تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من صفحات التاريخ .. (فتح الخرطوم).. وجه للصراع على ضفتي النيلين


تحقيق: عادل حسون
تكتسب العملية الحربية التي وقعت في الخرطوم نهاية القرن التاسع عشر وعرفت بفتح الخرطوم في المصادر الوطنية للتأريخ وسقوط الخرطوم لدى المصادر الأجنبية، أهمية كبرى في الوقت الحالي الذي تمر به البلاد، لأسباب عديدة اجتماعية مشروعة، وسياسية بالأساس، تعرض لها بالمحاولة أو تناقشها بالضرورة هذه السطور القادمة. المعركة التي وقع فيها سودانيون ضد بعضهما البعض عند ملتقى النيلين خلف مشروعين، أدعى فيه كلٌ الشرعية الدينية والسياسية بالتبعية، الحكومة الخديوية والثورة المهدية، ومضوا فيهما بإصرار خلف المدافع والبنادق النارية، لإثبات مشروعية كلّ من خطابيهما، ذلك المسنود بالأسانيد الشرعية من وجهة نظر كل منهما بطبيعة الحال، في ذات الوقت الذي كان فيه العدو يحيط بهما من كل الجوانب. وتكتسب إعادة قراءة وقائع تلك المعركة من صفحات التاريخ أهمية أخرى بدورها، لتشابه الماضي مع الحاضر، بالقدر الذي يجعل من التشبيه عملا مناسبا للتفكير في كيفية مواجهة المستقبل كسودانيين موحّدين، بدون الانقسام في مشروعي الاستقلال والوطنية، الذي عادة ما قاد الوقوع فيه، إلى الصراع المسلح بين السودانيين بعضهم البعض.
1.
قلق الرجل المعتاد وفخ الشياطين
وعندما يتفكر رجل الشارع العادي المواطن المعتاد المشخص في (محمد أحمد) وهو في خريفه الخمسين وأنجاله الأربعة يتلقون التعليم في مراحله الأساس والثانوية والجامعية والعليا أيضاً، بالخرطوم أو حواضر السودان المختلفة، ظنوناً في الخطر المحدق بالأمة والبلاد،
وعندما تكون تلك الأخطار من تلقاء أمريكا أو إسرائيل، بريطانيا وأوروبا- الحبشة على ما واجهنا كأمة سودانية أو كآخر من لقينا تحت علم موحد-قبل بطولات "كرري" المجيدة..
أو إذ كان الخطر من تلقاء مصر، وقد لقيناها في واقعة توشكي تحت راية ود النجومي وخليفة المهدي ودولة المهدية الإسلامية في السودان في 1896م- ولكن، باستبعاد ذلك على المدى المعقول، بوصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في الكنانة المحروسة، وتنامي الإحساس بعامة عن سابق تصور لتوأمة، أو وحدة، بين المنبعين الحركيين الإسلاميين الحاكمين في السودان، وتاليا في البلدين، في هذه السنوات،
عند ذلك:- يهبط الرجل (الأغبش) بمخاوفه إلى رؤية خط سير الحكومة الحالية التي أعلنت في كتاب تكليفها بالحكم والإدارة ++أنظر تصريحات وزير الإعلام الأستاذ عبد الله مسار غداة إعلان التشكيل الحكومي الأخير ديسمبر 2011م++ أنها تعمل لتواجه "خطر تحالف الطوق الامبريالي الصهيوني". وهو ذلك التحالف الذي يُظُّن بأنه يعاديها منذ حين..
وإذ ذاك، ومع وقع وصف العدو (الطالوتي) الممثل عندها محادا بأمريكا أو الغرب الصهيوني ودولة إسرائيل الإرهابية، قد يتفكر ذاك الرجل الخمسيني، في استرجاع درس تنظيف البندقية وتذكر معين الجهاد في سبيل الله.
فعند ذلك فهو بدايةً:- لا يستثار لديه سوى رغبة وحيدة هي البحث في مكونات قوة أمته ومكامن رباط خيلها (الجيش وسطوة القبائل، الزعماء الدينيين، ونفوذ الوجهاء من الإقطاعيين والتجار وأموال رجال المال، العلم والإيمان، الإرادة الموحدة..). المكامن، ليست تلك التاريخية فحسب، ولكن أيضاً المرئية مستقبلاً من وجهة إستراتيجية، كبسط مساحات البلاد الشاسعة وثرواتها البشرية والطبيعية المتعددة، ومن ذلك الناس المزدهرون بتنوع ثقافاتهم، الذهب والثروة الحيوانية على أنواعها، وتلك الإعدادية الصناعية منها كالأسلحة الدفاعية الميكانيكية الحديثة، والأخرى، الوجودية الموروثة، كأنهار النيل ورمال الصحراء وطول الساحل..
وعند ذلك بداً:- يكن استحضار عملية (فتح الخرطوم) الذي جرى في يوم 26 يناير سنة 1885م حجية وطنية لذاك السوداني، حيوية ودرس شنآن سياسي في الصراع الاجتماعي، قد يبدو مشابها للواقع الآني- وربما قد يحتاج هو ذاته لفهمه وترتيب أبعاده العسكرية والثقافية سنوات من الزمن- لكنه يسع أن يكون، فرضاً، مساقا مقبولا للتحول إلى عدة صد الخطر وإرهاب العدو حال الحاجة. وربما قد حاجت.
وعند تلك اللحظة تحديداً:- قد تلزم الإرادة للتفكر والتذكر لدى السوداني المعتاد السعي جدا ودأبا لقراءة ذلك التاريخ وكتابته أو إعادة كتابته أو صياغته.
فهو غير مكتوب وإعادة صياغته، ومنها الكتابة، فخٌ من عمل الشياطين. فالأمة لا تجلس لتكتب تاريخها من ظن وعي مصالحها العليا لتداري لأجل ذلك بعض ما فيه من سوءات. وإن فعلت، هوت في فراغ من التصورات الخاطئة للقصة الحقيقية عن تكوينها وبناءها ومن ثم حقيقة مكامن قوتها إن كان بإصلاح الخطايا أو تدارك متن التدبيرات. فشرط هذه العملية الواجب، من طبيعة الحال، هو، القراءة الموضوعية غير المنحازة بأي حال لحركة أي من وحدات وفئات، تلك الأمة، في مسرح ذلك التاريخ، وفعلهم الاجتماعي السياسي بالتتالي في سياقات الحوادث التاريخية المتتابعة- ومنها ما جرى في الخرطوم في ذلك اليوم من نهايات يناير في ذلك العقد من القرن التاسع عشر.
وفي ما جرى بالفعل، طيلة العقدين الماضية، تكرر الحديث الحكمانِ عند اجترار فعل "الوعد" مسبوقا بتعهد "لا بد" من إعادة كتابة التاريخ.
الأمة السودانية في حقيقة الأمر، طلب رئيسها المشير عمر البشير، من الهيئة التشريعية القومية (البرلمان الاتحادي)، بدء عملية كتابة ذلك التاريخ ++أنظر خطاب رئاسي في فاتحة الدورة الخامسة (أكتوبر 2011م)- المجلس الوطني- أم درمان++.
2.
الحرب الوطنية على مقرن النيلين
تمثل العملية الشهيرة التي عنونها التاريخ الوطني ب "فتح" الخرطوم مثالا جديا لمحاولة فهم معادلات الخطر التي واجهت الأمة السودانية في احد منعطفات التاريخ كمثل الذي حدد بمواجهة مثله الآن.. تناقض التأريخ كما يستشهد الإمام السيد أحمد المهدي في خطابه لصحيفة (الحرة) الصادرة في العاصمة السودانية الخرطوم المؤرخ من الملازمين- بقعة المهدي في يوليو 2012م- بما شهد به وأكد عليه بروفيسور بريطاني، وهو أستاذ التاريخ بجامعتي الخرطوم ولندن، ب. م. هولت، أن تاريخ المهدية كله "مأخوذ من كتب وضعتها المخابرات البريطانية التي لم تصدق القول" على حد قوله (أي هولت)، ومنها كتاب سير ونجت باشا "المهدية والسودان المصري" ثم كتاب رودولف سلاطين باشا "السيف والنار" وكتاب القس ألفريد أوهالدر "عشرة سنوات في سجن المهدي".
