طفل يحلم بالطب.. ويرفض تناول (الخبيشاء) محل (العلم)... معسكر السلام للنازحين... حكاية زيارة (حزينة) نيالا: محجوب حسون تحيط بمدينة نيالا بولاية جنوب دارفور أكثر من (7) معسكرات للنازحين منها (كلمة، عطاش، دريج، سكلي، السلام، الوالي، والسريف)، والتي ظل فيها ضحايا الحروب بدارفور لأكثر من (10) سنوات. وفي معسكر السلام جنوبنيالا، وعلى بعد حوالى (13) كيلو مترا يسكن (120) ألف نازح من مختلف الإثنيات بدارفور، بحسب مشايخ المعسكر، وهم نازحون بسطاء تبدو على وجوههم علامات الحيرة والحزن من ماضٍ فات ومستقبل مجهول في رحم الغيب. واتخذ المجرمون من معسكراتهم مأوى وملاذا يفرون إليه كلما طاردهم أصحاب الحقوق أو الأجهزة الأمنية، أو كلما غنموا من المدينة وأرادوا الابتعاد منها لتقسيم الغنيمة بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية. مشهد أول: ويشير مدير شرطة ولاية جنوب دارفور السابق اللواء طه جلال الدين، إلى أن المعسكرات التي تحيط بنيالا من أكبر المهددات الأمنية للمدينة، حيث يلجأ إليها المجرمون وتجار السلاح والمخدرات، وكلما أرادت الأجهزة الأمنية الدخول إليها بغرض البحث عن أي مجرم أو التفتيش، تتدخل المنظمات الأممية بالرفض، وتقول إن ذلك يتنافى مع جوهر العمل الإنساني، ومراعاة خصوصيات وحرمة النازحين. فيما يشير النازحون إلى أن وجودهم بالمعسكرات ظرف أمْلته الحرب التي فقدوا فيها الأنفس والممتلكات، وهم الآن فقراء حيارى لا يملكون من حطام الدنيا إلا الإيمان بالله وانتظار قيام الساعة، بعد أن ملوا انتظار تحقيق سلام حقيقي (على حد قولهم)، منوهين إلى أن الحسنة الوحيدة للنزوح هي تعليم أنفسهم وأبنائهم واختلاطهم بأهل المدينة والعالم الآخر، إلى جانب أن شدة الأزمة جعلت من النازحين في المعسكرات إخوة جمع بينهم الهم الواحد والمصير المشترك. الهروب من الجحيم: أثناء جولة (فلاشات) بمعسكر السلام للنازحين، لفت نظرنا الطفل الصادق يوسف ذو ال(12) عاما - صاحب كارو حمار - من معسكر السلام للنازحين، والذي جاء إلى المعسكر بعد أن نزحت أسرته المكونة من (8) أشخاص من منطقة (كداد) بمحلية شعيرية بولاية شرق دارفور، بعد الهجوم على قريتهم من مسلحين، ونوه إلى أنه كان يتذكر وقتها أنهم وفي أثناء الهجوم على منطقتهم فر الجميع وجاء والدهم إلى المنزل وأخذهم وهربوا إلى مسافات طويلة، ليس لهم شيء سوى ملابسهم التي على أجسامهم، و(باقة ماء)، لافتا إلى أنهم تركوا كل ما لديهم، حتى دكان والدهم في السوق لم يأخذوا منه شيئا قبل أن يصلوا إلى معسكر السلام. الخواجة بقى معاكس: الصادق هو تلميذ بمعسكر السلام، ولكنه الآن مسؤول عن الأسرة لجهة أن والده ذهب مع بقية إخوانه إلى الزراعة بعيدا عن المعسكر، وترك له الكارو ليقوم بواجب الأسرة، ولما سألته (السوداني) عن مسؤولياته التي ألقيت عليه وهو في هذا السن، رد بالقول: (أنا مابعرف بعمل أكل لكن أختي الصغيرة تعرف تعمل لينا أكل، وأنا بشتغل في الكارو كل جمعة وسبت أيام العطلات وبدخل في اليوم مابين (20) إلى (30) جنيه، وهذه المصاريف تكفينا أنا وأخواتي)، وأضاف مبتسماً: (الخواجة نقص الأكل (الغذاء) فأصبح يعطي كل أسرة ملوة إلا ربع للفرد الواحد في الشهر، ودي ما بتمسك ليها أسر وأطفال)، وأضاف في حيرة: (ماعارف الخواجة ده ليه بقي معاكس كده... هو ما عندو عيال ولا شنو؟)... وأشار إلى أنه يعمل والحمد لله حتى يوفر لقمة العيش له ولأخواته. اللعب ممنوع: (فلاشات) سألت الصادق عن حقه الطبيعي في اللعب كبقية الأطفال، فقال: (زمان في القرية كنا بنلعب بالتراب مع أولاد الحلة ولكن هسي في المعسكر زمني كلو إما في المدرسة أو الكارو... وحتى لما برجع للمعسكر بلقى نفسي تعبان وداير أنوم... لكن لما أمشي نيالا شايف الأولاد بلعبوا كورة... لكن أنا بحب أكون قاعد وأشاهد التلفزيون لأنو لو رجعت للمعسكر الكارو منتظرني).! خبيشاء مكان العلم: الصادق يؤكد أنه يعمل بكل همة، وله علاقات مع (ناس كتار)، يوصل لهم بضاعتهم فيما تدخل بعض ركاب الكارو بالقول: (ياولد إنت ما بتعمل (زغبير)؟)... فرد عليهم بالقول: (لا والله أنا ما بتاع زغبير)... وحينها سألناه عن (زغبير دا منو؟)... فرد على بالقول ضاحكاً: (زغبير يعني زول بعمل زوغات بالحاجات الشايلهم)، مبينا أنه يتعامل مع الزبائن بكل وضوح ولكن هناك من يعمل (زغبير ويشرب الخبيشاء محل العلم)... استوقفناه مرة أخرى ليفسر لنا العبارة السابقة، فقال بعد أن بدا عليه الاستياء: "العلم هو مكان في المعسكر يدل على محل الخمور البلدية يطلق عليها (الخبيشاء)"..!! دكتور صاح: الصادق يوسف يقول ل(فلاشات) إنه في المستقبل يريد أن يصبح (دكتور صاح).. فقلنا له بحيرة: (يعني في دكتور غلط ودكتور صاح؟)... فأجاب بسرعة: (آي...داير أكون دكتور زي بتاعين المدينة المرتاحين والبعالجوا الناس هناك).. !!!... الصادق يقول ل(فلاشات) إنه يقوم بزيارة أهله بحي الكنغو في نيالا في الأعياد مبيناً أنه إذا زارهم (لازم يبيت معاهم)، وذلك حتى يتمكن من مقابلة كل الأهل، ونسبة إلى انعدام المواصلات قبيل المغرب من نيالا إلى المعسكر. مشهد أخير: (فلاشات) واصلت جولتها داخل معسكر السلام بعد أن ودعت الصادق، ووجدت عدداً من الأطفال استقبلونا بحرارة، ومنهم الشاب أحمد الذي قال لنا: (نحن في النهار نذهب إلى المدرسة وبعد الدوام نتجه إلى أحد نوادي المعسكر الذي أنشأته المنظمات لنقضي الوقت ما بين الونسة ومشاهدة التلفزيون)، ويضيف بسرعة: (نحنا مابنقعد في ثكنات المعسكر كلو كلو)، وعن السبب يضيف: (القعاد في ثكنات المعسكر النسوان خلنو)..!!... أحمد يقول إن ارتياد الأندية هناك يسهم في التواصل مع الشباب والاطلاع على العالم وما يدور فيه، وأضاف أنهم في المعسكر أصبحوا أسرة واحدة يربطهم المصير الواحد، ويضيف: (يا اخوانا نحن خلاص والله نسينا القرية وناسها وما فضل لينا منها غير الذكريات الأليمة).