د. عبدالعظيم ميرغني رحم الله عبد العزيز بيومي رحل عنا في هدوء كما عاش بيننا في بساطة وهدوء الرجل الوقور والموظف المثالي والعالم الجليل عبد العزيز محمد سعيد بيومي. تخرج استأذنا رحمه الله في كلية الخرطوم الجامعية عام 1954، ثم التحق بجامعة إدنبرة الاسكتلندية حيث تحصل على بكالوريوس الغابات، ثم نال ماجستير الغابات من جامعة أكسفورد. وعمل بعدها بمصلحة الغابات حيث بدأ حياته العملية في أقسى وأقصى مناطق الشدة، في دارفور وكردفان وبحر الغزال، وانتقل بعدها للخرطوم للعمل مساعداً لمدير مصلحة الغابات للأبحاث والتعليم مشرفاً على معهد بحوث وتعليم الغابات الذي أنشأته المصلحة في الستينات الماضية بضاحية سوبا بالخرطوم (مركز بحوث الغابات التابع لهيئة البحوث الزراعية حالياً، وكلية الغابات والمراعي التابعة لجامعة السودان حاليا). عمل المرحوم بعد ذلك نائباً لمدير مصلحة الغابات ثم مديراً لها، وعين بعدها وكيلاً لوزارة الزراعة والموارد الطبيعية وأنهى حياته العملية أستاذا مشاركاً بكلية الغابات جامعة الخرطوم، ليكون من القلائل الذين عملوا في حقل الغابات وبحوثها وتعليمها. كان أستاذنا المرحوم بإذن الله من "أشجار المعالم" الوارفة السامقة في سماء الخدمة العامة، كان "تبلدية" إن جاز تشبيه الرجال بالأشجار. كان مثالاً فريداً للموظف العام إذ تميز بالمغالاة في الدقّة والأمانة وإجادة الاستخدام المرشد للأشياء. ساعده على ذلك انضباطه الصارم والتزامه الذاتي بالسياسات والتوجيهات العليا والنظم والقوانين والقواعد التي تحكم العمل والسلوك العام، ففرضها بالقدوة الصالحة على مرؤوسيه. أُثر عنه تحري الدقة والتأني وتقليب الأمور على كافة جوانبها عند اتخاذ القرار. تحلّى بالخلق القويم والجدّية في التعامل مع المرؤوسين والجمهور. ولعله من أوائل الذين استنوا مواجهة الواشي بالموشى به، فقد كان "حقانياً"، ولا يسمح أبداً للشائعة أن تسيطر على جو العمل. كان رحمه الله محافظاً دوماً على بيئة العمل السليمة ونظافة المنشآت وخدمات العاملين، وكان دائم الوقوف في صفهم، يتفقدهم ويحرص على راحتهم. كان وفياً للعشرة وما يوم تشييعه إلا استفتاء على ذلك. كان رحمه الله مثالاً للانضباط في الحياة، فيما يأكل وفيما يشرب، فيما يقول ويفعل. كان عفيف اللسان ناكراً للذات ومثالاً للصدق وطهارة اليد والبعد عن الشبهات. كان لا يتعامل مع مال قط اكتسبه إلا بعد الاطمئنان لمصدره. ذكرت لبروفسور حسن عبدالنور رئيس مجلس إدارة الغابات -والمجلس في حالة انعقاد حين بلغنا الخبر الحزين- أنه ومنذ صدور منشور من مجلس الوزراء يحظر التهاني والتعازي على نفقة الدولة لم تخالف الغابات ذلك التوجيه إلا الآن فإني أرى لزاماً على الغابات أن تنعي هذا الرجل. وقلت له: لو علم مجلس الوزراء الموقر برحيله وهو رجل قد كرمته الدولة بمنحه وسام الجدارة عام 2008 لنعاه للشعب واحتسبه للأمة، فرد على البروف: لو علم المرحوم