ولذلك نلحظ التناقض الكبير بين المصادر الأجنبية والوطنية لتأريخ حقبة "معركة الخرطوم" محل المثال الحال. فالحقيقة تقريبا تنازعت بين المصدرين الاثنين فباتت قناعات طلاب علوم التاريخ وباحثيه ودارسيه عبر الحقب، عن تناقض عموم الوطنيين وعدم التحام جماعتها في فكرة واحدة وطنية وقومية تعكس وحدة الأمة السودانية عبر القرون الماضية بسبب تناقض طبيعة الوقائع التاريخية ذاتها عبر الحقب المتتالية بالقدر الذي جعلها ملتبسة في قراءتها لمعركة الخرطوم بين كونها فتحاً أم سقوطاً. ولعّلها، تنازع الحقيقة والفهم، من معنىً مقابل، هي ذات المشكلة الوطنية طيلة العقود الأخيرة.
عبّر السودانيون عن ذلك التناقض المقعد وقد أفضى لحربهم على ضفتي النيلين عند الخرطوم، حين ردد خصوم الثورة المهدية في سخطهم مقولتهم "الدنيا مهدية" كناية عن الفوضى الشاملة. وعبّر أنصار المشروع الوطني للمهدية في قولهم "عشرة في تربة ولا ريال في طلبة" كناية عن كسب الجهاد غير الميال لمتاع الدنيا.
ولذا كانت العملية التاريخية عند مقرن نيلي الخرطوم حربية وفكرية في آن معاً. فعندما رفع أستارها دخان البارود وقعقعة السيوف، ومن خلفها المجتمع بتياراته الاجتماعية السياسية ضد بعضه من صدام وليد عدم استقرار لتصورات الاستقلال والاستعمار المتنازعة في الأفئدة لدى النخب والعامة، تبدى وجه الصدام الانقسامي البارز حين مضى كل فريق من الجمعين، مدعياً أنه على جادة الشرعة الصواب. مَن كان خلف ديم الإمام المهدي من السودانيين ضد من كان يحتمي وراء أسوار الخرطوم وسراي الجنرال غوردون مِن السودانيين.
وهي، وإن كانت مثالاً شبيها جدا لإعادة القراءة قبل إعادة الكتابة لتاريخ الأمة السودانية، كانت بداً درسا مماثلا لحرب السودانيين المستقطبين لمشروعي الاستقلال والاستغلال في وجه بعضهما البعض في وقتنا الحاضر.
وعلى ما سنؤكد حيناً:- فتلك حقبة كانت محمولة فعلاً بالمخاطر الاستعمارية المحدقة (بريطانيا- تركيا) على مولود المشروع الوطني الاستقلالي (مشروع المهدي السوداني) الذي غلب على وصفه أنه حاز أغلبية شعبية اصطفت خلف الإمام محمد أحمد المهدي، بما جاء به من خطاب ديني جديد ونظرية تحررية متطلع إليها شعبياً، على الرغم من الجدل حول شرعيتها أو اجتهادها أو كونها شكلاً من أشكال التجديف الديني.
ذلك يشبه الواقع إن مضينا أسرى نظرية (المؤامرة) فاستبدلنا مصر التي كانت أسيرة لدى الاستعمار- أو متواطئة معه لدى بعض المؤرخين حيث فتح السودان مرتين على مدى قرنين بحق الخديوي أسما وبفعل تركيا ثم بريطانيا حقيقةً- بدولة جنوب السودان، التي يخشى من لعبها ذات دور مصر في تلك الآونة مع الأمة السودانية في هذه الأوقات.
وبقراءة ذلك التاريخ معاً:- نلحظ مخاطر تلك الأيام المحدقة بالإمام المهدي وأنصاره، إذ كانوا يسابقون الزمن لفتح الخرطوم قبل وصول حملة إنقاذ الحكمدار غوردون الزاحفة عبر النيل والصحراء من مصر لفك حصاره وجنده من المصريين والسودانيين المجندين في الحكومة. ذلك أنها كانت حرب السودانيين المستقطبين حينها تنازعا في مباني حرب القبائل وطبقات الاجتماع السودانية في حمى الراية الخديوية برئاسة الجنرال تشارلز غوردون، في مقابلة الجمع الآخر بقيادة الثائر الإمام محمد أحمد المهدي وأنصاره إلى الله "الدراويش" كما وصفهم قلم المخابرات البريطانية، على نيل الخرطوم.
آية ذلك، أنه وحيثما غاب المشروع الوطني، وقعت البلاد نهباً للاستعمار. ومن ذلك، المشروع الاستقلالي المرتبط بعصمة القبائل على حبل الله جميعاً، أي مشروع الوحدة التي هي موصد لخطر الاستعمار. ولكن كان ما يجري على الدوام ما هو نقيض ذلك، كما في حملة الفتح واستعادة السودان بقيادة لورد كتشنر باشا، بالثأر من أتباع المهدي. وكما في تلك اللحظة التي دخلت فيها خيول الغازي محمد علي باشا، فوجدت القبائل تتناطح في فرقتها فغنمت أقاليم السودان وسكانه وقضت على مشروع (سنار) الاستقلالي الوطني.
وقد نتساءل عن إمكان حدوث ذلك، أي الوحدة العاصمة لمشروع الاستقلال، في الوقت الحاضر، مع حقيقة غياب وجود مشروع موحّد للأمة في ذلك الصراع الوطني على ضفاف مقرن النيلين ثم وما بعدها من حقب انتهاء بالماضي القريب والحاضر المعاش.
ولعّل إعادة قراءة صفحة من ذلك التاريخ، وتحت دخان المعارك الحربية على ضفاف النيل وغبارها في "فتح" الخرطوم و"سقوطها"، وبمراجعة الوقائع الحربية حول المعركة والخارطة الفكرية لقيادة المتحاربين، بل واختبار الدوافع النفسية لحركة أولئك الرجال على كواليس التاريخ وعلى خشبة مسرح الوطن، ربما قد يعيننا على تلك الإجابات.
3.
