الانسحاب من منطقة 14 ميل، فقد تعالت أصوات الاحتجاج راعدة بجوبا ضد اتفاق أديس، ليس فقط من المعارضة بل من داخل حكومة سلفاكير والجيش الشعبي. فقد دعا حاكم ولاية شمال بحر الغزال بول ملونق أبناء المنطقة لوأد الاتفاق بكل السبل، وقال في مؤتمر صحفي بجوبا وقتذاك إن أبناء المنطقة وجميع العسكريين فيها يرفضون الترتيبات الخاصة بشأن وضعية «14 ميل» واعتبارها منطقة منزوعة السلاح. لكل ذلك حرص سلفاكير في هذه المرة على اصطحاب عدد مقدر من أبناء دينكا أنقوك ودينكا ملوال إلى اجتماع أديس ليضمن رضاءهم على ما سيتفق عليه مع الرئيس البشير، وسننتظر ليس لأكثر من 48 ساعة إذ سرعان ما ستخرج التصريحات لتوضح رضاء أو رفض الجنرالات لمخرجات لقاء الأمس.