كنتُ أحد الحاضرين والسائلين في المؤتمر الصحفي للأخ النائب الأول لرئيس الجمهورية، الأستاذ علي عثمان محمد طه، يوم الثلاثاء الماضي (26/3) بمجلس الوزراء. وقد تم تناول ما جاء في المؤتمر في وسائل الإعلام كافة، لكني أقف عند السؤال الخاص ب (مَن سيخلف الرئيس البشير؟). في تقديري أن هذا السؤال (حساس) بالنسبة للنائب الأول. وواضح ذلك من طريقة رده عليه. فعلى الرغم من الذكاء وسرعة البديهة التي يتميز بها الأستاذ علي عثمان إلا أنني لاحظتُ (شوية لف ودوران) في الإجابة، ثم فطن في النهاية إلى مخارجة دبلوماسية بأن ردّ الأمر لمؤسسات حزب المؤتمر الوطني. مصدر حساسية السؤال بالنسبة للنائب الأول هي أنه إذا ما أجاب مباشرة: "بأن هذا أمر طبيعي وفترة الولاية الثانية للبشير سوف تنتهي" فإن الرأي العام ربما يفسر الأمر وكأنه (النائب الأول) يهدف إلى تهيئة الرأي العام لتغيير الرئيس، ويهدف ضمنيا إلى ترتيب المناخ أو الظروف التي تجعل من النائب الأول ضمن أول الخيارات لخلافة البشير. يتضح هذا الأمر عندما وجّه شباب من المؤتمر الوطني السؤال ذاته إلى الدكتور غازي صلاح الدين فأجاب مباشرة بأن "أمر خلافة الرئيس عمر البشير والتجديد له لدورة انتخابية قادمة محسوم تماماً بالدستور ولا لبس فيه، إذ حدد الدستور فترة الرئيس بدورتين فقط". إذن الأمر محسوم بالدستور – لا ولاية ثالثة للبشير. لكن استدرك غازي للصحف مضيفاً "إلا إذا تم تعديل الدستور". أنا ضد هذا الاستدراك الذي ربما قاله غازي للتخفيف من حدة وقع الرأي على الذين يرغبون في استمرار البشير. طبعا من ناحية شخصية قيادية المشير البشير مناسب للرئاسة لكن واقع الحال يقول لا بد من التغيير – على الأقل احتراماً للدستور. أما إذا ذهبت كتلة المؤتمر الوطني تجاه تعديل الدستور لكي يستمر البشير فسوف يشكل ذلك انتكاسة للتوجه الديمقراطي وربما يدخل البلاد في أزمة (يا قطبي) في الوقت الذي تشير الدلائل نحو انفراج سياسي في الأفق. لقد تحرَّج النائب الأول من الرد المباشر على السؤال لكني – من واقع كوني مراقب سياسي (أكاديمي على الأقل) لا أرى حرجاً في القطع بالقول أن تغيير البشير أمر حتمي بحكم الدستور الذي تسعى القوى السياسية لتعديله ليحقق الوفاق الوطني ويؤسس لنظام سياسي مستقر من خلال التأسيس لنظام حكم يناسب التنوع ويحقق العدالة. من واقع أنني لا يقيدني أي حرج – لأني لستُ طرفاً في المعادلة – أرى أن النائب الأول نفسه من أفضل الخيارات المتاحة لخلافة البشير بجانب د/ غازي ود/ علي الحاج (في مناصب نائبي الرئيس). لكن هذا مبني على فرضية واحدة هي استمرار (هيمنة) المؤتمر الوطني على الساحة السياسية، أي ما لم تحدث تحولات في الواقع السياسي السوداني قد تقلب كل الموازين على نحو ما سوف أشير له في نهاية هذا المقال. إذا كان المؤتمر الوطني سوف يظل هو الحزب المسيطر فإنني أرى أن الأستاذ علي عثمان خير خلف للبشير لما يتمتع به من صفات مطلوبة في القيادة بصورة عامة وفي قيادة الدولة السودانية في هذا الظرف التاريخي تحديداً. الأستاذ علي يتمتع بحنكة سياسية وخبرة دبلوماسية (كان وزيراً للخارجية) ويتمتع بذكاء حاد يعرف كيف يتصرف بصورة عقلانية عند الأزمات وبدبلوماسية في المواقف الحرجة. كما أن الأستاذ علي موضوعي جداً حيث ينجح دائماً في عملية ضبط الأجواء السياسية عندما يعكرها الخطاب السياسي المنفلت (من بعض صقور المؤتمر الوطني). بالنسبة للدكتور غازي صلاح الدين فهو شخصية مطلوبة للمرحلة القادمة – في منصب أحد نواب الرئيس. فالدكتور غازي عقلاني قياساً بكثير من قيادات الإنقاذ الآخرين. ويتمتع بالحكمة وبُعد النظر، وهو أيضاً إسلامي معتدل. وعلى عكس الكثير من قيادات المؤتمر الذين يتذمرون من النقد – خاصة النقد الذاتي من داخل صف الإسلاميين - فهو يعتبِر أن الحكومة بها الكثير من السلبيات وأن المؤتمر الوطني يحتاج لإصلاح. فهو في الواقع يقود تياراً إصلاحياً؛ وأصبح الأقرب لشباب الحركة الإسلامية في التعبير عن طموحاتهم وفي عدم رضائهم بأداء الحركة الإسلامية في الحكم. وربما تحدث تحولات في الساحة السياسية قد لا يقوى المؤتمر على الصمود في وجهها بدون عملية جراحية في هياكله وكوادره وسلوكه السياسي. أما بالنسبة للدكتور علي الحاج: فهو ذكي وسياسي متمرس وقومي التوجه رغم انتمائه لإقليم الأزمات. وفي تعيينه في منصب أحد نائبي الرئيس سوف يحمل رمزية تمثيل إقليم دارفور المضطرب؛ وعلى الرغم من أنه سوف يتجه اتجاهاً قومياً في سلوكه السياسي إلا أنه في الواقع سوف يعزز اتجاه رفع الظلم عن المناطق الفقيرة والأقاليم المهمشة. لكن كل هذه القراءة تقوم على فرضية استمرار المؤتمر الوطني كحزب أقوى في الساحة. غير أن هذا لا ينفي احتمال حدوث تحولات سياسية كبيرة في الساحة السياسية قد تهدد "زعامة المؤتمر الوطني" كحزب مهيمن. ومن ذلك أن تعمل الحركة الشعبية - قطاع الشمال على تغيير اسمها وتسجيل حركتها كحزب سياسي وتخوض الانتخابات القادمة (الرئاسية والبرلمانية). ومن المرجح أن يتحالف قطاع الشمال مع قوى سياسية أخرى من النيل الأزرق وجنوب كردفان والحركات الدارفورية المسلحة التي وقّعت اتفاقيات مع الحكومة والتي ربما تتحول لأحزاب سياسية. وربما تتحالف كل هذه التشكيلات تحت مسمى سابق هو "الكلتة السوداء" (فهناك في التسعينات سيناريو بلايل/شدو و الشفيع/غازي)! وتطيح (انتخابياً) بالمؤتمر الوطني. دعونا نقولها بصراحة – وبعيداً عن العاطفة – ومع احترامنا لفترة البشير والإنجازات التي تمت في عهده (اتصالات، طرق، سدود، ونفط وغيرها) إلا أن حكمه لم يكن مثالياً حتى نطالب باستمراره. فقد شهد السودان في عهد الإنقاذ تدهوراً في أكبر مشروعاته وفي قيمه وأخلاقه واستقراره حيث تفجرت الأزمات في الشرق والغرب وفي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وتم تدمير المشروعات الناجحة والمؤسسات المتميزة مثل مشروع الجزيرة والخدمة المدنية والسكة حديد وجامعة الخرطوم؛ وتفاقمت القبلية والجهوية والعنصرية (والواسطة والمحسوبية) واستشرى الفساد، وديمقراطية (ناقصة) وفيدرالية (مشوهة)؛ هذا ناهيكم عن تدهور الاقتصاد وزيادة البطالة والفقر وتدهور المستوى النوعي للتعليم وتدهور الجنيه بنسبة أكثر من ألف في المئة (حيث أزالت الإنقاذ ثلاثة أصفار من العملة!!). إذن، السودان تحت قيادة البشير لم يكن على ما يُرام! لكن بصورة عامة – ولصالح الاستقرار في السودان – يجب أن تفكر كل الأطراف في تأسيس نظام سياسي مستقر يقوم على مؤسسات سياسية قوية، وممارسة ديمقراطية سليمة وفق دستور متفق عليه من كافة القوى السياسية (ويخضع لاستفتاء شعبي)، دولة سيادة القانون والعدالة، وعندها ليس مهم مَن يكون الرئيس.