الإمام والجنرال.. وجه شبه
كان القائدان يتقدمان حثيثاً نحو الخرطوم عند وقت واحد تقريباً، (1884م)، منطلقين من يقين ديني لا يخالجه الشك. غوردون بنصرانيته الشديدة الإيمان، والمهدي بمشروعه الإسلامي ثوري الراية. الجنرال الانجليزي تشارلس غوردون باشا المعبّر عن الشرعية القانونية الراسخة بحق الخديوي في القاهرة، والإمام محمد أحمد المهدي، الممثل الوحيد للشرعية النضالية الشعبية الإسلامية التي أدعاها منذ واقعة أبا إلى أن وصل بجحافل جيوشه ليضرب حصارا محكما حول الخرطوم بقصد فتحها. حقاً، كان القائدان يتشابهان كثيرا في هدفهما النهائي، التمسك بالغاية السياسية المكيّفة من وجهة نظر دينية. فالمهدي المولود في العام 1843م بقرية لبب نواحي مدينة دنقلا في شمال السودان، المسماة جزيرة الأشراف، من أسرة اشتهر بأنها حسينية النسب، وكان أبوه فقيهاً، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وهو في الثانية عشرة من عمره، ومات أبوه وهو صغير فعمل مع عمه في نجارة السفن، ثم انقطع بعد ذلك مدة خمسة عشرة عاماً للعبادة والتدريس وكثر مريدوه، وتلقى تعليمه في خلاوي الخرطوم وخلاوي الغبش ببربر، ثم التحق بالطريقة السمّانية عام 1871م، كان متشددا في تمسكه بدينه ويدعي أنه يؤدي في صدق وإخلاص ما اختاره له الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، في مواجهة القس غير المرسم جنرال تشارلز غوردون، المولود في العام 1833م في ووليتش بلندن لأب عسكري هو اللواء هنري وليام غوردون، وتلقى علومه في مدرسة فولاندز في سومر ست وفي الأكاديمية الملكية العسكرية في ووليش. وبعد تخرجه منها برتبة ملازم ثان، ألحق بسلاح المهندسين الملكي عام 1852م ليكمل تدريبه في تشاثام. ثم رقي ملازم أول عام 1854م، وتلقى غوردون أول مهامه ببناء تحصينات في ميل فورد هيفن، بيمبروكشير في ويلز. وحين بدأت حرب القرم، أرسل غوردون إلى الإمبراطورية الروسية حيث وصل يناير عام 1855م. وكلف بالمشاركة في حصار سيفاستوبول وكذلك شارك بهجوم الريدان. شارك غوردون بالحملة الاستكشافية إلى كينبورن ليعود بعدها إلى سيفا ستبول في نهاية الحرب. وبعد تحقيق السلام ألحق بهيئة دولية لترسيم الحدود بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية في بيسارابيا. أكمل غوردون مسح المنطقة معلما الحدود إلى آسيا الصغرى. ثم عاد غوردون إلى بريطانيا عام 1858، وعين كمدرب في تشاثام. فرقي إلى رتبة نقيب في أبريل 1859م. ثم عمل قبل وصوله إلى الخرطوم يوم 18 فبراير 1884م ليشغل منصب حكمدار عموم السودان (الحاكم العام)، في فلسطين وجزر سيشل والصين التي أشتهرت به إذ قهر شعوبها تحت نيران السلاح والعنف والإبادة فأخمد ثورتها ضد بريطانيا بضراوة، عرف بأنه شخصية غامضة ومسيحي متشدد يؤمن بأن الموت باب حياة الخلد الأبدية في الجنة التي ستكون في جزر سيشل. وكان غوردون مغرما خلال عمله هناك بمنظر الثعابين المتدلية من أعالي أشجار النخيل لأنها تذكره بالجنة وتؤكد إيمانه بأن تلك الجزر موطنها. وعرف عنه كذلك احتقاره المال وترف الحياة الدنيا. المهدي بدأ حركة إصلاحية في وسط السودان. وفي سنة 1881م تلقب بالمهدي المنتظر، وأعلن مهديته بمهمة "إحياء الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما"، وكتب إلى فقهاء السودان يدعوهم لنصرته، وتطهير البلاد من مفاسد الحكام وانبث أتباعه بين القبائل يحضون على الجهاد. وعندما علمت الحكومة المصرية بأمره، أرسلت إليه عدة حملات عسكرية ولكنه انتصر عليها جميعاً فانقاد السودان كله للمهدي. فأرسل مكاتبات من طرفه للخديوي توفيق والسلطان عبد الحميد الثاني، وملكة إنجلترا يشعرهم بدولته، ومقر سلطنته، وضرب النقود باسمه. وقد بدأت الدعوة المهدية سرية ثم جهر بها، وخاض المهدي ومن تبعه ولقبوا بالأنصار جهادا ضد الدولة العثمانية ومن استعانت بهم من القادة الأوربيين انتهى بانتصار الثورة بفتح الخرطوم وقتل غوردون رغم نهي المهدي عن قتله-على ما رجح المؤرخون- ليستبدله بالثائر المصري أحمد عرابي باشا الذي نفاه البريطانيين إلى جزر السيشل. أما الجنرال غوردون، فقد عمل سابقا في السودان، حيث قلد منصب الحكمدار وطلب منه إصلاح نظام الإدارة، والقضاء على تجارة الرقيق والاضطرابات التي كانت تندلع شرق السودان وغربه بين الفينة والأخرى. كان ذلك في منتصف سنوات السبعين في ذلك القرن، لكن الخديوي توفيق استعان به كالخديوي إسماعيل، أي مرة ثانية، بعدها بأعوام، بعدما ساءت الأمور من سيء إلى أسوأ بسقوط الأبيض في أيدي قوات المهدية وتدمير الأنصار نهائياً جيش هكس باشا في موقعة شيكان 1883م. إذ آنذاك، توصلت بريطانيا إلى ضرورة إجلاء الحاميات المصرية بجندها وموظفيها، على أن تبقى في الحدود الشرقية عند سواكن ومصوع وموانئ البحر الأحمر. فأستحسن الخديوي إسناد تلك المهمة للجنرال غوردون باشا. كانت خسارة اللواء هكس باشا في شيكان قد أحدثت دويا كبيرا في القاهرة حيث تقدمت الوزارة برئاسة شريف باشا باستقالتها إلى جناب الخديوي الذي شكل مجلسا آخر برئاسة نوبار باشا الذي ندب لمهمة إنقاذ الحاميات والموظفين من السودان، عبد القادر باشا، لكنه رفض المهمة فأسندها نوبار باشا لتشارلز غوردون، الذي حضر من بلاد الانكليز في 25 يناير 1884م، أي قبل عام بالضبط على مصرعه على سلالم قصر الحكمدار في الخرطوم.
