أهل التشكيل والرسم دائماً ما يحدثوننا أن الفن يُحس ولا يُشرح، خاصةً وأن تكون أمام لوحة سريالية طلسمية الألوان والخطوط ومتداخلة الأشكال والرموز، عندها عليك مغادرة محطة الاستغراب اللحظي والولوج بهدوء إلى عالم الاستغراق والتخيل والتحسس الذي حتماً سيقودك إلى آفاق التذوق وقمم المتعة، والأهم من ذلك الانطباعات التي ستتركها اللوحة في نفسك. اللوحة الشهيرة والوحيدة التي تجسد مقتل الجنرال/ تشارلز جورج غوردون على عتبات القصر في 26 يناير 1885م هي عمل فني مكتمل بكل المقاييس والمعايير لكنه ينتمي إلى (مدرسة الكذب).. غوردون مرتدياً بذته الرسمية كاملةً ويقف بشموخ في قمة السلم وينظر إلى الثوار من علٍ وكأنه سينتهرهم بأن أوقفوا هذا العبث الذي تعبثون، هكذا صوّرت اللوحة (الفرية) لحظة مواجهة بطولية زائفة للموت، وتماسك مختلق لغوردون ساعة المصير. الخرطوم ترزح تحت الحصار القاسي تقول يوميات (25 يناير) وهي الساعات الأخيرة قبل هجوم المهدي (مرجعية جمال الشريف): دخل البرديني بيه (مساعد للجنرال) إلى القصر ووجد غوردون يشعر بالضعف وإن موارده شارفت على الانتهاء ليس في الطعام فقط وإنما في الصحة والشجاعة والثقة وشاب رأسه نتيجة للإجهاد، وقال البرديني إن غوردون قال له صائحاً: ليس لدي أي شيء أقوله سوف لن يصدقني الناس بعد الآن، لقد أخبرتهم مراراً وتكراراً أن المساعدة ستأتي (حملة الإنقاذ) ولكنها لن تأتي أبداً، والآن لابد من رؤية أنني كذبت عليهم، اذهب واجمع ما تستطيع من الناس وحسِّن الوضع، أتركني الآن لأُدخن هذه السيجارة. وأضاف غوردون أيضاً: من الصعب إرسال كل القوات والمواطنين إلى الدفاعات لأنهم ضعفاء جداً ولا يستطيعون السير، لقد ترك معظم الجنود الجوعي حصونهم من أجل البحث عن الطعام واليأس يكسو جميع الوجوه. أمضى غوردون بقية يومه بالقصر يدخن أحياناً ويجلس في أعلى القصر أحياناً أخرى حتى غط في نومٍ عميق عند منتصف الليل نتيجة للإرهاق والتعب. تعددت الروايات التي تحكي تفاصيل لحظة مقتل غوردون ولكنني استناداً على ما أوضحته الوقائع السابقة أميل إلى الرواية المنسوبة للدكتور جعفر ميرغني والتي تقول: إن غوردون اقتلع من غرفته وهو بملابس نومه (وجُرجِر) إلى أسفل الدرج وذبح عنده.. وأشير إلى لوحة أخرى تظهر مجموعة من الأنصار يحملون رأس غوردون في (خرقة) ويعرضونه أمام سلاطين باشا الأسير، ومن الواضح أنه لمزيد من التأكد أن من قتل هو غوردون. حاولت الريشة التي صورت المشهد الكاذب لمقتل غوردون أن تخفي جرح الكرامة الغائر الذي أصاب الملكة فكتوريا - التي كانت الداعم الأقوى لفكرة إرسال غوردون إلى السودان - وأرادت هذه الريشة أن تخفف من آثار الصدمة والإنكسار الذي أصاب الرأي العام البريطاني بهذا الحدث المجلجل الذي كاد أن يطيح بحكومة رئيس الوزراء جلادستون التي نجت من سحب ثقة مجلس العموم ببضعة أصوات، كذلك عمدت هذه الريشة إلى تشويه تاريخنا الملئ بالبطولات والتضحيات في سبيل العزة والسيادة والاستقلال. اليوم 26 يناير تمر مائة وثمانية عشر عاماً على تحرير الخرطوم وعلي هزيمة الامبراطورية العجوز بمقتل رمزها الدولي الباسل الجنرال غوردون على هذه الأرض،، وبعد إزالة تمثاله الشهير الذي كان منصوباً بميدان وزارة المالية الحالية، وتصفية كليته التذكارية لتأخذ اسم العاصمة المحررة (الخرطوم) لم يبق من ذكراه إلا لوحة كاذبة، وحجر تذكاري من الرخام يشير إلى موقع مقتله، وبيانو كلاسيكي يحتضنه متحف القصر الجمهوري،، أعدت نشر هذه المادة تزامناً مع ذكرى السادس والعشرين من يناير 1885م ذكرى تحرير الخرطوم وسقوط أقوى رموز استعمار ذلك العصر الجنرال تشارلز جورج غوردون،،، وإلى الملتقى. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته .