هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته استضافَ مركز دراسة الإسلام والديموقراطيَّة بتونس الزعيم الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي في مُحاضرةٍ بعنوان (العلمانيّة وعلاقة الدين بالدولة من منظور حركة النهضة) قدَّم فيها رؤىً وأفكاراً حول قضايا الديموقراطيَّة والعلمانيَّة والمُواطنة والرِّدة, وهى رؤىً جديرة بالنظر والمُناقشة سيَّما وأنها تخالف رؤى أطيافٍ عديدة داخل مُعسكر الإسلام السياسي. تختلفُ التيارات المنضوية تحت لواء الإسلام السياسي حول قضيَّة نظام الحُكم وطريقة اختيار الحاكم, فمنها من يُنادي بتطبيق "الشورى" كطريقة لاختيار الحاكم ولكنها لا تملك تصوُّراً واضحاً ومُفصلاً للكيفية التي يتمُّ بها تطبيق الشورى, وهل هى ملزمة أم غير ملزمة؟ ومنها من يقول إنَّ الديموقراطيَّة كفر صراح, وبعضها يقبلها على مضض ولكنهُ يقول إنها تتضمَّن معنىً كفريا. إلا انَّ الشيخ الغنوشي يُعلن انحيازه الكامل للديموقراطيَّة نظاماً للحُكم, والانتخابات وسيلة لاختيار الحاكم ويقول: (غير أنّنا إذا إحتجنا إلى سنِّ قانون في ظِلِّ هذا التعدُّد لا بدَّ لنا من آليّة, ولعلّ أفضل آليّة توصّل إليها البشر اليوم هي الآلية الديمقراطية والآليّة الإنتخابيّة التي تفرز مُمثِّلين للأمّة بما يجعل الاجتهاد اليوم ليس اجتهاداً فردياً وإنّما جماعياً يقوم به ممثلو الأمّة المنتخبون وذلك في غيّاب كنيسة تمثل المقدّس فوق الأرض, وليس هناك من ناطق باسم القرآن والإرادة الإلهية. الإرادة الإلهية تجلّيها الوحيد في الأمّة التي تعبِّر عن الإرادة الإلهيّة من خلال تدافعها وليس من خلال احتكار إمام أو حزب أو دولة). انتهى يؤكدُ الغنوشي – خلافاً لتياراتٍ داخل مُعسكر الإسلام السياسي – أنَّ مُهمَّة الدين لا تشملُ تعليمنا طرائق الحُكم ووسائلهِ, بل يُعطينا قيماً اخلاقيَّة توجِّهُ تفكيرنا, ويقول: (ليس من مهمة الدين تعليمنا أساليب الزراعة وأساليب الصناعة وحتى أساليب الحكم وكيف ندير الدولة لأنّ كل هذه تقنيّات, والعقل مؤهل فيها إلى أن يصل إلى الحقيقة من خلال تراكم التجارب. مهمّة الدين أن يجيبنا عن القضايا الكبرى التي تتعلّق بوجودنا, أصلنا, ومصيرنا والغاية التي خُلقنا لأجلِها وأن يعطينا نظام القيم والمبادئ التي يمكن أن تمثل توجيهات لتفكيرنا وسلوكنا ولأنظمة الدولة التي نسعى إليها). إنتهى ينفي الشيخ الغنوشي أن تكون العلمانيَّة فلسفة "إلحادية" كما تقول وتدَّعي بعض التيارات داخل مُعسكر الإسلام السياسي, ويؤكد أنها – أي العلمانيَّة - ظهرت وتبلورت في الغرب كحلولٍ إجرائيّة وليست كفلسفة أو نظرية في "الوجود" بقدر ما هي ترتيبات إجرائية لحل إشكالات طرحت في الوسط الأوروبي. يؤكد الشيخ الغنوشي أنهُ لا توجد صيغة واحدة ونهائية للعلمانيَّة بل إنَّ تطبيقها يتغيَّر مع السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية بين مُختلف الدول, كما أنه لا يوُجد تصوَّرٌ صحيحٌ واحدٌ للإسلام وما عداهُ خطأ, فالتصُّورات تختلفُ باختلافِ الأفهام, ولذلك يُمكننا الحديث عن أكثر من إسلام. يقول الشيخ الغنوشي: (نحن لسنا إزاء علمانية واحدة بل إزاء علمانيّات, وكذا الإسلام أيضاً بحكم ما هو مطروح في الساحة نحن إزاء أكثر من إسلامٍ واحدٍ أي أكثر من فهم). إنتهى وبينما يرفض الشيخ الغنوشي قبول العلمانية بمعنى "فصل الدين عن الحياة", فإنهُ يدعو "للتمييز" بين الدين والسياسة ويقول إنَّ السبيل للوصول لمعادلة تضمن فيها حُريَّات الناس وحقوقهم وهي المقاصد التي جاء من أجلها الدين هو (الرجوع إلى موضوع التمييز بين الدين والسياسة ونحتاج إلى ضبط ما هي ثوابت الدين وما هي متغيّراته؟). إنتهى إنَّ الزعم بأنَّ العلمانيَّة تعني الفصل بين الدين والحياة هو – كما يقول الدكتور عبد الله النعيم – قولٌ ضال ومُضلِّل وغير عملي. فحقيقة الأمر أنَّ الأخلاق المُستمَّدة من مصادر دينية هى أساس الحكم والقضاء والاقتصاد وباقي الأمور المتعلقة بالصالح العام. ولهذا فإنَّ الدين يتخلل جميع جوانب الحياة العامة للمجتمع. ففي مختلف القضايا التي تواجه المجتمع, من ضبط الإجهاض وحضانة الأطفال بعد الطلاق, إلى تنظيم التأمينات الصحية أو العقوبات والسياسات العقابية, كلها أمور تحتاج للنظر الأخلاقي العميق الذي يمارسهُ أغلب المواطنين من خلال معتقداتهم الدينية, وهكذا فلا يُمكن للعلمانيَّة إقصاء الدين عن الحياة العامة. يقول الشيخ الغنوشي إنَّ الدولة منتوجٌ بشريٌ والدِّين تنزُّلٌ إلهي وأنَّ (الدينُ مدارهُ الأساسي ليس أدوات الدولة وإنما القناعات الشخصية، أمّا الدولة فمُهمّتها تقديم الخدمة للناس قبل كلّ شيء كمواطن الشغل والصحة الجيّدة والمدرسة الجيّدة أمّا قلوبهم وتديّنهم فأمرها لله). انتهى. يربطُ الشيخ الغنوشي نظرتهُ لعلاقة الدين بالدولة بالمقاصد الكليَّة للدين ويقول: (إنّ المقصد الأسمى لنزول الرِّسالات هو تحقيق العدل ومصالح النّاس, هذه المصالح تتحقق من خلال إعمال العقل في ضوء موجِّهات, مقاصد, مبادئ وقيم الدّين. لذلك ظلّ هنالك مجال للمعاملات يعرف تطوّراً مستمراً ومنه نظام الدول وهذه تمثل المتغيّرات, بينما ما هو عقدي وشعائري وما هو قيمي أخلاقي يمثل الثوابت). إنتهى و بينما تعترضُ العديد من التيارات داخل مُعسكر الإسلام السياسي على القبول بمبدأ "المُواطنة" كأساس للحقوق والواجبات داخل الدولة وتطالب بأن تكون "العقيدة" هى مناط ذلك, فإنَّ الشيخ الغنوشي يُعلنُ إنحيازهِ الصريح لمبدأ المواطنة ويقول: (بما أنّ ثورتنا نجحت في الإطاحة بدكتاتور ينبغي علينا أن نقبل مبدأ المواطنة وأنَّ هذه البلاد ليست ملكاً لزيدٍ أو لعمرٍ أو لهذا الحزب أو ذاك ولكنّها ملك لكلّ مواطنيها وهم جميعاً بغضّ النظر عن معتقداتهم أو أجناسهم إن كانوا ذكوراً أو إناثاً، الإسلام يمتّعهم وأعطاهم الحقّ أن يكونوا مواطنين يتمتعوّن بنفس الحقوق, بأن يعتقدوا بما شاءوا ضمن إطار إحترامهم لبعضهم البعض وأن يتصرّفوا وفق القانون الذي هم يسنّونه عبر ممثّليهم في البرلمان). إنتهى يؤكُد الشيخ الغنوشي أنَّ "الحُريَّة" (هي القيمة الأساسية التّي يلجُ بها الإنسان دار الإسلام، فالناطق بالشهادتين يُعبِّر عن قرارٍ إختياريٍ وفردي يقوم عن وعي وبيِّنة. ولذلك فالدولة مُنتسبة للإسلام بقدر ما تحرصُ على أن تتماثل بقيمهِ دون وصايةٍ من مؤسسةٍ دينيةٍ لأنّه ليس هناك مثل هذه المؤسسة في الإسلام بل هناك شعبٌ وأمّة يقرِّران لنفسهما عبر مؤسساتهما ما هو الدين، فأعظم قيمة في الإسلام هي قيمة الحُرّية؟). إنتهى وبناءً على ذلك فإنَّ الشيخ الغنوشي – خلافاً لما تقول به العديد من تيارات الإسلام السياسي - يدعو لحُرية "الاعتقاد", وأن يكون من حق الإنسان دخول الإسلام أو الخروج منهُ بحُريَّة ودون أن يتعرَّض لما يُعرف بعقوبة "الرِّدة" وفي هذا الإطار يقول الشيخ الغنوشي: (ولذلك أنا عارضت كلّ سبيلٍ لإكراهِ الناس على أيّ أمرٍ وطرحتُ موضوعاً شائكاً في بعض المواطن وهو ما يُسمّى بالردّة بمعنى أنّ مُهمّة الدَّولة أنْ تحدّ من حُرّية الناس في الإعتقاد. إذا كان مبدأ لا إكراه في الدين متفقاً عليه فقد دافعتُ عن مبدأ الحرِّية في الإتّجاهين: حُرِّية الولوج في الدين ومغادرته لأنّه لا معنى لتديُّن يقوم على الإكراه، لا حاجة للأمَّة الإسلامية بمنافقٍ يُبطنُ الكفر ويُظهرُ الإيمان والإسلام لأنّهُ لم يتعزَّز صفّها بإضافة من هذا القبيل). إنتهى في هذا الخصوص يجب أن نشير إلى أنَّ أهل حكومة الإنقاذ الذين يُصنفون داخل مُعسكر الإسلام السياسي ضمن ذات المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الشيخ الغنوشي وجماعتهِ يُطبِّقون حد الرِّدة الذي ورد النص عليه في المادة (126) من القانون الجنائي السوداني لسنة (1991), والتي تنصُّ على الآتي: (يُعد مُرتكباً جريمة الرِّدة كلَّ مُسلمٍ يُروِّج للخروج من ملة الإسلام أو يُجاهر بالخروج عنها بقولٍ صريحٍ أو بفعلٍ قاطع الدلالة. يُستتابُ من يرتكب جريمة الرِّدة ويُمهلُ مُدة تقررها المحكمة فاذا أصرَّ على ردته ولم يكن حديث عهد بالاسلام يُعاقبُ بالإعدام. تسقط عُقوبة الرِّدة متى عدل المُرتد قبل التنفيذ). إنتهى لا شكَّ أنَّ آراء الشيخ راشد الغنوشي تتسَّم بالكثير من الانفتاح والاعتدال, ومحاولة مواءمة الفكر الإسلامي مع روح العصر, وهي آراءٌ ستتعرُّض للاختبار الحقيقي في التطبيق العملي من خلال تجربة حركة النهضة التونسيِّة في الحُكم, وهى التجربة التي يؤمل الكثيرون – حتى داخل تيارات الإسلام السياسي – أن تقدِّم نموذجاً مُختلفاً من الذي قدَّمتهُ التجربة السُّودانية المُستمرَّة منذ يونيو 1989.