4.
المهدي وغوردون يقتربان من الخرطوم
في اليوم التالي لوصوله القاهرة من بريطانيا التقى غوردون بجناب الخديوي توفيق فأصدر له فرماناً بتوليته حاكماً عاماً مفوضاً على السودان مشفوعاً بأمر آخر كان مضمونه إرجاع الجنود والموظفين الملكيين والتجار إلى مصر وذلك مع حفظ النظام في البلاد بإعادتها إلى سلالة الملوك الذين حكموها قبل الفتح المصري ودخول محمد علي باشا السودان في 1821م. سار غوردون في 27 يناير من ذات العام إلى الخرطوم. كان مسير غوردون وجه آخر لمأساته بعد عام، إذ لم تصاحبه القوة الكافية لأداء مهمته، فما كان لرجل واحد مهما كانت قوته وحنكته السياسية سحب نحو 30 ألف من الجنود ومثل ذلك أو أزيد من التجار والموظفين يجابهون خطر الثورة المهدية التي وصل عديد جنودها إلى مئات الآلاف. بدا غوردون غير منطقي تماما حين استفتح بخطة بدت ساذجة للغاية مع اتساع نطاق الثورة. إذ أرسل ببرقية عند وصوله إلى أسيوط بصعيد مصر إلى حسين باشا خليفة مدير بربر يأمره فيها بإبلاغ الأعيان والعمد بتسميته والياً على البلاد. وأنه بوصوله سيعزل جميع الموظفين الأتراك والمصريين ويولي حكاماً على الأقاليم ليعيد لهم الحكم كما كان عليه الحال قبل الفتح المصري. وأنه أعفاهم من الأموال الأميرية المتأخرة منذ 1883م وكذلك من دفع الأموال الأميرية للسنتين القادمتين. وأنه خفض الضرائب إلى النصف وألغى الأوامر السابقة بحظر الاتجار بالرقيق. غوردون باشا أبرق حسين بك خليفة برسالة أخرى عند وصوله إلى كورسكو في شمالي السودان يخبره فيها بقراره تعيين محمد أحمد المهدي سلطاناً على كردفان طالباً منه، (خليفة)، إرسال رسول خاص لإبلاغ المهدي ومعه هدية هي جبة جوخ حمراء وقفطان حرير أحمر وطربوش أحمر ومركوب أحمر. ثم سار غوردون إلى الخرطوم فوصلها في 18 فبراير 1884م، فأستقبله على الشاطئ جميع الجنود والقناصل الأجانب ورؤساء الطوائف الدينية والعلماء. ثم دخل ديوان المديرية وأخرج فرمان توليته وخاطب الجمهور المجتمعين بتوليته حاكماً مفوضاً على السودان للنظر لحل ما هو فيه من مشكلات بدون الاستعانة بالعساكر والأسلحة، وإنما اعتماداً على معونة الله وولاء المواطنين للحكومة. ثم أمر بصرف العساكر إلى أماكنهم وأمر بجمع دفاتر الضرائب على الأطيان في ساحة عمومية ووضعت فوقها السياط وآلات الضرب التي كان يستعملها الحكمداريون السابقون وأضرم فيها النار. ثم زار السجون فأخلى سبيل جميع النزلاء عدا القتلة. ثم تفقد العساكر على خط النار وكان الجيش مؤلفاً من عساكر مصرية نظامية وعساكر سود نظامية وعساكر باشبوزق أتراك ومغاربة وعساكر أخرى من قبيلة سودانية شمالية. فشرع في تنظيم الحامية ففرز المرضى وأبناء الضباط والعساكر الذين قتلوا في شيكان والعساكر غير اللائقين للخدمة العسكرية والمرفوتين من الموظفين والكتبة وشرع في تسفيرهم شمالاً حتى بلغ مجموع من تم إخلاءهم إلى مصر في أول أيام إقامته ألف من الأنفس. القائد الآخر محمد أحمد المهدي، كان قد استقر عزمه على أخذ الخرطوم، بعدما تيقن من ضعف غوردون والحكومة في القاهرة حينما جعلوا هدفهما الأساسي إخلاء السودان. المهدي لم تكن له حاجة بالتسلط على كردفان وقد بات سلطاناً بالفعل على كل السودان. فكتب إلى أهل الجزيرة يستحثهم على الثورة ونصرة الدين. وكتب إلى مشايخ الدين في شرقي الخرطوم وعلى رأسهم العبيد ود بدر والشيخ مضوي كبيري الطريقة القادرية ومحمد البصير لحصار فداسي شرقي الجزيرة جنوبي الخرطوم. ثم كتب إلى الفكي محمد ود أم حقين بجزيرة إسلانج شمالي الحلفاية ضاحية الخرطوم يستحثه على الجهاد وحصار المدينة من ناحية الشمال. وكتب إلى الشيخ أحمد أبو ضفيرة شيخ الجموعية ليحاصر بهم الخرطوم من ناحية الجنوب. وبدا المهدي والأنصار بنهاية شهر مارس من ذلك العام (1884م) عازمون فعلاً على فتح الخرطوم. كان المهدي بانقضاء شهر نوفمبر من العام السابق وقد قضى على جميع جيش الجنرال هكس باشا المعدود بحوالي أربعة ألف جندي من بقايا جيش عرابي باشا في مصر، وقد ارتجت أنحاء البلاد لذلك النصر وانزوى تماما ونهائيا أي أمل بداخل قواد الحكومة في دارفور والنيل الأبيض والبحر الأحمر في تغيير الموقف لصالحهم بانتهاء كابوس المهدي، قد فرغ من تحرير كردفان باستسلام حامية الأبيض عقب حصار طويل وتسليم مدير دارفور رودولف سلاطين أمر رعيته للثورة المندلعة وقد اتضحت قوتها على ميزان الواقع، كان في الحقيقة في طريقه فعلاً لا حكماً نحو قلب البلاد، الخرطوم، حيث رمز الحكومة في سراي السردارية. بدأ المهدي بالفعل في حصار الخرطوم الذي سينتهي بقتل غوردون ومعه نحو 8 ألف من جنود الحكومة مع مقتل أكثر من 24 ألف من سكان المدينة الحزينة التي وجف قلبها على مدى زمني قارب العشر أشهر فترة حصارها حتى سقوطها، بالنسبة للجنرال غوردون، وفتحها بالنسبة للإمام المهدي.
5.
الخرطوم آخر حصون الحكومة وأول أهداف الثورة
يعود تاريخ الخرطوم كمستوطنة بشرية إلى عصور سحيقة حيث أكدت المستكشفات على أن الإنسان قد استوطن في موقع الخرطوم الحالي منذ سنة 400 قبل الميلاد. وتم العثور على بقايا أثرية لمستوطنات يرجع تاريخها إلى عهد مملكتي نبتة ومروي في الفترة من 750 قبل الميلاد إلى 350 بعد الميلاد. وتقول مصادر أخرى ترجع في تاريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي بأن المكان الذي تقوم عليه الآن الخرطوم كان عبارة عن أحراش وغابات كانت تبعد عن مدينة سوبا عاصمة مملكة علوة، إحدى الممالك المسيحية القديمة في السودان، حوالي 40 كم. وفي القرن السادس عشر، قام سكان جزيرة توتي التي تقع في مجري نهر النيل المقابل للمكان - وكانوا ينتمون إلى قبيلة (المحس) النوبية - بزراعة الجزيرة واستيطانها قبل أن يقيم على الجانب الآخر من النهر أحد فقهائهم ويدعى الشيخ أرباب العقائد مدرسة لتعليم القرآن ويتحول المكان تدريجياً إلى منطقة سكنية. ويبدأ التاريخ المكتوب لمدينة الخرطوم مع مجيء جيش الغزو (التركي-المصري) إلى السودان بقيادة إسماعيل كامل باشا ابن محمد علي باشا خديوي مصر، والذي حط رحاله عليها وهو في طريقه إلى سنار عاصمة السلطنة الزرقاء (المثال الشاخص للدولة الوطنية المستقلة آنذاك) التي كانت تحكم تلك المناطق في عام 1821م، وأقام فيها معسكراً لجنوده إلى الجنوب من ضفة النهر وفي منطقة السكة الحديدية الحالية، ولكنه اختار أولاً مدينة ود مدني الواقعة بين سنار والخرطوم عاصمة جديدة للبلاد. ولم يطب المقام للأتراك في مدينة ود مدني بسبب مناخها الجاف، ولذلك عندما جاء الأميرالاي عثمان جركس باشا الملقب ب(البرنجي)، الذي عين حاكماً على السودان (1823- 1825م) ومر على ملتقى النيلين (الأزرق والأبيض) وهو في طريقه إلى العاصمة ود مدني، أعجب بالمكان وبقي في معسكر الخرطوم ثم أمر ببناء الثكنات والقلاع فيه. فقرر إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا خديوي مصر، الانتقال إلى الخرطوم القديمة واتخاذها عاصمة للسودان. وفي عام 1850 أمر الخديوي عباس بإنشاء مدرسة الخرطوم بينما قام الحكمدار عبد اللطيف (1849 - 1851م) بتأسيس حي "الحكمدارية" ليكون مجمعاً لمباني الإدارة التركية ومساكن للقادة. وفي عهد إسماعيل أيوب (1873- 1877م) وضعت لبنات الصناعة في الخرطوم عندما تم تشييد معمل لصناعة الورق وآخر للبارود. وفي فترة الجنرال غوردون باشا تم بناء "بوابة المسلمية" وكانت تقع في مكان كوبري المسلمية الحالي، جنوب مستشفى الخرطوم، فوق خط السكة الحديدية، و"بوابة الكلاكلة" وكان موقعها مكان كوبري الحرية الحالي. وورد في كتاب تاريخ الخرطوم للمؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم، أن أهم أحياء الخرطوم في العهود التركية شملت حي الحكمدارية، حيث مركز الحكم، وحي المسجد، والأحياء الشعبية في أطراف المدينة التي كان يسكنها عامة الناس، ومنها حي سلامة الباشا، وحي هبوب ضربانى، وحي الكارا، وحى الترس، الذي أخذ اسمه من الحواجز الترابية التي أقيمت جنوبه لحماية المدينة من فيضان نهر النيل الأبيض، وحي بري المحس، وهو الحي الوحيد الذي لا يزال محافظاً على اسمه ولكنه غير مكانه إلى موقع آخر ليفسح المجال لبناء ثكنات الجيش البريطاني في فترة لاحقة (1900م) والتي تحولت بعد الاستقلال (1956م) إلى داخليات لطلاب جامعة الخرطوم. ومن الطريف أن أول من وجه أنظار المهدي إلى الخرطوم كان خصمه (الحكومة) بل وأعلى مستوياتها، إذ في سنة 1881م والمهدي قد فاجأ الخرطوم والقاهرة والأستانة ولندن بانتصاره غير المتوقع على جند الحكومة في الجزيرة أبا، أرسل إليه الحكمدار رؤوف باشا الذي وجد نفسه أنه لا يستطيع الاعتماد على القاهرة، مع اضطرابات الثورة العرابية التي شغلت مصر بنفسها وأسقطتها في النهاية فريسة سائغة للاحتلال البريطاني الذي سيخرج لاحقاً من مصر بعد أكثر من سبعين عاماً، إلى المهدي في مقره في أبا، قائلاً له: "اذهب إلى الخرطوم، واحظ بالمثول بين يدي سيد البلاد لكي تبرئ ساحتكم"، وبطبيعة الحال رفض المهدي هذا الطلب. وقد خبر المهدي وأنصاره وعورة فتح المدن الكبرى بعدما خسر وراء فتح الأبيض عاصمة إقليم كردفان الغربي آلافاً من أنصاره وخسر شقيقه وشقيق نائبه الخليفة التعايشي في ذات المعركة. فلم يكن المهدي مستجدا في تدقيق هدفه بالاحتياطات الحربية والتدبير الذكي وراء الخرطوم هذه المرة، فلم يكن في وسعه خسارة أخرى مثل تلك التي حدثت له في الأبيض قبل زحفه لأخذ الخرطوم من الجنرال غوردون. كان المهدي هاجم الأبيض عاصمة كردفان بجيش قوامه خمسين ألف مقاتل يوم 8 سبتمبر سنة 1882م واشتبك مع الجيش المصري المؤلف من ستة آلاف مقاتل بقيادة اللواء محمد سعيد باشا حكمدار غربي السودان، وانتهت المعركة بهزيمة جيش المهدي، بعد أن فتكت بهم نيران المدفعية والبنادق، وقتل منهم عدة آلاف. ولكن المهدي عاود المحاولة مرة أخرى، وحاصر باره إحدى المواقع الهامة في كردفان، حتى سقطت في 5 يناير سنة 1883م، ثم حاصر الأبيض، وسد عليها المسالك، حتى استسلمت للمهدي، ودخلها يوم 19 يناير سنة 1883م، وغنم مخازن الأسلحة، فكان مجموع ما غنمه في معاركه 6400 بندقية، وثلاثة عشر مدفعاً، ومقادير كبيرة من الذخائر كانت خير معيناً له في المعركة الكبرى عند الخرطوم التي تنتظره لاحقاً. في ذلك الوقت كان الخديوي توفيق وحكومته قد عقدوا العزم على سحق المهدي الذي أصبح يسيطر على جميع المدن الرئيسية في إقليم كردفان. وبناءً عليه قامت الحكومة المصرية بتنظيم حملة مكونة من بقايا جيش عرابي بقيادة ضابط بريطاني هو اللواء وليام هكس باشا، وكان تعداد جيشه ثلاثة عشر ألف مقاتل. فسار من الخرطوم إلى الأبيض عاصمة كردفان، وفي يوم 5 نوفمبر سنة 1883م اجتازت الحملة وادياً مفتوحاً تحيط به من الجانبين غابة كثيفة، وقد أصاب جيشه العطش الشديد، فلم يكد الجيش يدخل هذا الوادي حتى أطبقت عليه جموع الثوار من كل جانب، واخترقوا صفوفه، وأمعنوا في الجنود ذبحاً وقتلاً، فكانت واقعة أشبه بمجزرة بشرية، قتل فيها الجيش برمته، قواده، وضباطه، وجنوده، ومنهم هكس وأركان حربه، ولم ينج من القتل سوى ملازمين اثنين، وثلاثمائة جندي، اختبئوا بين الأشجار، وأخذوا أسرى. وارتجت أنحاء السودان لانتصار المهدي في واقعة شيكان، وزادت هيبته في نفوس الآهلين، والحكام، وتداعت سلطة الحكومة المصرية أمام هذه الكارثة، وبادر الحكام الأجانب الذين كانوا يتولون حكم المديريات الغربية إلى التسليم للمهدي، ففي ديسمبر سنة 1883م سلم رودولف سلاطين باشا في دارا، وكان وقتئذ حاكماً على دارفور، ثم سقطت الفاشر عاصمة المديرية، ودانت دارفور كلها لسلطان المهدي في يناير سنة 1884م. وفي تلك الأثناء طرأ تغيير جوهري على السياسة البريطانية تجاه المسألة السودانية بعد معركة شيكان، فبينما كانت بريطانيا ترى من قبل أن المسألة تخص مصر وحدها، فإنها شعرت بعد معركة شيكان أن مصالحها الإمبراطورية تقتضي انسحاب مصر من السودان فوراً، ومن ثم أمرت الحكومة المصرية بالتخلي عن السودان وأوفدت الجنرال تشارلز غوردون كي يشرف على تنفيذ ذلك. وإذ نصح غوردون بأن يتخذ أحد سبيلين إما أن يسلم للمهدي وينجو بنفسه ومن معه وإما بأن يرحل سريعاً إلى الشمال وينجو من الهلاك، لأن الخرطوم باتت هدفاً أساسياً للجيوش المهدية التي اقتربت من أسوارها وتهدف لفتحها وإعلان نجاح ثورتها، لم يتنبه غوردون ولا بريطانيا أن الرجل لا يستهدف الخرطوم فحسب بل كانت أفكاره المهدية ليست للسيطرة على السودان فقط، إذ كان المهدي يقول بأنه موعود بالسيطرة على مصر وبلاد الشام ودخول مكة المكرمة. لكن غوردون باشا تمسك بأن المهدي ليس هو المهدي المنتظر بما ثبت لديه من الأسانيد الشرعية التي أفتاه بها علماء السودان الذين أسماهم المهدي في رسائله علماء الشيطان. وكان المهدي بالنسبة لغوردون إنما هو سلطاناً على كردفان يتمنع فقط في تسلم منصبه. وأما التسليم للمهدي فذاك دونه الموت، لأن شرفه العسكري، وهو الرجل صاحب التاريخ الحافل في هذا السلك المشرف، لا يسوغ له تسليم العساكر النظامية والرعية ليلقوا القتل أو الأسر بيد المهديين. وبالنسبة لغوردون أيضاً، إذا لم يتراجع المهدي عما هو فيه من شغب ورفض لتكليف الحكومة، سيبلى وجنده بجيوش من قبل الحكومة الخديوية والدولة الانكليزية لا قبل لهم بها والعاقل من تدبر أمره. كان ذلك بعض ما جاء في رسالة رد من غوردون لزعماء القبائل الذين نصحوه بالتسليم للمهدي أو الفرار إلى الشمال. لكن المهدي يؤكد لغوردون غايته الأكيدة في أخذ الخرطوم كمنطلق لأخذ العالم كله قريبه وحتى بريطانيا. فكتب إليه رسالة مطّولة أكد له فيها أنه لديه خيار وحيد لا ثان له ألا وهو "سلم تسلم". الطريف أن المهدي خاطب غوردون بذات منطقه الديني، فكتب إليه يستحثه على التسليم يقول: "وقد قال المسيح عليه السلام: يا معشر الحواريين ابنوا على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً ومن ظن أنه يخوض البحر من غير بلل فهو مغرور فكذلك من ظن أنه يجمع الدنيا ويريد عزها وجاهها ويكون له في الآخرة شأن، فأنب إلى الله الباقي واخضع لجلاله واطلب عز الآخرة ولا تظن أن هذه الدنيا دار تسعى لملكها وعزها". وكان ذلك من آي دهاء المهدي وحكمته في مخاطبة غوردون المسيحي المتدين بتلك اللغة وبذلك المثال من الأثر الإنجيلي وقد وصله من عيونه أن الرجل الانكليزي متدين شديد الإيمان. لكن المهدي كان يتحسب فعلاً ويخشى من الحملة العسكرية الإنقاذية التي تزحف جنوباً لنجدة غوردون، بل ولم يتأكد له نصره إلا بعد أن يئست وقفلت راجعة إلى مصر، وكان ذلك سبباً آخر لإسراعه في فتح الخرطوم والقضاء على الحكومة نهائياً على ما سنرى.
6.
