يامحمود..(البي أوصلو كيف)؟ توجست جداً وانا أشاهد رقم الصديق العزيز محمد بابكر الامين العام لمجموعة محمود في القلب يتصل بي في وقت مبكر من صباح الخميس الماضي.. ترددت قليلاً قبل ان اضغط زر الرد.. دقائق معدودة حتى اتاني صوته من على الجانب الآخر متهدجاً تصاحبه عبارة واحدة: (يادندش..محمود مات)..لدقائق ظللت أحدق في الهاتف كالابله..قبل ان اغلق الخط بلا وعي. تحركت صوب التلفاز ادرت الريموت نحو القنوات الفضائية..وجدت مذيع النيل الازرق محمد محمود (حسكا) وهو غارق في دموعه وبجانبه استاذنا المهذب الزبير سعيد..جلست منهاراً على اقرب مقعد صادفني وظللت اتابع الشريط الالكتروني وهو ينعي الفنان محمود عبد العزيز..تلفت حولي في الغرفة فوجدت اشقائي غارقين في دموعهم وهم يتابعون الخبر..نهضت بتثاقل غريب..قدماي ترفضان المسير وكأنهما مكبلتان بقيود من فولاذ..ارتديت ملابسي..وتوجهت للمزاد..وهناك فقط اصبت بالانهيار كلياً ولم تجد مع دموعي كل وصفات التماسك وانا اشاهد (الحواتة) يفترشون الحزن..ويلتحفون الدموع. نعم..مات الحبيب (المحمود)..رحل عنا بجسده..ولكن روحه ستظل للابد ترفرف حولنا..تمنحنا السكينة ونحن نستمع ل(ماتشيلي هم)..وتعطينا الإرادة ونحن ندندن مع (سيد الغناء) أغنية الحلم الجميل..ونستعيد ذكرياتنا معه كلما لامست آذاننا رائعة عزمي احمد خليل (طروني ليك)..وهكذا الحبيب (المحمود) كما عهدناه.. لايترك لنا شبراً إلا ووضع لنا فيه نسمة من رائحته العطرة ومن فنه الراقي. كلنا نحب (المحمود)-حتى وإن كان بعضنا لايستمع له- فإنه يجد نفسه مجبراً على منحه حقه كاملاً غير منقوص قدر الموهبة..فهذا تاريخ..والتزوير فيه ممنوع..والنكران فيه جحود بائس لاينفع ولايزر..والمكابرة كذلك تخصم من صاحبها الكثير من الاحترام..لأن المكابر في تأثير وبصمة محمود الفنية اعمى البصر والبصيرة. لن احكي لكم عن استقبال جثمان الراحل بالمطار..فكلكم كنتم هناك..ولكني سأحكي اليوم عن (وجع) تملكني وأنا اشاهد الغياب لمفردة (الزمالة) -على اقل تقدير- من مطربين، داسوا على جراحنا ونحن نواري الجسد الطاهر الثرى بمقابر الصبابي، وهم يغنون بمدينة بورتسودان في حفل صاخب، أظن أن الولاية لم توفق في ميقاته ولا في طريقة ادارته، وهي تعلم تماماً بالجرح الذى يعتصر الملايين من هذا الشعب. تغني نانسي عجاج ويغني مجذوب اونسة في نفس التوقيت الذى كنا نشيع فيه محمود..فهل بعد هذا حديث؟..وهل سيطلب منا الكثيرون من (الحالمين يقظة) بعد ماحدث أن نتحدث عن الفن بإحترام؟..وهل ترك لنا اولئك مبررات لنغسل بها وجه الحقيقة المرة..؟..بالتأكيد لا..وبالتأكيد إننا بتنا نعيش في زمان ليس ككل الازمنة..لقد بتنا نعيش في زمان غابت فيه مفردة الوفاء عن الحضور بأمر المال..- فالمبرر الوحيد الذى ساقه لي بعض (المشفقين) على اولئك المطربين انهم ملتزمون بإتفاق مسبق-..وسنسأل بدورنا هل ذلك الاتفاق المسبق يعرض المطرب (للإعدام) إذا رفض ان يغني بسبب رحيل زميل له في المهنة-وهو ليس زميلا فحسب بل فنان تشهد له المسارح بطولها وعرضها بالتفوق والنبوغ والجماهيرية-. انا متأكد أن حكومة ولاية البحر الاحمر ممثلة في وزارة ثقافتها ووزيرها الصادق المليك لم تدرج ضمن بند الاتفاق مع اولئك المطربين جزئية تختص ب(إعدام المتنصل) من اداء الحفل.. وإذا أدرجت الوزارة مثل ذلك البند فلتحدثنا، وإلا فليصمت الجميع..لأن الصمت في مثل هذه الحالات أفضل بكثير من البحث عن مبررات واهية لاتمت للحقيقة بصلة. وماحدث ببورتسودان (كوم)..وماقام به تلفزيون السودان القومي (كوم تاني)..وهو يتغاضي عن الحدث بصورة مخجلة جداً..لكنها ليست غريبة على تلفزيون (محمد حاتم)..والذى إعتاد على التغريد خارج السرب في مثل هذه الاحداث..والتى أظن انه لو إهتم بها ولو بنسبة 1% من إهتمامه بإتفاقياته (الملغومة) لأستحق الإحترام منذ زمن طويل، ولكن ماذا نقول؟ وماذا نحكي؟ فمؤسسة إعلامية تقوم بفصل كوادرها ب(الجملة)، وتسعى بإستماتة لفرض ضريبة (مشاهدة) على المواطن السوداني، ليس غريباً عليها على الاطلاق ان تغيب عن أبرز الاحداث وتتعامل معها ب(القطارة)-وليتها كانت قطارة لها وزن-. وكالعادة...وكما توقعنا..تسارع بعض (مستثمري الاحزان) لحجز مواقعهم في تشييع الحوت..بذات الوجوه (اللامعة) والعيون (الكاذبة)..وبنفس الطريقة التى يتعاملون بها مع مثل تلك المواقف الحزينة..ولكنهم هذه المرة كانوا اكثر حذراً..فهم يعلمون جيداً ماذا يعني (التملق) في وفاة شخصية كمحمود..لذلك كانت إطلالتهم اكثر خفوتاً..واحاديثهم (السمجة) اقل ظهوراً..والحمد لله على ذلك..(غايتو ربنا شافكم). جدعة: شكراً مذهباً للفنان القامة الكبير ابو عركي البخيت وهو يقوم بإلغاء حفله الجماهيري بسبب حزنه على محمود...وشكراً لنادي المريخ العظيم وهو يقوم بإلغاء (برمجة الحفلات) من إحتفاله بإستقبال النجوم الجدد...شكراً لقناة النيل الازرق وهي تضع برمجتها الكاملة تحت عنوان باذخ وفاء للحوت..ويمتد الشكر لقناة الشروق والتى قامت بالغاء برمجتها الرئيسية وواكبت الحدث بالكثير من المهنية...شكراً لكل هؤلا...فهم فقط من يمنحونا الضوء في مسارات تضج بالعتمة. شربكة أخيرة: الرحمة والمغفرة لفقيد الشباب محمود عبد العزيز، وطرح الله الخير والبركة في ابنائه، وفي اهله، وفي جمهوره الذين نقول لهم كما قال محمود: (ابقوا الصمود.. ماتبقوا زيف.. وابقوا احتمال نبض الحروف)..ولنا عودة بهدوء لكل من (اشباه المغنيين) وعاشقي (الشو) وناكري الجميل...فقط انتظرونا.