بيومي بنيتك هذه وهو حي يرزق لما قبل ذلك منك، ثم أضاف وأنا لا أرضى إن مت اليوم أو غداً تعزية أو نعياً على نفقة للدولة، ولا أملك أنا -كاتب هذه السطور- بدوري إلا أن أوصي بذات الوصية عن البروف وعن نفسي لمن هم بعدنا إن متنا اليوم أو غدا اتباعاً لهذه السنة الحميدة التي استنها المرحوم. فأمثال المرحوم بيومي وسيرته العملية العطرة نموذج يحتذى، وهو أكبر تأثيراً في النفوس واقوى نفاذاً من كل توجيه ومن كل منشور مهما عظم شأنه وعلا مصدره. وأمثال المرحوم بيومي ممن يجعلون لمهنتهم قيمة ولحياتهم معنى. ذكر لي بعض الزملاء ممن قطنوا معسكر الغابات بسوبا في منتصف الثمانينات الماضية حينما كان المرحوم وكيلاً لوزارة الزراعة ويجاورهم في ذات المعسكر، أنه كان منظراً مألوفاً حين يستغلون بص أبو رجيلة في ذلك الوقت إلى مواقع العمل بوسط الخرطوم أن يروا المرحوم مستغلاً ذات المركبة، واقفاً على الشماعة أحياناً، وهو وكيل الوزارة التي تحت إمرتها أسطول عربات حكومية دون أن تحدثه نفسه باستغلال عربة منها لعطل أصاب مركبته الخاصة أو لشح وقود، وما أندر الوقود حينها. كان أستاذنا بيومي رجلاً سمحاً ًسهلاً لطيفا ساخراً مرحاً، محبوباً لدينا نحن طلابه دون أن يقلل ذلك من مكانته ووقاره في نفوسنا شيئا. وقد كانت لنا معه مُلَحْ ونوادر لا زلنا نتندر ببعضها. ومما لقننا له أستاذنا المرحوم من مبادئ وما تعلمناه من سيرته العملية، أن مهنة الغابات ليست مهنة تكسب واسترزاق، ولا استرخاء واستمتاع بمزايا وظيفية، وليست هي مهنة للترويح والتملي في جمال الطبيعة والغابات والأشجار والخضرة والماء والذي هو منه، ولكنها مهنة شاقة عسيرة وقاسية لمن أخذها بحقها، تتطلب التضحيات وتحمل المخاطر ومغالبة نوازع النفس والهوى، هي مهنة ذوي العزيمة من النساء والرجال، من يتصفون بالجرأة والاقتحام وشدة البأس ونكران الذات، هي مهنة رسالية يتخذ من يمتهنها من الضمير رقيباً ومن مخافة الله حسيبا، فعلى أكتاف أستاذنا المرحوم وأمثاله من الرجال والنساء الأموات منهم والأحياء وفي طليعتهم أبو الغابات والغاباتية الدكتور محمد كامل شوقي ارتفع شأن الغابات وعلا رغم المحن والإحن والمعاناة والجراحات وعدم التقدير الكافي لما كانت وظلت تلقاه الغابات من العديد من الجهات. خلَّف لنا أستاذنا بيومي – رحمه الله- تراثاً قيماً من المعارف وإسهامات جليلة من الوثائق، بلغت 30 مؤلفاَ وكتاباً منهجياً في علوم الغابات، باللغتين العربية والإنجليزية. وشارك مع آخرين في الجمع والتحرير والتوثيق والتأليف لدراسات أخرى أبرزها "الغابات في مائة عام"، و "سياسة وتشريعات الغابات"، و"ببلوغرافيا الغابات" وغيرها مما أثرى بها المكتبات. رحم الله أستاذنا بيومي وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، وجعل البركة في أهله وذريته، الحاجة سعاد والأبناء نعمة وبرهان وماجد ومروان والأحفاد. (وإنا لله وإنا إليه راجعون).