المهدي يحاصر غوردون
عاشت الخرطوم فترة تاريخية عصيبة منذ بداية الثورة المهدية باعتبارها مقر حكم الغزاة. وكان من المتوقع أن تزحف إليها قوات المهدي في أي وقت بعد أن حققت انتصارات باهرة على القوات التركية في مختلف مدن السودان وآخرها كان الانتصار الكبير على الجنرال الإنجليزي وليام هكس باشا في سنة 1883م في واقعة شيكان القريبة من مدينة الأبيض. كان المهدي طلب من الشيخ محمد الطيب البصير محاصرة الخرطوم، وأرسل إليه قوات مساندة بقيادة الأمير أبو قرجة. وبوصول مدد آخر من القوات يقوده الأمير عبد الله ود النجومي، تمكن الأنصار من إحكام حصارهم للخرطوم، وضاقت الحلقة حولها بوصول المهدي نفسه والذي عسكر بجيشه في منطقة أبو سعد بأم درمان قبالة الشاطئ الغربي للخرطوم في أبريل من سنة 1884م قبل أن يدخلها منتصراً في آخر يناير 1885م. لكن الأحوال وراء أسوار غوردون لم تكن بمثل ذلك التصميم الذي تبدى بمعسكر المهدي، فقد أيقن غوردون في دخيلة نفسه أن مهمته إخلاء الخرطوم من العسكريين والمدنيين المصريين فلا سبيل أمامه لمغادرتها ما لم يحقق ذلك ويحقق أيضا السلام والأمان لسكان المدينة الآخرين الذين تقلص عددهم حينذاك من 34 ألف نسمة إلى نحو 14 ألفا فقط نتيجة لتشجيع غوردون لهم على النزوح منها، وبما يحفظ له شرفه العسكري وسمعته الحسنة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً قضاها على مسارح الأمجاد الحربية شرقاً وغرباً. أدرك أيضاً أن حملة إنقاذه بقيادة الجنرال لورد ويلسلي قد لا تدركه قبل هجوم الثوار عليه. ورأى غوردون قلة العساكر على خط النار فقرر تجنيد المزيد من العسكر وجمع جيشاً من المتطوعة من أهل المدينة ومرّنهم على حمل السلاح واستعماله ووضعهم على أسوار المدينة الحصينة مع العسكر النظامية. وتفقد غوردون الاستحكامات حول المدينة وبنا خطاً للنار على أطرافها وزاد من الموانع الحربية فأمر بإنشاء أوتاد من الأخشاب الصلبة المحدّدة الأطراف غرزت في الأرض وغزلت بالأسلاك الشائكة. ثم صنع دانات فارغة وملأها بالبارود والمواد الفسفورية شديدة الاشتعال وأمر بنشرها على طول الخط من النيل الأزرق إلى النيل الأبيض وقد فعل مثل هذه الاحتياطات على حامية أم درمان التي كان يسميها الأهالي ب(الكارا). وجعل اثنين منها في النيل الأزرق ومثلهم في النيل الأبيض لحماية الخندق من طرفيه، وجعل وابوراً مسلحاً بالمدافع عند مقرن النيلين لتقوية الحامية. ثم أمر مدير الترسانة فبنا وابوراً صغيراً كالوابور عباس وسماه الزبير وعرف بعد ذلك بالوابور الطاهرة. ثم أصدر غوردون قرارات طوارئ، فألغى المجلس الوطني الذي شكله من التجار والأعيان يوم وصوله الخرطوم. وحظر إطلاق الأعيرة النارية فأستتب الأمن بداخل المدينة وتطلع سكانها لغدٍ مشحون بالخوف. وبدأت آثار الحصار رويداً رويداً تفعل فعلها. فنفذت الأموال الأميرية وفقدت قيمتها فأصدر غوردون أوراقاً نقدية مهرها بتوقيعه الشخصي وجعل لها أرقاماً متسلسلة. وتشدد على التجار الذين أخفوا الذرة وأمر بسجنهم. وكان ينتظر بفارغ الصبر ارتفاع النيل في فيضانه الموسمي بداية من (يوليو) ليتمكن من استخدام الوابورات لرفع الحصار أو تخفيفه على أسوأ التقديرات، وليتمكن الانكليز من نجدته. فلما بدأ النيل في الارتفاع حل شهر رمضان فجمع العلماء واستفتاهم في إباحة الفطر في أحوال الحصار والحرب فأفتوه بجواز ذلك استدلالاً بفتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة في شهر رمضان، فأمر بنشر الفتوى على المراكز العسكرية. وخاض عدد من الحروب الصغيرة خارج الخرطوم وبالضواحي القريبة منها كالحلفايا وأم ضواً بان ليدفع بها الحصار فخسرها جميعاً. ثم أرسل وكيله ستيوارت باشا بوابور عباس بعدما جهزه بمدافع ميدان إلى مصر لإبلاغ الحكومة في القاهرة بالموقف المتأزم لديه واستعجالها في إنقاذه. وقد صحبه 40 رجلاً وفيهم المستر بور قنصل انكلترا في الخرطوم والمستر هربن قنصل فرنسا و19 من التجار اليونانيين يرافقهم جماعة من التجار اليونان والشوام واليهود. وبعث غوردون مع وابور عباس وابوري المنصورة والصافية وعدد من المراكب الحربية الصغيرة. كان رؤساء غوردون قد استقروا على إرسال حملة لإنقاذه في 8 أغسطس وبلغ الخبر غوردون في أواخر سبتمبر فأمر بنشره في كل أرجاء المدينة لرفع معنويات الجنود والآهلين. وفي ذات الشهر تحرك الإمام المهدي بنفسه من بادية كردفان غربي البلاد صوب الخرطوم غازياً بجميع جيوشه وليلحق بطلائعها التي بدأت فعلاً الإحاطة بالمدينة. وفي الطريق ورد أن عميلاً فرنسياً يدعى أوليفر باين التقى المهدي وعرض عليه مساعدته الشخصية ومساعدة دولته للمهدي. فرفض المهدي عرض باين وعرض فرنسا وأخبره بأنه لا يعتمد على الناس وإنما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما أهل الخرطوم لما سمعوا بقدوم المهدي اضطربوا وهلعت قلوبهم وكثر شغبهم فعلق غوردون منشوراً في جميع الممرات والشوارع والمراكز العسكرية فحواه أن الجيش الانكليزي القادم عبر النيل عديده خمسين ألفاً من الجنود وقد وصلت طلائعه بحلة الرويان جنوب بربر (350 كم شمال الخرطوم) طالباً من السكان التشدد والصبر والعلم بأن الله ناصرهم. ولم تكتمل مأساة غوردون بهزيمة حملاته الصغيرة التي كانت تهدف أيضاً للحصول على الغذاء بعد أن بدأ الجوع يسري في المدينة والثوار يمنعون قواته من الحصول على المؤن للضغط على المدينة وإجبارها على الاستسلام. لم تكتمل مأساته حين تأخرت حملة الإنقاذ التي لم تصل في الوقت المناسب لنجدته بتباطوءها في اختيار طريقها من بين أربعة طرق على طول المسافة الطويلة، مع وعورة الطرق والشلالات على المجري النهري، ولما واجهته فعلاً من عداء بعض القبائل على النيل وكذلك المناوشات التي قام بها بعض أنصار المهدي في وجه الحملة والواقعات التي خاضوها في أبو طليح والمتمة وغيرها من معارك، فكان نتيجة ذلك أن ترك غوردون وحده يواجه قدره المحتوم ليعاني الحصار لأشهر عديدة جاعت خلالها المدينة وانهارت الروح المعنوية للسكان الذين كانوا هم أنفسهم منقسمين بين مؤيد للثورة وآخر يقف مع الحكومة. فقد وقعت الخيانة في معسكر غوردون من جانبين، الأول ما رددته المصادر عن عسكر نظامية أفشوا سر المنطقة الضعيفة خاصة الخنادق والاستحكامات التي عملها غوردون بزرع الأشواك لتعيق تقدم الثوار وكانت موجودة من منطقة بري والمناطق الجنوبية في الكلاكلة، والآخر ما كشفته دورية للاستطلاع بالمصادفة البحتة من خيانة لثمانية من تجار المدينة وقد أرسلوا للمهدي يسلمون له فيها بمهديته ويعلموه عبرها بعملهم على إضعاف الحكومة بكل جهدهم مع تصيد الفرص للخروج إليه. أصبح غوردون مؤرقاً لا ينام ليالي متتاليات وقد أيقن أنه غير قادر على الصمود طويلا. كان يصعد على سطح قصره مع مغيب كل يوم لينظر بالمنظار المعظم ناحية الشمال آملاً في بارقة أمل من بخار مواقد وابورات الحملة القادمة لإنقاذه تلك التي لم تأتيه أبداً إلا بعد فوات الأوان. كان الجوع هو المذل الأكبر لصبر غوردون ورجاله. ومع قدوم أعياد الميلاد المجيد أرسل إليه قومندان حامية أم درمان فرج الله باشا الزين، بإشارة عسكرية فحواها خشيته من تسليم الحامية بعد نفاذ المرتبات والمؤن وشدة حصار الثوار عليه. فجمع غوردون مجلس حربه من الضباط من رتبة القائم مقام فما فوق وخلصوا إلى الخروج بوابور على النيل لتخليص الحامية من الحصار. وبعد محاولة فاشلة سلم فرج باشا حاميته للثوار فأغتم غوردون لذلك غماً عظيماً. وبدأت وطأة الحصار تشتد فشرع السكان في أكل الكلاب والحمير والبغال وشوهدت النساء يحملن الذهب في أيديهن في الشوارع لاستبداله بربع ذرة فلا يجدنه. وظهر تأثير الجوع في العسكر فهزلت أجسامهم واصفرت ألوانهم وغارت عيونهم، أما العسكر الغير نظامية فكانوا يفرون متوالين مع كل يوم للحاق بمعسكر المهدي هرباً من الموت جوعاً، فشق الأمر على غوردون. كان المهدي قد عمد إلى حيلة حربية ذكية قضت على أي أمل يجوس في نفس غوردون ومن معه حين أمر فأطلقت المدافع مائة طلقة علامة النصر فظن سكان الخرطوم أن المهدي انتصر على حملة إنقاذ غوردون الزاحفة جنوباً. والمفارقة، وعلى ما أحبط معسكر غوردون وانتهت آماله نهائياً، كان ثمة انقسام خافت في معسكر المهدي، إذ عقد المهدي مجلساً للحرب من خاصته وأهل مشورته قبل الفتح بأيام، أتفق رأي أكثرهم فيه على الزحف شمالاً لمواجهة حملة لورد وليسلي الزاحفة لإنقاذ غوردون ثم إذا هزموا يعمدوا إلى الهجرة غرباً إلى كردفان هرباً من الحملة الزاحفة خشية وقوع المهدي في قبضة الانكليز. بينما رأى الفريق الأقل الإسراع بالهجوم على الخرطوم وأخذها عنوة من غوردون قبل وصول حملة الإنقاذ، فتعود أدراجها خائبة. المفارقة الكبرى، أن قائل الرأي الثاني، هو الشيخ محمد ود نوباوي، الذي أسندت له جل المصادر قتله لغوردون على درج القصر عند فتح المدينة. إذ جادل ود نوباوي أصحاب الرأي الآخر في مجلس الحرب بقوله: "إذا طارد صياد صيداً حتى أرهقه ثم عرض عليه صيد آخر فهل من الرأي أن يترك الصيد الأول الذي أرهقه ويلحق بالثاني الذي لا يزال قوياً". وأوردت المصادر أن واحداً من العسكر غير النظامية ويدعى (عمر) فر من الخرطوم في يوم 24 يناير، قبل ليلتين من صباح الهجوم، وسبح في النيل إلى معسكر المهدي ودّلهم على نقطة الضعف في استحكامات المدينة، وكانت عبارة عن ثغرة في الخندق الذي يربط بين النيلين الأزرق والأبيض طولها، نحو 1500 متر تنكشف عند انحسار النيل من الفيضان، كما كشف لهم ترتيب العساكر وشدة الحال التي هم عليها. فتشجع المهدي على الهجوم وأمر بمجلس شوراه يوم (السبت) وأخبرهم بمعلومات المصدر. وإذ ذاك عزم كبار الأنصار على الهجوم. أما غوردون وبعد أن خسر حامية أم درمان وكانت أولى النقاط العسكرية شمال الخرطوم وعلى طريق حملة الإنقاذ تماماً، بات يقضي جل وقته على سطح السراي وبيده المنظار يرقب به تحركات العدو كما يرقب مجئ الحملة التي لن تجئ لإنقاذه في الموعد الذي كان يرجوه. ولما أيقن أن الأنصار من حركتهم الدائبة قد عزموا على مهاجمته أبرق تلغرافياً إلى جميع القومندانات على خط النار آمراً بالتيقظ وأخذ الأهبة لأنفسهم والاستعداد للدفاع. ثم جمع الموظفين الأميريين وأعيان المدينة وكل من له قدرة على حمل السلاح وأرسلهم إلى خط النار للمساعدة في جهود صد الهجوم.
7.
ولمّا التقى الجمعان
فرص الحل وأنصاف الحلول لم تكن متاحة للجمعين فإما النصر أو الشهادة. كان ذلك من حث الإمام المهدي لأنصاره ضمن دعايته المعنوية الحربية. بينما الجنرال غوردون كان لا يرجو سوى النصر وحده من جنوده ومن المواطنين الذين صاروا جنودا في المجهود الحربي الدفاعي. لم تكن المعركة معركة خير وشر أو حق وباطل فحسب، لكنها كانت معركة بقاء بدرجة أولى بالنسبة للطرفين، المحاصَر إلى أن تصل نجدته والمحاصِر إلى أن ينتصر فيرد النجدة ومصر وبريطانيا أجمعين خائبين فاقدي الأمل بعد هذه التغيرات. وقبل طلوع فجر الاثنين 26 يناير بساعة زحف الثوار وقد انقسموا إلى فرقتين يمنى ويسرى هاجمت الأولى بقيادة ود النجومي خط النار على النيل الأبيض وقاد أبو قرجة الفرقة الأخرى ناحية الخط الدفاعي للمدينة على النيل الأزرق وقد قدمت كل فرقة رجال الأسلحة النارية في المقدمة وقبيل الفجر بقليل فتحت أفواه البنادق والمدافع فأطلقت حمم النار تصلي المدافعين. وهاجمت فرقة ود النجومي مكان الثغرة التي دلهم عليها الجاسوس ووالوا عليها برمي الرصاص والنيران وأعملوا سيوفهم وحرابهم حتى قضوا على معظم من تدافعوا دفاعاً عنها وكان من بينهم القومندان يوسف بك عفّت وهوجم العسكر النظامية في هذه الناحية الذين نظموا ثلاث قلاع دفاعية حاربوا عنها إلى أن قتلوا جميعاً واستبسل في الدفاع عنها قومندانها فرج بك صالح. وترك بعض العساكر مواقعهم هرباً بحياتهم من جحافل المهاجمين فتركوا الخط الدفاعي وتقهقروا نحو المدينة أو ناحية الصحراء وثبت الباقون فحاربوا إلى أن قتلوا وفيهم علي أغا وانلي متو بيك وعبد الهادي أغا ومحمد بك كرسي. وأما حسن بك البهنساوي، قومندان قسم اليمين فكان واقفاً بطابية باب الكلاكلة فلما رأى ما حّل بالعساكر خلع ثيابه العسكرية وتعّدى الخندق إلى ناحية الصحراء فوقع أسيراً. وفتح باب المسلمية بعد معركة شرسة استمات فيها العسكر السودانية بقيادة بخيت بك بطراكي، فدخل عدد كبير من المهاجمين فتواصل القتال بين الطرفين وفي الأثناء دخلت الفرقة الثانية التي يقودها الأمير أبو قرجة من ناحية بوابة بري فهاجموا عسكر الوسط وقتل من الأعيان في هذه الناحية عدد كبير منهم محمد بك إبراهيم وأبو بكر الجركوك وحسن بك القباني وأحمد بك أبو قاسم، وفّر الكثير من أهل المدينة ملتجئين بمنازلهم فهوجموا بداخلها وقتل خلق كثير ومن جملة هؤلاء موسى باشا شوقي مدير الخرطوم، وسبيت النساء وعلا الصراخ والعويل في أرجاء المدينة ووصف هول تلك الساعة بالعظيم. وأما طابية المقرن فإن قموندانها الصاغ إبراهيم الشيخ، لما رأى انتشار الأنصار في المدينة كلها وأن لا فائدة في المقاومة رفع العلم الأبيض علامة للتسليم ولكن الثوار لم يبالوا بالعلم الأبيض فدخلوا الطابية وقتلوا القومندان ومن معه. وفي الوقت الذي هجم فيه ود النجومي من ناحية الغرب على الخرطوم، هاجم رجال الشيخ العبيد ود بدر من ناحية الشرق وكان قومندان النقطة عبد الله بك العبد، فدافع عن نقطته دفاع الأبطال ولكن تكاثر الأنصار عليه فقتلوه ومعه معظم رجاله. كان الإمام المهدي والخلفاء وكبار الأمراء وعلى رأسهم الأمير يعقوب ومعه الأمراء عبد الرحمن النجومي وحمدان أبو عنجة ومحمد أبو قرجة وود البصير وغيرهم من القيادات في مقدمة مجموعاتهم القتالية يصدرون الأوامر ويحددون مراحل الهجوم على المدينة الذي استمر، لدى مصادر نحو ساعة زمن ومصادر أخرى أوصلته إلى سبع ساعات حتى استتباب النصر، يشاركهم شيوخ أم درمان بقواتهم أمثال الشيخ مصطفى الأمين ود أم حقين وأحمد أبو ضفيرة شيوخ الجموعية والشيخ عبد القادر ود أم مريوم قاضي الكلاكلة، ومن شرق الخرطوم الشيخ العبيد ود بدر وأبناؤه إبراهيم والطاهر. وقبل العبور خطب المهدي وأوصى الأنصار خيراً بالأطفال والأمهات والعلماء. وأوصى أيضاً بغوردون خيراً وقال لهم ألا يمسوه بسوء الأمر الذي لم يحدث أبداً. وغلب التصدير على أن الهجوم لم يكن منظماً بطريقة عسكرية معروفة، فأعداد كبيرة من الثوار اتجهت مندفعة، بدون تخطيط أو تحريك عسكري للقوة، نحو السرايا حيث رمز الحكم الاستعماري وحيث يقبع غوردون الذي استعصم وجنده لأشهر طوال. وأعتبر مقتل غوردون باشا عجيبة أخرى من واقعات تلك المعركة إذ تضاربت الروايات حول ذلك بين قائلة بأنه، جهز باخرة راسية أمام القصر وعندما توجه نحوها ليفر بها، قتل. وبين الرواية الأشهر التي مفادها أنه قتل على درج السراي. الرواية الثانية رجحت لأن غوردون شوهد وهو يصعد إلى سطح السراي من قبل الفجر لمشاهدة القتال ولم يكن معه في السراي سوى خادمه محمد إدريس وبعض الخفراء على البوابة الخارجية. ولما أقبل المهاجمين تلقاهم الخفراء بالرصاص فقتلوا منهم ستة رجال ولكنهم ولكثرتهم تغلبوا على الخفراء فقتلوهم عن آخرهم وصعد جماعة من الثوار في سلم السراي وفي مقدمتهم محمد ود نوباوي فوجدوا غوردون واقفاً عند رأس السلم بثيابه العسكرية والسيف عن جنبه فقال لهم: "أين محمد أحمد؟" فأجابوه بالطعن بالحراب وكان أول من طعنه ود نوباوي. وقبل أن تفيض روحه أمسكوه من أرجله وجروه على السلم إلى أسفل السراي ثم قطعوا رأسه وحملوها إلى المهدي في أبو سعد. وصعد الثوار إلى الدور العلوي حيث غرفة مكتبه الخاص فرأوا على المائدة صحناً فيه بيض مقلي وبجانبه علبة لحم صغيرة في وسطها شوكة وإلى جانبها ملعقة صغيرة وصحناً آخر فيه قطعة من السكر. استمر القتل في أهل الخرطوم من طلوع الفجر إلى قرب الضحى حتى امتلأت الطرق بجثث القتلى وكان جملة من قتل من أهل المدينة عددا قارب الأربعين ألف نفساً. وأما الثوار فلم يقتل منهم إلا القليل. وقد أوقف القتل بأمر من المهدي عندما جاءوا له برأس غوردون وأخبروه بما كان لهم من نصر وكان ذلك نحو الساعة الخامسة مساء. أما الحملة الإنقاذية التي كان قائدها لورد ولسلي أمر بتقسيمها إلى فرقتين الأولى بقيادة لورد إرل، والأخرى بقيادة سير تشارلز ولسون، الذي تقدم بوابوري بوردين وتل حوين حتى وصل إلى شلال السبلوقة شمال الخرطوم، ساعة سقوط المدينة صبيحة 26 يناير. ارتطم الوابور البوردين في صخرة فعلق بها فأفرغ شحنه وأخرج منها ثم لم يسر إلا قليلاً حتى غرز في رمل فأخرج منها فكانت إعاقته في الحادثتين حوالي 24 ساعة. وفي عصر 27 يناير تقدم قليلاً ناحية الخرطوم فرماه الأهالي من الضفاف بالرصاص وسمع رجلاً ينادي "الخرطوم سقطت والغوردون مات"، فلم يصدقه ولسلي، فتقدم حتى أتى التمنيات، فقطع الحطب وقوداً للوابورين وبات فيها ليلته إلى فجر 28 يناير. فاستطرد السير جنوباً إلى الساعة 11 من الصباح فأطل على الخرطوم وهو إذ ذاك شمالي الحلفاية في النقطة التي طالما وجّه غوردون نظره إليها ليرى تباشير النجدة وهناك سمع رجلاً ينادي "الخرطوم سقطت والغوردون مات". كان خبر الوابورين قد وصل المهدي فأصدر أمره إلى أمراءه في الشرق والغرب والخرطوم بالاستعداد لصّدهما، فأقام أهل الشرق خط نار في الحلفاية وآخر في جزيرة توتي وتحصّن أبو عنجة في طابية أم درمان بالغرب والنجومي في طابية المقرن بالخرطوم. فما اقترب السير ولسون بالوابورين من الحلفاية حتى دنا من المقرن فانهالت عليه القنابل والرصاص من جزيرة توتي وطابية أم درمان وطابية المقرن، فتيقن إذ ذاك أن الخرطوم قد سقطت فقفل راجعاً وما نجا حتى عصر ذلك اليوم. وقد أهم المهدي أمر الوابورين وقد صلى الظهر جماعة في مسجده بأبي سعد ثم رفع يديه إلى السماء داعياً على الترك والانكليز وأعوانهم من السودانيين، ثلاث مرات. وقيل أن أحمد ود سليمان، أمين بيت المال وأحد أمراءه، جاءه إلى حيث شجرة جلس عندها وكان يناجي فيها ربّه، فمنحه سيفاً فاستله فوجد مكتوباً عليه بماء الذهب "نصرٌ من الله وفتحٌ قريب". فجمع بعض الحضور أحرف الآية القرآنية فوجدوها 1302 كلمة، وتلك كانت هي السنة التي كانوا فيها. فأستبشر المهدي خيراً، وما سّر بنصر الخرطوم إلا لما رأى الوابورين وقد استدارا راجعين من حيث أتيا وبقي في مكان الشجرة إلى أن قفل الوابوران فرجع إلى أبي سعد فرحاً منشرح الصدر وبقي فيها إلى يوم الجمعة 30 يناير حيث دخل الخرطوم وصلى فيها صلاة الجمعة واستقبله الأهالي وجملة من كانوا بالمدينة. لقد رأت المصادر الأجنبية أن السر في الانتصارات التي حققها المهدي كمن في قوة شخصيته هو، وقدرته على التأثير على السودانيين رقيقي الإحساس سريعي الانفعال لكل ما يأتيهم من الخارج عن طريق الإيحاء أو الإيعاز. لذلك فهو القائد الذي أوجدته ظروف خاصة لنوع فريد من الشعور الوطني في السودان ويكمن وراء كل هذا اعتقاده وإيمانه الصادق الذي لا يهز برسالته التي بعثته بها القوة الإلهية. ومع ذلك فالمصادر عينها تؤكد على أن التفاني والإخلاص للدعوة المهدية قد قضى على كل ولاء قبلي وديني كان يستقر في قلوب السودانيين. وكانت الجماهير التي خاطبها مؤلفة من المضطهدين والمستغلين الذين كانوا منذ أمد بعيد تواقين إلى ظهور منقذ لخلاصهم من الظلم والاضطهاد. وقريباً من ذلك وصف غوردون باشا بالبطل العظيم الذي حافظ على انضباطه العسكري وتفانى في استبساله وسط جنده والآهلين وقدم نموذجاً غير مسبوق في الصبر على حصار محكم فمثّل بقوة عزيمته مثالاً للشهامة وإنكار النفس بقدر يجعل ذكره دائماً موضعاً للتجلة والاعتبار ما بقيت الخرطوم وما ذكر حصارها. وتطبيقاً لذلك رئي أن غوردون كان رابط الجأش مثل خصمه، ومع كونه كان متردداً في آراءه وقد انطلق من البداية من تصور خاطئ أن المهدية حركة عصيان محدودة ومن السهولة أن يقضي عليها وفقاً لعلاقاته السابقة وسط الأعيان السودانيين، إلا أنه رغم ما توفر لديه من أساليب وقدرات الاتصال والمخابرات والوصول إلى المعلومات الدقيقة عن شئون البلاد ودقائق اجتماعها وأهلها، فات عليه أن السودان الذي تركه قبل سنوات قليلة ليس هو ذاك السودان، لأن المهدي أثار في السودانيين الحس القومي والشعور الديني وأخذ يزحف بهم حثيثاً إلى أن عبر أنصاره النيل بالطواف النهرية والمراكب وكثير من جنده عبره سباحةً، فكان في حدود ساعة زمن واحدة، يواجه غوردون باشا وجنده الجائع المحبط المعنويات بقوة قدرت بمئات الآلاف فوصف ذلك العبور بالشيء الخارق، وخلد ذلك النصر في أسفار التاريخ وأضابيره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.